(الصفحة 373)
وذلك ـ أي وجه الفساد ـ ما عرفت من أنّ ظاهر الأدلّة المانعة أنّ الصلاة في كلّ جزء من أجزاء كلّ ما لا يؤكل لحمه فاسدة، وينتزع منه أنّ المطلوب للشارع هو عدم وقوع الصلاة فيها، ومن المعلوم أنّ العدم أمر واحد عند اعتبار العقل ليس له أفراد، بخلاف وجود الطبيعة; إذ هي توجد بوجود فرد مّا، ولا تنعدم إلاّ بعدم جميع الأفراد، فمعنى كون وجود الطبيعة مانعاً; هو مانعيّة كلّ فرد يوجد منها في الخارج، وهو لا ينافي مع كون القيد أمراً واحداً.
ومن هنا يظهر أنّ ما ذكرنا من وحدة القيد لا يستلزم القول بعدم مانعيّة شيء من الوجودات إذا اضطرّ المصلّي إلى واحد منها; لأنّك عرفت أنّ كلّ وجود مانع من صحّة الصلاة، فإذا اضطرّ إلى أحد الوجودات ـ كأن اضطرّ إلى الصلاة في اللباس المتّخذ من وبر الأرانب مثلا ـ فلا يجوز له أن يلبس زائداً على ما اضطرّ إليه، ولا ينافي ذلك وحدة القيد كما عرفت.
ثمّ لا يخفى أنّ عبارته(قدس سره) في مقام بيان الوجه الثاني من الوجوه المتصوّرة ثبوتاً في قيديّة العدم في المقام، لا يخلو عن اضطراب، بحيث ربما يوهم الخلاف، حيث قال: ويمكن أن يكون نفس السلب الكلّي بوحدته الشاملة لمجموع وجودات الموضوع قيداً واحداً إلخ(1)، حيث إنّ ظاهره أنّ المانع هو مجموع وجودات الموضوع لا كلّ فرد منها، فيستلزم عدم تحقّق المانع في زمان أصلا، وكذا القول بصحّة الصلاة فيما إذا صلّى في بعض أفراده، كما لا يخفى.
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه لو سلّم جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة في التكاليف المستقلّة، وفي التكاليف الضمنيّة، فلا نسلّم جريانها
- (1) رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 268ـ272.
(الصفحة 374)
في مثل المقام ممّا لا يكون الشك في قيديّة أمر زائد، بل في حصول القيد الذي كان مفهومه مبيّناً على ما عرفت تحقيقه، والمرجع فيه وجوب الاحتياط من غير خلاف.
هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالتمسّك بالبراءة العقليّة لصحّة الصلاة في الألبسة المشكوكة، وقد عرفت عدم تماميّتها.
[ الاستدلال بالأخبار الدالّة على الاُصول الشرعيّة ]
وقد استدلّ لها أيضاً بالأخبار الدالّة على الاُصول الشرعيّة:
منها: حديث الرفع(1)، وتقريب الاستدلال به من وجوه:
أحدها: ما احتمله الشيخ في الرسالة(2); من أنّ قرينة السياق تقتضي أن يكون الموصول في قوله(صلى الله عليه وآله): «رفع ما لا يعلمون» إشارة إلى الموضوعات الخارجيّة المجهولة بعناوينها التي تكون بها موضوعات للأحكام
ومتعلّقات لها.
وحينئذ فيختصّ الحديث بالشبهات الموضوعيّة، ولا يعمّ الشبهات الحكمية، فكلّ موضوع كان عنوانه المتعلّق للحكم مجهولا، فهو مرفوع، وإسناد الرفع إليه مع ظهور قوله(صلى الله عليه وآله): «رفع عن اُمّتي» في الرفع التشريعي، وعدم معقوليّة إسناده إلى الموضوعات الخارجيّة إنّما هو باعتبار الأثر المترتّب عليه، المرفوع في صورة الجهل.
- (1) تقدّم في ص267.
- (2) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 27ـ29.
(الصفحة 375)
وفي المقام نقول: مانعيّة هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء غير المأكول، مرفوعة بلسان رفع موضوعها وهو اللباس، فتصحّ الصلاة فيه لعدم كونه مانعاً ومبطلا لها.
ثانيها: تعميم الموصول للشبهات الحكميّة كما اخترناه وحقّقناه في الاُصول(1); لأنّ الموصولات موضوعة للإشارة إلى جميع ما تثبت له الصلة، كأسماء الإشارة والضمائر، فكلّ شيء كان مجهولا بنفسه، أو بعنوانه الموضوع للحكم فهو مرفوع برفع نفسه أو برفع آثاره وأحكامه، فباعتبار شمول الموصول للشبهات الموضوعيّة يصحّ الاستدلال بالحديث، لرفع المانعيّة في المسألة بالتقريب المتقدّم في الوجه الأوّل.
ثالثها: القول باختصاص الموصول بما إذا كان الحكم مجهولا، وتعميم الحكم للأحكام الكلّية المجهولة في الشبهات الحكميّة، وللأحكام الجزئيّة المجهولة في الشبهات الموضوعيّة، فيصحّ الاستدلال به لرفع الحكم الجزئيّ المجهول في المقام; وهي مانعيّة هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، أو من غيره من الموانع.
هذا، ويمكن أن يقال بأنّ الظاهر من الحديث عرفاً هو رفع التكاليف المجهولة التي توجب تضييقاً على المكلّف إذا علم بها، لا رفع الأحكام الجزئيّة أو الموضوعات التي يرجع رفعها إلى رفع أحكامها بعد العلم بأصل الحكم الكلّي الذي صدر من الشارع.
وبعبارة اُخرى: إنّ المكلّف بعدما علم بحرمة الخمر الواقعي، المقتضي
(الصفحة 376)
لوجوب الاجتناب عن الأفراد المعلومة، وكذا المشكوكة، بناءً على ما بيّناه سابقاً(1) من عدم جريان البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة، فقد علم بما يوجب التضييق عليه.
فإذا فرض أنّ الشارع جوّز له الاقتحام في الأفراد المشكوكة، فلابدّ أن يبيّن ذلك بدليل يكون كالحاكم على دليل حرمة شرب الخمر الواقعي، نظير الأدلّة الدالّة على حلّية كلّ شيء فيه حلال وحرام إلى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه(2)، وما يدلّ على طهارة المياه(3)، أو جميع الأشياء إلى أن يعلم أنّها قذر أو نجس(4)، وغيرهما ممّا يكون دالاًّ على جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعيّة، وحيث لم يبيّن ذلك بمثل ما ذكر، فلا يمكن رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل على التحريم الظاهر في حرمة الفعل بعنوانه الواقعي.
وبالجملة: فلم يثبت ظهور حديث الرفع في رفع الأحكام الجزئيّة المشكوكة في الشبهات الموضوعيّة، فلا يجوز الاستدلال به.
ومنها: الاستصحاب; فإنّ استصحاب عدم كون المصلّي لابساً لما يكون وجوده مانعاً وعدمه قيداً في صحّة الصلاة يقتضي الحكم بصحّتها; لأنّه لا يشترط في الاستصحاب أزيد من أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو ذا أثر شرعيّ،
- (1) في ص366.
- (2) وهي رواية عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله(عليه السلام)، الكافي 5: 313، ح39; الفقيه 3: 216، ح1002; تهذيب الأحكام 9: 79، ح337; وج7: 226، ح988; مستطرفات السرائر: 84، ح27; وعنها وسائل الشيعة 17: 88; كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح1; وج24: 236، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، ب64، ح2.
- (3) وسائل الشيعة 1: 133ـ135، أبواب الماء المطلق، ب1.
- (4) تهذيب الأحكام 1: 284، ح832; وعنه وسائل الشيعة 3: 467، أبواب النجاسات، ب37، ح4.
(الصفحة 377)
ولا فرق بين أن يكون موضوعاً لذلك الأثر مستقلاًّ، أو جزءاً لموضوعه، أو دخيلا فيه وجوداً أو عدماً، فباستصحاب عدم كونه لابساً لما يكون وجوده مانعاً، يثبت عدم كونه لابساً لأجزاء غير المأكول، فتتمّ الصلاة فيه بعد إحراز سائر الشرائط والأجزاء وفقد الموانع بالوجدان، أو بقيام البيّنة، أو بجريان الأصل.
هذا، ولا يخفى أنّ التمسّك بالاستصحاب إنّما يتمّ بناءً على أن يكون ما اعتبر شرعاً عدمه في الصلاة، هو كون المصلّي لابساً لأجزاء غير المأكول.
وبعبارة اُخرى: كان المانع هو الذي اعتبر وصفاً وحالة للمصلّي، وهو خلاف ظاهر الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول; لأنّها تدلّ على أنّ الصلاة فيها فاسدة، كما في موثّقة ابن بكير المتقدّمة(1)، أو على النهي عن الصلاة فيها، فالمانع هو وقوعها في أجزاء غير المأكول، وهو لا يكون لعدمه حالة سابقة، وكذا لا يتمّ أيضاً بناءً على اعتبار المانع وصفاً وحالة للباس; لعدم وجود الحالة السابقة له أيضاً.
نعم، يجري الاستصحاب بناءً عليه ـ أي على الوجه الأخير ـ في بعض فروض المسألة، كما إذا شكّ في تلطّخ لباسه غير المشكوك بأجزاء غير المأكول ومصاحبته معها، بناءً على بطلان الصلاة في صورة التلطّخ بها، كما قوّيناه سابقاً; فإنّه يجري حينئذ استصحاب عدم التلطّخ وعدم المصاحبة، كما لا يخفى.
إن قلت: لا مانع من جريان الاستصحاب بناءً على الوجه الثاني; وهو اعتبار المانع وصفاً للصلاة; لوجود الحالة السابقة للمستصحب، بتقريب أن يقال: إنّ الصلاة حين ما لم توجد لم تكن في أجزاء غير المأكول، فهذه القضيّة السالبة