(الصفحة 369)
في الحقيقة، المتكثّرة في الوجود مع اعتبار الوحدة فيها باعتبار ترتّب حكم واحد عليها، وكونها معنونة بعنوان حسن، بخلاف المركّبات الحقيقيّة.
وحينئذ فإذا تعلّق أمر واحد بتلك الأشياء المتغايرة من حيث الوجود فقدتعلّق بكلّ واحد منها بعض ذلك الأمر الواحد، وحينئذ فإذا شكّ في متعلّقه من حيث القلّة والكثرة، فقد شكّ بعد العلم بتعلّق أبعاضه المعلومة إلى الأجزاء المعلومة في تعلّق بعضه بالجزء المشكوك، فيحكم العقل بالبراءة وعدم تنجّز ذلك الأمر بالنسبة إلى البعض المشكوك على تقدير تعلّقه بالأكثر واقعاً، ولا ينافي ذلك تنجّزه بالنسبة إلى أبعاضه المعلومة.
والحاصل أنّ لذلك الأمر مخالفتين:
أحدهما: مخالفته بالنسبة إلى الأبعاض المعلومة، وتتحقّق بترك الأقلّ المعلوم جزئيّته.
ثانيهما: مخالفته بالنسبة إلى بعضه المشكوك على تقدير كونه متعلّقاً بالأكثر في الواقع، وتتحقّق بترك الجزء المشكوك فقط، وصحّة العقوبة واستحقاقها إنّما يترتّب على الاُولى دون الثانية; لعدم تنجّزه بالنسبة إلى البعض المشكوك على ذلك التقدير، كما عرفت.
ثمّ لا يخفى أنّه لا منافاة بين كون الأمر واحداً حقيقةً، وكونه ذا أبعاض كثيرة; إذ هو نظير بعض الاُمور الخارجيّة، الذي يكون واحداً حقيقة مع كونه ذا أبعاض كثيرة، كالماء الواقع في الحوض مثلا; فإنّه مع كونه واحداً لمساوقة الاتّصال مع الوحدة على ما قرّر في محلّه(1)، يعدّ له أبعاض، بل قد يكون بعضه معروضاً
- (1) الشفاء (الإلهيّات): 98ـ99; الحكمة المتعالية 2: 95ـ97; موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم 2: 1774; كفاية الاُصول: 463; حقائق الاُصول 2: 454.
(الصفحة 370)
لعرض كالحمرة، والبعض الآخر معروضاً لضدّ ذلك العرض كالصفرة مثلا، فلا منافاة بينهما أصلا.
هذا كلّه فيما إذا كان منشأ الشك في وجوب الأكثر عدم النصّ، أو اجماله، أو تعارض النصّين. وأمّا إذا كان منشؤه اشتباه الاُمور الخارجيّة كما في مثل المقام، فالحكم ـ كما مرّ في الشبهات الموضوعيّة ـ في التكاليف المستقلّة.
هذا، ولا يخفى أنّه لو قلنا بجريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة مطلقاً في التكاليف المستقلّة والضمنيّة كلتيهما، فلا يستلزم ذلك أيضاً القول بالصحّة في أمثال المسألة ممّا يرجع الشك فيه إلى الشك في المحصّل، كما توهّمه بعض من تلامذة المحقّق الشيرازي(قدس سره)، حيث اعترض على الشيخ(قدس سره)(1) بأنّه لا وجه للحكم بالبطلان في المقام، كما في الرسالة التي صنّفها في هذا الباب(2)، بعد القول بجريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة في التكاليف المستقلّة، كما تقدّم نقل كلامه(3)، وبجريانها فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، كما تقدّم نقل مرامه(4).
وذلك ـ أي وجه عدم الاستلزام وبطلان التوهّم، وعدم ورود الاعتراض عليه ـ أنّ ظاهر الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء الحيوان الذي لا يحلّ أكل لحمه ولا شرب لبنه، أنّ المعتبر في انطباق عنوان الصلاة على الأفعال والأقوال المأتيّ بها بترقّب أنّها صلاة، أن لا تكون الصلاة واقعة في شيء من أجزاء كلّ فرد
- (1) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 319 و 352ـ353.
- (2) رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 261ـ272; فوائد الاُصول 4: 165ـ181.
- (3) أي كلام الشيخ في ص359.
- (4) أي كلام الشيخ أيضاً في ص368.
(الصفحة 371)
من أفراد ما لا يؤكل لحمه.
وبعبارة اُخرى: المعتبر هو عدم تحقّق هذه الطبيعة المتوقّف على عدم وجود شيء من أفراده، وينتزع منه مانعيّة كلّ فرد لا بنحو يكون كلّ فرد مانعاً مستقلاًّ حتّى يلازم ذلك كون القيد هو عدمه بنحو الاستقلال، فكانت هناك قيود متعدّدة حسب تعدّد الوجودات المانعة، بل بمعنى أنّه حيث كان القيد هو عدم تحقّق الطبيعة، فوجودها مانع عنه.
ومن المعلوم أنّ تحقّق الطبيعة إنّما يكون بوجود كلّ فرد منها، فمانعيّة وبر الأرانب إنّما هي لتحقّق الطبيعة به، وكذا مانعيّة وبر الثعالب وغيره ممّا لا يؤكل لحمه، وهذا بخلاف عدم الطبيعة; إذ هو ليس شيئاً حتى يكون له مصاديق وأفراد، بل هو أمر واحد باعتبار من العقل بعد إضافته إلى طبيعة خاصّة، فظهر أنّ المعتبر في الصلاة شيء واحد وأمر فارد، وهو عدم وقوعها في أجزاء ما لا يؤكل لحمه. غاية الأمر أنّه تنتزع منه مانعيّة وجود أفراد تلك الطبيعة بنحو عرفت.
وحينئذ، فإن قلنا بما يظهر من المحقّق الخراساني في الكفاية(1)، وفي مجلس بحثه على ما حكاه سيّدنا الاُستاذ دام ظلّه، من أنّ الشرائط الشرعيّة راجعة إلى الشرائط العقليّة; بمعنى أنّ توقّف المشروط على حصولها وعدم تحقّقه بدونها كان أمراً واقعيّاً كشف عنه الشارع، فالواجب حينئذ الرجوع إلى الاحتياط بلاإشكال; لأنّ الشرط والقيد أمر واحد على ما عرفت، ولا يعلم بتحقّقه مع وقوع الصلاة في اللباس المشكوك، فلا يعلم بحصول المشروط، والمفروض وجوب العلم بتحقّقه كما هو مقتضى قاعدة الاشتغال.
(الصفحة 372)
وأمّا لو قلنا بما يظهر من بعض الأعلام(1) من أنّ الشرطيّة إنّما تنتزع من تقييد المأمور به بوجود الشرائط، والمانعيّة تنتزع من تقيّده بعدم الموانع، والتقيّد بوجود الشرائط وبعدم الموانع يكون من أجزاء المأمور به كسائر الأجزاء، فالأمر أيضاً كذلك; لأنّه بناءً عليه أيضاً يكون القيد مبيّناً مفهوماً يجب العلم بتحقّقه، ويتوقّف ذلك على العلم بوجود الشرائط وفقدان الموانع.
وبالجملة: لا فرق بعد كون القيد أمراً واحداً مبيّناً في وجوب العلم بتحقّقه بين المذهبين، كما عرفت.
وممّا ذكرنا من وحدة القيد ينقدح فساد ما يظهر من كلام بعض الأعلام(2)، حيث إنّه(قدس سره) بعد ذهابه إلى جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة في التكاليف المستقلّة بنحو عرفت منه، صار بصدد بيان عدم الفرق بينها وبين المقام، حيث إنّه بعد بيان أنّ قيديّة العدم فيما نحن فيه تتصوّر على وجوه ثلاثة:
أحدها: أن يكون القيد نعتاً عدميّاً مساوقاً لمحمول المعدولة.
ثانيها: أن يكون من باب السلب المحصّل، وعلى هذا التقدير يمكن أن يكون نفس السلب الكلّي قيداً واحداً، ويمكن أن يكون منحلاًّ إلى عدم وجود كلّ فرد، وكان القيد آحاد ذلك العدم. قال بعد القول بظهور الأدلّة في الوجه الثالث ما ملخّصه:
إنّه أيّ فرق يعقل بين موضوعيّة الخمر لحرمة شربه، وموضوعيّة المانع لتقيّد الصلاة بعدم وقوعها فيه، فكما تجري البراءة في الأوّل على ما عرفت، لا ينبغي الإشكال في جريانها في الثاني.
- (1) كتاب الصلاة تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 158; فوائد الاُصول 4: 392ـ393.
- (2) رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 268ـ271.
(الصفحة 373)
وذلك ـ أي وجه الفساد ـ ما عرفت من أنّ ظاهر الأدلّة المانعة أنّ الصلاة في كلّ جزء من أجزاء كلّ ما لا يؤكل لحمه فاسدة، وينتزع منه أنّ المطلوب للشارع هو عدم وقوع الصلاة فيها، ومن المعلوم أنّ العدم أمر واحد عند اعتبار العقل ليس له أفراد، بخلاف وجود الطبيعة; إذ هي توجد بوجود فرد مّا، ولا تنعدم إلاّ بعدم جميع الأفراد، فمعنى كون وجود الطبيعة مانعاً; هو مانعيّة كلّ فرد يوجد منها في الخارج، وهو لا ينافي مع كون القيد أمراً واحداً.
ومن هنا يظهر أنّ ما ذكرنا من وحدة القيد لا يستلزم القول بعدم مانعيّة شيء من الوجودات إذا اضطرّ المصلّي إلى واحد منها; لأنّك عرفت أنّ كلّ وجود مانع من صحّة الصلاة، فإذا اضطرّ إلى أحد الوجودات ـ كأن اضطرّ إلى الصلاة في اللباس المتّخذ من وبر الأرانب مثلا ـ فلا يجوز له أن يلبس زائداً على ما اضطرّ إليه، ولا ينافي ذلك وحدة القيد كما عرفت.
ثمّ لا يخفى أنّ عبارته(قدس سره) في مقام بيان الوجه الثاني من الوجوه المتصوّرة ثبوتاً في قيديّة العدم في المقام، لا يخلو عن اضطراب، بحيث ربما يوهم الخلاف، حيث قال: ويمكن أن يكون نفس السلب الكلّي بوحدته الشاملة لمجموع وجودات الموضوع قيداً واحداً إلخ(1)، حيث إنّ ظاهره أنّ المانع هو مجموع وجودات الموضوع لا كلّ فرد منها، فيستلزم عدم تحقّق المانع في زمان أصلا، وكذا القول بصحّة الصلاة فيما إذا صلّى في بعض أفراده، كما لا يخفى.
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه لو سلّم جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة في التكاليف المستقلّة، وفي التكاليف الضمنيّة، فلا نسلّم جريانها
- (1) رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 268ـ272.