(الصفحة 326)
المتّفق عليه بين الإماميّة(1)، خلافاً للعامّة القائلين بجواز استعمالها والانتفاع بها في غير حال الصلاة، وبصحّة الصلاة معها فيما إذا كانت مدبوغة(2)، والأخبار المرويّة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) والأئـمّة(عليهم السلام)(3) ـ الدالّة على أنّ الميتة لا يجوز الانتفاع بها، وعلى بطلان الصلاة فيها مطلقاً ـ شاهدة على خلافه.
وحيث إنّ أصل الحكم ممّا قام عليه اتّفاق الإماميّة، ولم يعلم من أحد منهم الخلاف فيه، بل صرّح كلّهم ببطلان الصلاة فيها، فالتكلّم فيه بذكر الأخبار الواردة ممّا لا يحتاج إليه، ولكن يقع الكلام في أنّ مانعيّة جلد الميتة هل هي لنجاسته كما يظهر من بعض، أو لكونه مانعاً بعنوانه حتّى فيما إذا لم يكن نجساً، كما في ميتة غير ذي النفس؟
فعلى الأوّل: لا يكون مانعاً مستقلاًّ، بل داخل تحت عنوان النجس، بخلاف الثاني، ولا يبعد أن يقال بانصراف الأخبار المانعة عن الصلاة في جلد الميتة عن ميتة غير ذي النفس; لعدم تعارف استعمالها في الصلاة، وكذا ما يدلّ على عدم جواز الانتفاع بالميتة واستعمالها مطلقاً ولو في غير حال الصلاة; فإنّ شمولها لاستعمال ميتة غير ذي النفس والانتفاع بها أيضاً مشكل.
- (1) الخلاف 1: 60ـ62، مسألة 9; غنية النزوع: 66; المعتبر 2: 77; منتهى المطلب 4: 202; تذكرة الفقهاء 2: 463، مسألة 117; ذكرى الشيعة 1: 133ـ135; وج3: 28; جامع المقاصد 2: 80; روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 570; كشف اللثام 3: 200; الحدائق الناضرة 7: 50; مفتاح الكرامة 5: 456; جواهر الكلام 8: 81ـ83.
- (2) الاُمّ 1: 91; المجموع 1: 271; المغني لابن قدامة 1: 55; بداية المجتهد 1: 80; الخلاف 1: 60ـ62; تذكرة الفقهاء 2: 463ـ464; مسألة 117.
- (3) وسائل الشيعة 3: 489ـ494، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب49، و50; وج4: 343ـ347، أبواب لباس المصلّي، ب1 و 2.
(الصفحة 327)
مضافاً إلى أنّ الظاهر هو كونها مسوقة في مقام الردّ على العامّة القائلين
بطهارة جلد الميتة بالدباغ، وجواز الانتفاع به مطلقاً معه، كما يدلّ عليه التعبير بحرمة استعمالها ولو دبغ سبعين مرّة.
ومن المعلوم أنّ ما هو المتعارف فيه الدباغ من الجلود، غير جلد الميتة التي لانفس لها، فالحكم بشمولها له مشكل وإن كان الأحوط عدم جواز الانتفاع به مطلقاً وبطلان الصلاة معه.
مسألة: إذا شكّ في نجاسة جلد حيوان، أو حرمة لحمه وسائر أجزائه مع العلم بطهارته في حال حياته ـ وبحلّيته مع وقوع التذكية عليه ـ لأجل الشك في أنّه هل كان مذكّى أو ميتة؟ فالأصل الأوّلي مع قطع النظر عمّا هو حاكم عليه يقتضي النجاسة والحرمة; لأنّ الظاهر أنّ الميتة هي ما زهق روحه مع عدم وقوع التذكية عليه، فلا تكون الخصوصيّة المأخوذة فيها المائزة بينها، وبين المذكّى أمراً وجوديّاً، حتّى لا تثبت الحرمة والنجاسة إلاّ بعد إحرازه، كما أنّ إثبات الطهارة والحلّية موقوف على إحراز وقوع التذكية عليه.
فالميتة في نظر العرف هي الحيوان الذي زهق روحه مع عدم وقوع التذكية عليه; أي ما كان موته لا بسبب شرعيّ، فمع الشك في كونه مذكّى أو ميتة، يكون مقتضى الاستصحاب هو كونه ميتة، كما أنّ مقتضى أصالة العدم أيضاً ذلك، بناءً على أنّ اعتبارها إنّما هو لبناء العقلاء عليها في جميع الموارد التي شكّ فيها في وجود حادث، كما لا يبعد القول به، فمع الشك لا يجوز الانتفاع بها والصلاة في جلدها بمقتضى الأصل الأوّلي.
ولكنّ المقطوع به والضروريّ من الدين خلافه; للسيرة المستمرّة من زمان
(الصفحة 328)
النبيّ(صلى الله عليه وآله) والأئـمّة(عليهم السلام) من غير ردع منهم على الانتفاع بالجلود وأكل اللحوم من غير تفحّص وتتبّع عن أصل وقوع التذكية، أو عن صحّة التذكية الواقعة، فيستكشف من ذلك ثبوت دليل على الجواز، وحاكم على دليل المنع.
ثمّ لا يخفى أنّ التذكية عبارة عن مجرّد فري الأوداج الأربعة مع سائر الشرائط من الاستقبال والتسمية وغيرهما، ولا تكون أمراً اعتباريّاً واقعيّاً حاصلا بفري الأوداج وسائر الشرائط في بعض الحيوانات لخصوصيّة فيه، كما يظهر من بعض(1)، وذلك لعدم دلالة الأدلّة على أزيد ممّا ذكرنا، فإذا تحقّق جميع الشرائط المعتبرة تتحقّق التذكية، وليس مورد يشكّ في قابليّة حيوان للتذكية وعدمها.
نعم، يمكن الشك في أنّه إذا ذكّي هل يكون طاهراً أو لا؟ والمرجع حينئذ هو استصحاب الطهارة; إذ الموضوع لها في حال الحياة هو الجسم فقط لا مع تعلّق الروح به، فالموضوع باق في زمان الشك، وعلى فرض عدم الجريان يكون المرجع قاعدة الطهارة، وكذا إذا شكّ في أنّه بعد الذبح هل يكون حلالا أو حراماً؟ لأنّه يجب الرجوع إلى أصالة الإباحة. هذا في الشبهة الحكميّة.
وأمّا فيما نحن فيه من الشبهة الموضوعيّة، فقد عرفت أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هي الحرمة والنجاسة; لجريان استصحاب عدم التذكية، بناءً على ما هو الظاهر من أنّ الميتة في نظر العرف كلّ ما لم يذكّ; سواء مات حتف أنفه أو بالحديد، أو غيره مع عدم تحقّق شرائط التذكية، خلافاً لبعضهم، حيث خصّها بالأوّل، وسيأتي الكلام فيه.
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري(رحمه الله): 50; درر الفوائد له: 453ـ454.
(الصفحة 329)
هذا، مضافاً إلى ما يظهر من بعض الأخبار من الحكم بالحرمة فيما إذا رمى صيداً وأصابه، ولكن شكّ في أنّ موته هل كان لإصابة الرمي، أو لتحقّق سبب آخر من السقوط عن الجبل، أو الوقوع في الماء; إذ مع وجود سبب آخر مقتض للموت لاتنفع إصابة الرمي، فمع احتماله يكون مقتضى استصحاب عدم التذكية، الحرمة والنجاسة.
ثمّ إنّ صاحب المدارك وجمعاً ممّن تبعه ذهبوا إلى أنّ الحكم بالنجاسة في الجلد المطروح وترتيب آثارها عليه يتوقّف على العلم بها، أو الظنّ الحاصل من البيّنة لو سلّم عموم دليلها(1)، ويمكن أن يستدلّ على مذهبه بما يظهر من الأخبار الواردة في هذه المسألة، مثل:
صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال: اشتر وصلِّ فيها حتّى تعلم أنّه ميتة بعينه(2).
ومضمرة أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فرا لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة أيصلّي فيها؟ قال: نعم، ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر(عليه السلام) كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدين أوسع من ذلك(3).
ورواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن الرضا(عليه السلام) قال: سألته عن الخفاف
- (1) مدارك الأحكام 2: 387; مفاتيح الشرائع 1: 108; كشف اللثام 4: 417ـ420; وكذا ابن فهد في الموجز الحاوي (الرسائل العشر): 69.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 234، ح920; الكافي 3: 403، ح28; وعنهما وسائل الشيعة 3: 490، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب50، ح2.
- (3) الفقيه 1: 167، ح787; تهذيب الأحكام 2: 368، ح1529; وعنهما وسائل الشيعة 3: 491، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب50، ح3.
(الصفحة 330)
يأتي السوق فيشتري الخفّ لا يدري أذكيّ هو أم لا، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري أيصلّي فيه؟ قال: نعم، أنا أشتري الخفّ من السوق ويصنع لي وأُصلّي فيه وليس عليكم المسألة(1).
ورواية الحسن بن الجهم قال: قلت لأبي الحسن(عليه السلام): اعترض السوق فأشتري خفّاً لا أدري أذكيّ هو أم لا؟ قال: صلِّ فيه. قلت: فالنعل؟ قال: مثل ذلك، قلت: إنّي أضيق من هذا، قال(عليه السلام): أترغب عمّا كان أبو الحسن(عليه السلام)يفعله؟!(2).
والاستدلال بهذه الروايات المشتملة على ذكر السوق مبنيّ على أن يكون ذكر السوق فيها لبيان منشأ الشك في أنّه منتزع من المذكّى أو الميتة، لا لكونه أمارة على ثبوت التذكية.
ولو نوقش في الاستدلال بها من هذه الجهة ـ بتقريب أنّ سوق المسلمين أمارة شرعيّة على ثبوت التذكية، فيمكن أن يكون الحكم بالطهارة وجواز الصلاة فيه لأجل وجود هذه الأمارة، لا لأجل كفاية مجرّد عدم العلم بالنجاسة ـ يمكن الاستدلال له ببعض الأخبار الواردة في هذا الحكم، الدالّة بإطلاقها على ما إذا لم يكن في البين أمارة تدلّ على أنّه منتزع من المذكّى.
كرواية عليّ بن أبي حمزة أنّ رجلا سأل أبا عبدالله(عليه السلام) ـ وأنا عنده ـ عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه؟ قال: نعم، فقال الرجل: إنّ فيه الكيمخت، قال(عليه السلام): وما الكيمخت؟ قال: جلود دوابّ منه ما يكون ذكيّاً، ومنه ما يكون ميتة،
- (1) تهذيب الأحكام 2: 371، ح1545; قرب الإسناد: 385، ح1357; وعنهما وسائل الشيعة 3: 492، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب50، ح6.
- (2) الكافي 3: 404، ح31; تهذيب الأحكام 2: 234، ح921; وعنهما وسائل الشيعة 3: 493، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب50، ح9.