(الصفحة 316)
من غير فعل المنافي، وقد لا يكون كذلك، بل يتوقّف على فعل المنافي، وعلى التقديرين، فقد يكون الوقت متّسعاً بحيث يمكن مع قطع الصلاة تحصيل الستر وأداؤها معه ولو بركعة، وقد لا يكون كذلك، بل يكون قطع الصلاة وتحصيل الستر موجباً لخروج الوقت.
فإن لم يكن متمكّناً من الستر به بدون فعل المنافي، وكان الوقت ضيقاً بحيث لا يتمكّن مع قطع الصلاة من أدائها ولو بركعة، فلا إشكال في وجوب الإتمام عليه على نحو صلاة العاري ولا يجوز عليه قطعها، كما أنّه لو كان متمكّناً من الستر به من غير فعل المنافي، وكان الوقت ضيقاً، لا إشكال في أنّه يجب عليه الستر والإتيان بباقي الصلاة على نحو صلاة غير العاري من القيام والركوع والسجود، ولا دلالة للأخبار المتقدّمة الواردة في كيفيّة صلاة العاري على اختصاص تلك الكيفيّة بما إذا كان عارياً في جميع أحوال الصلاة، كما هو واضح.
وإن كان الوقت متّسعاً في هذه الصورة، وقلنا بأنّه يجوز له البدار بحمل ما ورد في التأخير على الاستحباب، فلا إشكال أيضاً في كفاية الإتيان بباقي أجزاء الصلاة مع الستر على نحو صلاة غير العاري من القيام والركوع والسجود، بناءً على ما عرفت من أنّ الستر له ماهيّة واحدة يتعلّق به الوجوب النفسي إذا كان معرضاً لنظر الغير والوجوب الشرطي للصلاة مطلقاً.
فكما أنّه يكفي في الأوّل ستر العورة بالطين أو بأجزاء البدن أو بغيرهما، فكذلك يكفي في الثاني سترها بكلّ ما هو ساتر لها; لأنّ متعلّق الوجوبين الستر بما هو ستر، ففي المقام لا يكون المصلّي مع فقدان الثوب وغيره فاقداً لجميع أنواع الساتر، بل هو مستور بأجزاء بدنه من الفخذين والأليتين.
(الصفحة 317)
وقد عرفت أنّ العدول من القيام إلى القعود ومن الركوع والسجود إلى الإيماء إنّما هو لمراعاة الستر; إذ لا يمكن حمل الأخبار الدالّة على ذلك على التعبّد كما لا يخفى، فمع كونه واجداً للستر الشرطي بالنسبة إلى الأجزاء المأتيّ بها، لا يكون وجه للقول ببطلان صلاته مع وجدان الثوب مثلا، فمعه يأتي ببقيّة الأجزاء مع الساتر وتصحّ صلاته.
والعدول في بعض الركعات من القيام إلى القعود ومن الركوع والسجود إلى الإيماء إنّما هو لمراعاة الأمر الاضطراري، وهو يرتفع مع الوجدان، فلم يتخلّل زمان يكون المصلّي فيه فاقداً لما هو شرط لها، فلم يبق وجه للحكم بالبطلان إلاّ القول بأنّ ظاهر الأدلّة الواردة في صلاة العاري هو كفاية الصلاة بتلك الكيفيّة المذكورة فيها إذا كان المصلّي عارياً من أوّل الصلاة إلى آخرها، ومن أوّل الوقت إلى آخرها، وقد عرفت منعه، وأنّ الظاهر هو الإطلاق، وممّا ذكرنا ظهر حكم ما بقي من الفروض، فتأمّل جيّداً.
الثالث: لو نسي المصلّي أن يستر عورته في الصلاة من أوّلها، أو كان ساتراً لها بثوبه أو غيره باعتقاده، ثمّ انكشف الخلاف في الأثناء وبنى على أن يسترها ثمّ نسي وأتمّ صلاته فانكشف الحال، أو انكشف الخلاف بعد الفراغ عنها، أو في الأثناء، ولكن بنى على سترها مع التمكّن منه بدون فعل المنافي، أو توقّفه عليه، ففي حكمه من حيث وجوب الإعادة وعدمه إشكال.
والتحقيق أن يقال: إنّه لا مجال فيما نحن فيه ونظائره ممّا لم يدلّ على الحكم دليل لفظيّ حتّى يتمسّك بعمومه للتشبّث بأصالة البراءة أو غيرها من الاُصول النافية للتكليف; إذ كما أنّه لا يجوز الرجوع إليها لنفي أصل التكليف الذي كان
(الصفحة 318)
ثبوته لأجل قيام السيرة المستمرّة عليه، وتوافق الفتاوى على ثبوته، كذلك لا يجوز الرجوع إليها لنفي بعض أفراده.
إذ لا فرق في نظر العقل الراجع إليه جميع الأدلّة الدالّة على اعتبار تلك الاُصول بين ما كان دليل الحكم لفظاً صادراً عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) والأئـمّة(عليهم السلام)واصلا إلينا بعين ألفاظه، وبين ما إذا كان لأجل كثرة الابتلاء به واشتهاره بين الناس بحيث لا يحتمل الخلاف، لم ينقله الرواة بعين ألفاظه حتّى يصل إلينا ذلك اللفظ الصادر منهم(عليهم السلام)، ففي كليهما لا يجوز عند العقل الرجوع إلى البراءة، ولا يحكم بعدم وجود البيان في البين.
فما اشتهر بينهم ـ من أنّ حجّية الدليل اللبّي كالإجماع وغيره ثابتة بالنسبة إلى القدر المتيقّن، وفي غيره يجوز التمسّك بالبراءة وغيرها ـ ممّا لا وجه له، بل نقول: إنّ عدم جواز الرجوع إلى البراءة في القسم الثاني أولى من القسم الأوّل; لأنّ الحكم فيه مقطوع به لأجل وضوحه عند المتشرّعة، وكون فتاوى العلماء منهم على طبقه بخلاف الأوّل، كما لا يخفى.
فالحجّة في الثاني أيضاً موجودة بالنسبة إلى جميع الأفراد والحالات من حيث العلم والجهل وغيرهما، وما نحن فيه من مسألة الستر وشرطيّته للصلاة يكون من هذا القبيل; إذ لم يدلّ دليل لفظيّ على أنّه شرط لها، وقد عرفت أنّ عدم وصوله إلينا إنّما هو لوضوحه عندهم من العوام والخواصّ.
ولذا ورد في الروايات السؤال عن بعض ما يتعلّق به من الفروع; مثل السؤال عن حكم من لا يكون له ساتر أصلا، ولم يقع في شيء منها السؤال عن أصل شرطيّة الستر، وحينئذ فلا يجوز الرجوع إلى البراءة إذا شككنا في أنّه شرط لها
(الصفحة 319)
مطلقاً، أو تختصّ شرطيّته بحال العلم والذكر، إلاّ إذا قام دليل على التخصيص ببعض الموارد، ففي غيره يجوز الرجوع إليها.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّه قد ادّعى بعض اختصاص شرطيّة الستر بغير صورة النسيان، واستدلّ عليه بحديث «لاتعاد»(1); إذ لا يكون الستر من الخمسة التي يقتضي الإخلال بها وجوب الإعادة، وبقوله(عليه السلام) في حديث الرفع: رفع عن اُمّتي تسعة... وما لا يعلمون ـ إلى قوله: ـ والخطأ والنسيان(2)، وبما رواه عليّ بن جعفر، عن أخيه(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل صلّى وفرجه خارج لا يعلم به، هل عليه إعادة أو ما حاله؟ قال(عليه السلام): لا إعادة عليه وقد تمّت صلاته(3)،(4). انتهى.
[ بحث حول حديث «لا تعاد...» ]
أقول: لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما يدلّ عليه حديث «لا تعاد» من المرام، لأجل الاختلاف بين الأعلام وإن كان قد اُشير إليه سابقاً لمناسبة المقام، فاعلم أنّه حكي عن بعض الأعاظم القول بعدم اختصاص مورد الحديث بما إذا نسي المصلّي بعض ما يعتبر في الصلاة، بل يعمّ صورة العمد مطلقاً ولو مع العلم(5)، وبعضهم اقتصر على شموله لغير صورة العلم(6).
- (1) الفقيه 1: 181، ح857; تهذيب الأحكام 2: 152، ح597; وعنهما وسائل الشيعة 4: 312، أبواب القبلة، ب9، ح1.
- (2) تقدّم في ص267.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 216، ح851; مستطرفات السرائر 97: ذ ح 15; وعنهما وسائل الشيعة 4: 404، أبواب لباس المصلّي، ب27، ح1.
- (4) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 42ـ44.
- (5) نهاية الأفكار 3: 434.
- (6) فوائد الاُصول 3: 238ـ239; كتاب الصلاة للمحقّق الحائري(رحمه الله): 46; درر الفوائد: 494ـ495.
(الصفحة 320)
والتحقيق أن يقال باختصاص مورده بغير صورة العمد مطلقاً; لأنّ الظاهر أنّه مسوق لبيان حكم من كان قاصداً لامتثال التكليف المتوجّه إليه، وكان ذلك داعياً له إلى الاتيان، ومن المعلوم أنّ مثل هذا الشخص لا يترك ما يعتبر في الصلاة من الأجزاء والشرائط عمداً، ولا يوجد ما كان وجوده مضرّاً بصحّة الصلاة اختياراً.
نعم، قد يعرض له بعض الطوارئ الخارجيّة والعوارض القهريّة، فيوجب فقدان بعض ما له دخل في صحّتها، أو وجدان بعض ما كان وجوده مضرّاً بها; فإنّ مثل هذا ينبغي أن يحكم عليه بوجوب الإعادة أو عدمه، وإلاّ فالمكلّف الذي يترك ما له دخل فيها عن عمد واختيار لا يكون في الحقيقة قاصداً للامتثال، مريداً لتحصيل المأمور به، ولا يكون الداعي له إلى الإتيان بذلك هو أمر المولى، فلا يناسبه الحكم بوجوب الإعادة، بل المناسب هو الحكم عليه بوجوب الإتيان بأصل الصلاة فيما كان تاركاً له مع العلم بكيفيّتها وأجزائها وشرائطها، والحكم بوجوب التعلّم والإتيان بما هو معتبر فيها فيما كان جاهلا.
نعم، الجاهل الذي لا يكون متردّداً في صحّة ما يأتي به ولا يحتمل الخلاف، لا يبعد الحكم بدخوله في مورد الحديث، فلا تجب الإعادة عليه في غير الخمسة المذكورة فيه، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون جاهلا بالحكم أو الموضوع.
هذا، وبعد ذلك يقع الكلام في شمول الحديث لما إذا أوجد بعض الموانع نسياناً أو جهلا بالمعنى الذي مرّ آنفاً، من جهة أنّ المستثنى منه في الحديث غير مذكور، ويكون الاستثناء مفرّغاً، فيحتمل اختصاصه بالإخلال بما يعتبر وجوده في الصلاة شرطاً أو شطراً، وعدم شموله لما إذا أوجد بعض الموانع، خصوصاً بعد