(الصفحة 283)
الثاني(1)، كما هو الظاهر; لأنّ دلالتها على إطلاق الحكم من حيث حال الضرورة وغيره أقوى من دلالتهما على الإطلاق، من حيث شموله للنوافل الذاتيّة المفروضة بالعرض، كما لا يخفى; لأنّ تقييدها بحال الضرورة في غاية البعد; لأنّ الظاهر أنّ عليّ بن جعفر كان عالماً بالفرق بين النافلة والفريضة; من حيث جواز الإتيان بالاُولى على الراحلة مطلقاً، وعدم جواز الإتيان بالثانية عليها إلاّ في حال الضرورة.
فسؤاله إنّما هو عن جواز الإتيان بالنافلة المنذورة على الراحلة في حال الاختيار; لأنّ من المعلوم أنّ ما صار فريضة بالعرض لا يزيد حكمه على المفروض بالذات، فإذا جاز الإتيان بالثاني في حال الضرورة على الراحلة فالإتيان بالأوّل عليها في حالها يكون جائزاً بطريق أولى، فما يتعلّق به الشك والتحيّر الموجب للسؤال إنّما هو ما ذكرنا من الإتيان بالفريضة بالعرض على الراحلة في حال الاختيار، فالرواية كالصريح في الجواز في حال الاختيار، فيجب تقييد الروايتين بها.
هذا، مضافاً إلى أنّ مورد الرواية هو ما كان المنذور نافلة دون الأعمّ منها ومن الفريضة، كما هو واضح. ومن المعلوم أنّ الوجوب الآتي من قبل النذر لا يغيّر المنذور عمّا هو عليه من الحكم، بل المنذور بعد تعلّق النذر به إنّما يصير ديناً لله على العبد يجب الوفاء به، ووجوب الوفاء بالشيء لا يغيّر حكمه، فإذا كانت صلاة الليل مثلا قبل تعلّق النذر بها ممّا يجوز الإتيان بها على الراحلة، فبعدما صارت ديناً على العبد ووجب عليه الإتيان بها لا يصير حكمها عدم جواز
- (1) مدارك الأحكام 3: 139; الحاشية على مدارك الأحكام 2: 334; جواهر الكلام 7: 672ـ675.
(الصفحة 284)
الإتيان بها على الدابّة وغيرها، كما هو المغروس في أذهان العرف.
ومضافاً إلى أنّ أخذ الفروض في الروايتين الأوّلتين متعلّقاً لعدم الجواز ليس من باب مدخليّة الفرضيّة في ذلك الحكم، بل التعبير بها للإشارة إلى العناوين المفروضة بالذات، كما لا يخفى.
ويؤيّد ما ذكرنا ـ من عدم جواز تقييد الأخيرة بحال الضرورة ـ ما دلّ على أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) صلّى صلاة الليل في غزوة تبوك على الراحلة(1)، مع أنّ مقتضى بعض الروايات أنّها كانت واجبة عليه(صلى الله عليه وآله)(2).
إن قلت: إنّه لا يدلّ على ما ذكر; لأنّها حكاية لفعله(صلى الله عليه وآله)، ومن المعلوم أنّ الفعل لا إطلاق له، فلعلّه(صلى الله عليه وآله) كان يصلّي تلك الصلاة على الراحلة للضرورة من مطر أو غيره.
قلت: إنّ الحاكي لفعله(صلى الله عليه وآله) هو الإمام(عليه السلام)، وغرضه من الحكاية مجرّد بيان الحكم، وحينئذ فلو كان قيد الضرورة دخيلا فيه، وكان فعله(صلى الله عليه وآله) في ذلك الحال، لوجب عليه البيان، وحيث لم يبيّن يعلم منه إطلاق الحكم، كما لا يخفى.
وممّا ذكرنا ظهر حكم الفرض الثاني، وهو الإتيان بالفريضة التي صارت مستحبّة بالعرض على الراحلة، وذلك لأنّك عرفت أنّ ما يدلّ على عدم جواز الإتيان بالفريضة على الراحلة لا دلالة فيها على حكم النافلة المنذورة; لأنّ أخذ الفريضة فيها للإشارة إلى الطبائع المفروضة بالأصل، والمفروض أنّ الصلاة المعادة جماعة بعد الإتيان بها فرادى تكون منها، فلا يجوز فعلها على الراحلة.
هذا تمام الكلام في القبلة.
- (1) قرب الإسناد: 16، ح51; وص115، ح402; وعنه وسائل الشيعة 4: 333، أبواب القبلة، ب15، ح20 و 21.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 242، ح959; وعنه وسائل الشيعة 4: 68، أبواب أعداد الفرائض، ب16، ح6.
(الصفحة 285)
المقدّمة الرابعة
في الستر والساتر
مسألة: لا إشكال ولا خلاف في شرطيّة الستر في الجملة في الصلاة، والكلام في الستر من جهتين:
الاُولى: في الوجوب النفسيّ الذي يتعلّق به مطلقاً في حال الصلاة وغيره.
الثانية: في شرطيّته للصلاة، ولا يخفى أنّ الكلام في الساتر إنّما هو من حيث الأحكام التي تتعلّق به، لا بما هو ساتر، بل من حيث لبس المصلّي له في حال الصلاة، وغالب هذه الأحكام راجعة إلى مانعيّة بعض الأوصاف الموجودة فيه، كما سيظهر إن شاء الله تعالى.
أمّا الكلام في الجهة الاُولى من الستر، فهو وإن كان غير مرتبط بالمقام، إلاّ أنّه لا بأس بذكر بعض ما يتعلّق به من الأحكام.
(الصفحة 286)
فاعلم أنّه يجب على النساء ستر ما عدا الوجه والكفّين بلا ريب ولا إشكال، ويحرم على الرجال النظر إلى ما عداهما أيضاً، إنّما الإشكال والخلاف في أنّه هل يجب عليهنّ ستر الوجه والكفّين كما هو المشهور بين الخاصّة والعامّة، أو لا؟ ومنشأ ذلك اختلاف ما ورد في تفسير قوله ـ تعالى ـ : (وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا)(1).
فعن عبدالله بن مسعود: أنّ المراد بالزينة الظاهرة التي لا يحرم إبداؤها هو الثياب(2)، ويؤيّده قوله ـ تعالى ـ في ذيل هذه الآية: (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ); أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليتبيّن خلخالها، فيعلم منه أنّ إبداء الزينة المخفيّة حرام.
وقوله ـ تعالى ـ : (يَـبَنِىءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد)(3); أي خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها عند إرادة الصلاة.
وقوله ـ تعالى ـ : (يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِّزْوَ جِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـبِيبِهِنَّ...)(4); أي قل لهؤلاء ليسترن وجههنّ بإرخاء الجلابيب; فإنّ الإدناء إذا تعدّيت بـ «على» يكون المراد منها جعل ما تتعلّق به قريباً من المدنى عليه، كما في قوله: «أدنى عليك ثوبك» إذا كان ثوبها بعيداً منها بحيث يظهر ماتحته، والجلباب شيء أكبر من الخمار.
وعن عبدالله بن عبّاس: أنّ المراد بالزينة الظاهرة هو الكحل، والخاتم،
- (1) سورة النور 24: 31.
- (2) مجمع البيان 7: 216; التفسير الكبير للفخر الرازي 8: 364.
- (3) سورة الأعراف 7: 31.
- (4) سورة الأحزاب 33: 59.
(الصفحة 287)
والخدّان، والخضاب في الكفّ(1).
وعن ثالث: أنّها الوجه والكفّان(2)، فباختلاف التفاسير اختلف المراد من الآية، فمن قال بعدم حرمة إظهار الوجه والكفّين إعتمد على الأخيرين، ومن قال بوجوب سترهما استند إلى الأوّل مع سائر ما يؤيّده من الآيات، كما عرفت.
ثمّ إنّ قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك: (وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)(3) لا يدلّ على وجوب ستر الوجه; لأنّ مقتضاه إنّما هو وجوب جعل طرفي الخمار على الجيب، وهو ضلع أعلى القميص ليستر ما ظهر من الصدر والعنق; لأنّ ما يتسترن به في زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله)إنّما هو القميص الذي لا يستر صدرهنّ وعنقهنّ; لكونهنّ يجعلن طرفي الخمار على ظهرهنّ على خلاف وضعه الطبيعي، ولهذه الجهة فقد يمكن أن يتوهّم أنّ ستر الصدر والعنق غير واجب; لأنّهما من المواضع الظاهرة، فلذا قال ـ تعالى ـ: إنّه يجب إرخاء الخمار على الجيب، وجعله بمقتضى وضعه الطبيعي ليسترهما.
وبالجملة: فيستفاد من هذه الجملة وجوب ستر الصدر والعنق، ولا يستفاد ستر الوجه أصلا; لأنّ جعل الخمار على الجيب لا يلازم ستر الوجه أصلا، كما هو واضح.
ثمّ إنّ ظاهر قوله ـ تعالى ـ : (وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وإن كان
- (1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) 18: 150، ح25962، 25964 و 25969; مجمع البيان 7: 216; الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 6: 166.
- (2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) 18: 150 و 151، ح25967 و 25975; السنن الكبرى للبيهقي 10: 251ـ252، ح13782 و 13783; التفسير الكبير للفخر الرازي 8: 364; الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 6: 166.
- (3) سورة النور 24: 31.