(الصفحة 335)
بـ «على». وأمّا إذا كان المراد منه هو غلبة أفراد المسلمين وأكثريّتهم، كما قاله الشهيد الثاني(قدس سره)(1)، فعدم المعارضة بينهما أوضح من أن يخفى.
وممّا يؤيّد ذلك; أي جواز الانتفاع بالجلد المشترى من المسلم ولو كان غير عارف، ما رواه أبو بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام) ـ في حديث ـ عن عليّ بن الحسين(عليهما السلام)أنّه كان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذاحضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك؟ فقال: إنّ أهل العراق يستحلّون لباس جلود الميتة، ويزعمون أنّ دباغه ذكاته(2).
فإنّ ظاهرها جواز الانتفاع بما يشترى ممّن يستحلّ لباس جلد الميتة ويعتقد طهارته بالدباغ، وعدم صلاته(عليه السلام)فيه لم يكن لعدم جواز الصلاة فيه، وإلاّ يلزم أن لا يجوز الانتفاع به في غير حال الصلاة أيضاً، بل لكراهتها فيه، ولكن لا يخفى أنّها لا تنهض للحجّية; لضعف سندها.
ومثلها في الدلالة على كراهة الصلاة في الجلد المشترى من المستحلّ، ما رواه الحلبي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: تكره الصلاة في الفراء إلاّ ما صنع في أرض الحجاز، أو ما علمت منه ذكاة(3).
والتخصيص بأرض الحجاز إنّما هو في مقابل أرض العراق; لأنّ أهله كانوا يقولون بتذكية جلد الميتة بالدباغ، كما عرفت في الرواية المتقدّمة.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الاعتبار بيد المسلم، أو بجريان يده عليه ولو كان البائع مشركاً، ولا فرق بين كونه عارفاً أو غيره. نعم، تكره الصلاة فيما
- (1) مسالك الأفهام 1: 285.
- (2) الكافي 3: 397، ح2; وعنه وسائل الشيعة 4: 462، أبواب لباس المصلّي، ب61، ح2.
- (3) الكافي 3: 398، ح4; وعنه وسائل الشيعة 4: 462، أبواب لباس المصلّي، ب61، ح1.
(الصفحة 336)
يشترى ممّن يستحلّ لباس جلد الميتة، ويزعم أنّ دباغه ذكاته للروايتين الأخيرتين.
ثمّ إنّك عرفت أنّه يستفاد من رواية الفضلاء الثلاثة ورواية إسماعيل بن عيسى المتقدّمتين(1)، اعتبار قول البائع عند السؤال عنه; لأنّ الظاهر أنّ المراد هو السؤال عنه لا عن غيره.
ويدلّ على ذلك أيضاً ما رواه محمّد بن الحسين الأشعري قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام): ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال(عليه السلام): إذا كان مضموناً فلا بأس(2); فإنّ الظاهر أنّ المراد بكونه مضموناً هو تعهّد البائع وإخباره بانتزاعه من الحيوان المذكّى، وعدم البأس معه يرجع إلى جواز الاعتماد على قوله، كما لا يخفى.
ويؤيده أيضاً بعض الروايات المتقدّمة(3)، كمضمرة أحمد بن محمّد بن أبي نصر، وروايته الاُخرى عن الرضا(عليه السلام)، وبعض ما يأتي في المسألة الآتية.
هذا، مضافاً إلى استقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على قول ذي اليد والأخذ به في الاُمور المتعلّقة بما في يده من الإقرار به لغيره وغيره، والظاهر أنّ الشارع لم يردع عنها، بل جرى على طبقها وحكم بجواز الأخذ والاعتماد على قول ذي اليد عند الإخبار بالتذكية، أو بالطهارة والنجاسة أو بغيرها، كما لا يخفى.
ثمّ إنّك عرفت(4) فيما تقدّم أنّ مقتضى الأصل الأوّلي في الجلد أو اللحم
- (1) في ص332ـ333.
- (2) الكافي 3: 398، ح7; وعنه وسائل الشيعة 4: 463، أبواب لباس المصلّي، ب61، ح3.
- (3) في ص329.
- (4) في ص328.
(الصفحة 337)
المشكوك هي الحرمة والنجاسة; لجريان استصحاب عدم التذكية; لأنّ الحلّية وكذا الطهارة معلّقة في الدليل على التذكية، فإذا اُحرز بالاستصحاب عدمها فلايترتّب عليه الآثار المترتّبة على وجودها، بل يترتّب عليه التحريم والنجاسة; لأنّ ظاهر الأدلّة والفتاوى عدم اختصاص موضوعهما بعنوان الميتة التي هي عبارة عن خصوص الحيوان الذي مات حتف أنفه، كما ربما يساعده العرف.
ويؤيّده قوله ـ تعالى ـ : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) الآية(1)، حيث جعلها مقابلة للمتردّية والنطيحة وغيرهما; وإن كان قد يترائى من بعض الأخبار المتقدّمة ـ ممّا يدلّ بظاهره على أنّ الحرمة موقوفة على العلم بكون الحيوان ميتة ـ عدم الواسطة بين المذكّى والميتة، كما أنّه ربما يستشعر ذلك من بعض الأخبار الواردة في مسألة صيد المحرم، حيث اُطلق فيه الميتة على الصيد الذي ذكّاه الُمحرم.
وبالجملة: فالظاهر أنّ الحيوان الذي مات بسبب خارجيّ غير التذكية الشرعيّة يلحق بالميتة حكماً وإن كان لحوقه بها موضوعاً محلّ تأمّل بل منع، فلايجوز الرجوع معه إلى أصالتي الحلّية والطهارة.
هذا، ويظهر من الفاضل التوني صاحب الوافية عدم جريان استصحاب عدم التذكية(2) خلافاً للمشهور(3); لأنّ عدم التذكية لازم أعمّ لموجب النجاسة; لأنّه لازم الأمرين: الحياة، والموت، والموجب للنجاسة هو ملزومه الثاني دون الأوّل، وهو ليس له حالة سابقة، والمعلوم ثبوته في الزمان الأوّل هو الأمر الأوّل، وهو
- (1) سورة المائدة 5: 3.
- (2) الوافية: 210.
- (3) الحدائق الناضرة 5: 526، فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 3: 197.
(الصفحة 338)
لا يكون باقياً في الزمان الثاني قطعاً.
والظاهر من بعض ـ كما ربما يؤيّده ذيل كلام هذا الفاضل ـ أنّ هذا الاستصحاب من أفراد القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي، وهو محلّ نظر; لأنّ عدم التذكية ليس أمراً متّحداً مع الحيوان في حالتي الحياة والموت، كالكلّي المتّحد مع أفراده، بل هو أمر عدميّ يقارن الحياة وقد يقارن الموت.
والقطع بانتفاء مقارنه في الزمان الثاني لا يوجب القطع بانتفاء عدم التذكية فيه; لأنّه عدم أزليّ مستمرّ مع الحيوان في الحالتين، وبعد الموت نشك في انقطاعه في حال زهوق الروح فيستصحب، بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسمين الأوّلين من استصحاب الكلّي، كان هذا الاستصحاب في ذلك الأمر العدمي خالياً عن الإشكال.
ثمّ إنّ الشيخ(رحمه الله) في رسالة الاستصحاب بعد نقله كلام الفاضل المتقدّم في ذيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي، والجواب عنه والاشكال عليه بما ذكرنا; من عدم كون المقام من مصاديق ذلك القسم، وأنّه يجري الاستصحاب هنا ولو لم نقل بجريان الاستصحاب في الكلّي أصلا قال ما ملخّصه:
إنّ الاستصحاب يجري في ذلك الأمر العدمي إذا لم يرد به إثبات الموجود المتأخّر المقارن له، نظير إثبات الموت حتف الأنف بعدم التذكية، وكذا إذا لم يرد به إثبات ارتباط الموجود المقارن له به، نظير إثبات كون هذا الدم الموجود ليس بحيض باستصحاب عدم صيرورة المرأة حائضاً، أو عدم رؤيتها دم الحيض حتّى يحكم عليه بالاستحاضة; لورود الدليل مثلا على أنّ «كلّ ما تقذفه المرأة من الدم
(الصفحة 339)
إذا لم يكن بحيض فهو استحاضة»(1).
وذلك; لأنّ اعتبار كون المرأة حائضاً يغاير اعتبار كون هذا الدم دم الحيض، وإن كانا متحصّلين في الواقع ونفس الأمر بتحقّق واحد، وكان منشأ اعتبارهما أمراً واحداً، وهو كون هذا الدم ممّا اقتضت طبيعة المرأة خروجه في كلّ شهر مثلا لقذف جدران الرحم له، إلاّ أنّ ذلك لا يضرّ بتغايرهما في عالم الاعتبار. وجريان الاستصحاب في الأوّل لوجود الحالة السابقة له، لا يثبت به الاعتبار الثاني مع عدم وجود تلك الحالة له، كما هو واضح.
هذا، ويظهر من حاشية بعض الأعاظم على هذا المقام من كلام الشيخ(قدس سره)، أنّ استصحاب عدم التذكية يكون من قبيل استصحاب عدم صيرورة المرأة حائضاً في عدم إثباته كون هذا اللحم غير مذكّى، حيث إنّه بعد استظهار أنّ الميتة في نظر الشارع والمتشرّعة هي ما كان فاقداً لشرائط التذكية، وأنّ الموضوع للحرمة والنجاسة هو ما عدا المذكّى قال: وكونه كذلك ـ أي كون هذا اللحم غير مذكّى ـ لا يثبت بأصالة عدم التذكية، كما أنّه لا يثبت بأصالة عدم صيرورة المرأة حائضاً، أو عدم رؤية دم الحيض، كون الدم المرئي متّصفاً بكونه ليس بحيض حتّى يحكم بأنّه استحاضة، كما سيوضّحه المصنّف(قدس سره).
ثم قال: فمقتضى القاعدة هو التفكيك بين الآثار، فما كان منها مترتّباً على عدم كون اللحم مذكّى ـ كعدم حلّيته، وعدم جواز الصلاة فيه، وعدم طهارته، وغير ذلك من الأحكام العدميّة المنتزعة عن الوجوديّات التي تكون التذكية شرطاً في ثبوتها ـ ترتّب عليه، فيقال: الأصل عدم تعلّق التذكية بهذا اللحم الذي
- (1) فرائد الاُصول 3: 201.