(الصفحة 375)
وفي المقام نقول: مانعيّة هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء غير المأكول، مرفوعة بلسان رفع موضوعها وهو اللباس، فتصحّ الصلاة فيه لعدم كونه مانعاً ومبطلا لها.
ثانيها: تعميم الموصول للشبهات الحكميّة كما اخترناه وحقّقناه في الاُصول(1); لأنّ الموصولات موضوعة للإشارة إلى جميع ما تثبت له الصلة، كأسماء الإشارة والضمائر، فكلّ شيء كان مجهولا بنفسه، أو بعنوانه الموضوع للحكم فهو مرفوع برفع نفسه أو برفع آثاره وأحكامه، فباعتبار شمول الموصول للشبهات الموضوعيّة يصحّ الاستدلال بالحديث، لرفع المانعيّة في المسألة بالتقريب المتقدّم في الوجه الأوّل.
ثالثها: القول باختصاص الموصول بما إذا كان الحكم مجهولا، وتعميم الحكم للأحكام الكلّية المجهولة في الشبهات الحكميّة، وللأحكام الجزئيّة المجهولة في الشبهات الموضوعيّة، فيصحّ الاستدلال به لرفع الحكم الجزئيّ المجهول في المقام; وهي مانعيّة هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، أو من غيره من الموانع.
هذا، ويمكن أن يقال بأنّ الظاهر من الحديث عرفاً هو رفع التكاليف المجهولة التي توجب تضييقاً على المكلّف إذا علم بها، لا رفع الأحكام الجزئيّة أو الموضوعات التي يرجع رفعها إلى رفع أحكامها بعد العلم بأصل الحكم الكلّي الذي صدر من الشارع.
وبعبارة اُخرى: إنّ المكلّف بعدما علم بحرمة الخمر الواقعي، المقتضي
(الصفحة 376)
لوجوب الاجتناب عن الأفراد المعلومة، وكذا المشكوكة، بناءً على ما بيّناه سابقاً(1) من عدم جريان البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة، فقد علم بما يوجب التضييق عليه.
فإذا فرض أنّ الشارع جوّز له الاقتحام في الأفراد المشكوكة، فلابدّ أن يبيّن ذلك بدليل يكون كالحاكم على دليل حرمة شرب الخمر الواقعي، نظير الأدلّة الدالّة على حلّية كلّ شيء فيه حلال وحرام إلى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه(2)، وما يدلّ على طهارة المياه(3)، أو جميع الأشياء إلى أن يعلم أنّها قذر أو نجس(4)، وغيرهما ممّا يكون دالاًّ على جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعيّة، وحيث لم يبيّن ذلك بمثل ما ذكر، فلا يمكن رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل على التحريم الظاهر في حرمة الفعل بعنوانه الواقعي.
وبالجملة: فلم يثبت ظهور حديث الرفع في رفع الأحكام الجزئيّة المشكوكة في الشبهات الموضوعيّة، فلا يجوز الاستدلال به.
ومنها: الاستصحاب; فإنّ استصحاب عدم كون المصلّي لابساً لما يكون وجوده مانعاً وعدمه قيداً في صحّة الصلاة يقتضي الحكم بصحّتها; لأنّه لا يشترط في الاستصحاب أزيد من أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو ذا أثر شرعيّ،
- (1) في ص366.
- (2) وهي رواية عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله(عليه السلام)، الكافي 5: 313، ح39; الفقيه 3: 216، ح1002; تهذيب الأحكام 9: 79، ح337; وج7: 226، ح988; مستطرفات السرائر: 84، ح27; وعنها وسائل الشيعة 17: 88; كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح1; وج24: 236، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، ب64، ح2.
- (3) وسائل الشيعة 1: 133ـ135، أبواب الماء المطلق، ب1.
- (4) تهذيب الأحكام 1: 284، ح832; وعنه وسائل الشيعة 3: 467، أبواب النجاسات، ب37، ح4.
(الصفحة 377)
ولا فرق بين أن يكون موضوعاً لذلك الأثر مستقلاًّ، أو جزءاً لموضوعه، أو دخيلا فيه وجوداً أو عدماً، فباستصحاب عدم كونه لابساً لما يكون وجوده مانعاً، يثبت عدم كونه لابساً لأجزاء غير المأكول، فتتمّ الصلاة فيه بعد إحراز سائر الشرائط والأجزاء وفقد الموانع بالوجدان، أو بقيام البيّنة، أو بجريان الأصل.
هذا، ولا يخفى أنّ التمسّك بالاستصحاب إنّما يتمّ بناءً على أن يكون ما اعتبر شرعاً عدمه في الصلاة، هو كون المصلّي لابساً لأجزاء غير المأكول.
وبعبارة اُخرى: كان المانع هو الذي اعتبر وصفاً وحالة للمصلّي، وهو خلاف ظاهر الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول; لأنّها تدلّ على أنّ الصلاة فيها فاسدة، كما في موثّقة ابن بكير المتقدّمة(1)، أو على النهي عن الصلاة فيها، فالمانع هو وقوعها في أجزاء غير المأكول، وهو لا يكون لعدمه حالة سابقة، وكذا لا يتمّ أيضاً بناءً على اعتبار المانع وصفاً وحالة للباس; لعدم وجود الحالة السابقة له أيضاً.
نعم، يجري الاستصحاب بناءً عليه ـ أي على الوجه الأخير ـ في بعض فروض المسألة، كما إذا شكّ في تلطّخ لباسه غير المشكوك بأجزاء غير المأكول ومصاحبته معها، بناءً على بطلان الصلاة في صورة التلطّخ بها، كما قوّيناه سابقاً; فإنّه يجري حينئذ استصحاب عدم التلطّخ وعدم المصاحبة، كما لا يخفى.
إن قلت: لا مانع من جريان الاستصحاب بناءً على الوجه الثاني; وهو اعتبار المانع وصفاً للصلاة; لوجود الحالة السابقة للمستصحب، بتقريب أن يقال: إنّ الصلاة حين ما لم توجد لم تكن في أجزاء غير المأكول، فهذه القضيّة السالبة
(الصفحة 378)
بانتفاء الموضوع المستلزم لانتفاء المحمول كانت متيقّنة قد شك في بقائها بعد تحقّق الموضوع، فتستصحب.
قلت: الظاهر عدم شمول دليل اعتبار الاستصحاب لمثل هذه الصورة، كما بيّن في محلّه(1).
إن قلت: سلّمنا ذلك ولكن لا نسلّم عدم وجود الحالة السابقة المتيقّنة في جميع صور المسألة، بناءً على الوجه الثاني من الوجوه المتقدّمة; لوجود هذه الحالة فيما إذا شرع في الصلاة في اللباس الذي علم عدم كونه مانعاً; لعدم كونه من أجزاء غير المأكول، وشكّ في أثنائها في أنّ ما اُلقي عليه بعد الشروع هل يكون مانعاً أم لا، فلا إشكال حينئذ في جريان الاستصحاب، كما هو واضح.
قلت: لا يخفى أنّ مدلول الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول إنّما هو بطلانها فيما إذا وقعت بتمام أجزائها أو ببعضها فيها، فلا يكفي مجرّد وقوع بعض أجزائها في غيرها.
ومن المعلوم أنّ إحراز عدم هذا المانع لا يتحقّق إلاّ بعد العلم بعدم وقوع شيء من أجزائها فيها، فمجرّد الشروع في الصلاة في الألبسة المحلّلة لا يوجب العلم بعدم المانع; لأنّه إن كانت الصلاة عبارة عن مجموع الأقوال والأفعال التي توجد وتنصرم، فحصولها يتوقّف على الإتيان بجميعها، فلا يعلم وقوعها مع فقد المانع إلاّ بعد حصول جميع أجزائها وشرائطها مع فقده، كما هو واضح، وإن كانت الصلاه عبارة عن حضور العبد في مقابل مولاه والتوجّه نحوه والالتفات إليه بنحو الخضوع والخشوع.
- (1) نهاية الاُصول: 335ـ339; الحاشية على كفاية الاُصول 1: 504ـ509.
(الصفحة 379)
ومقتضاه حينئذ تحقّقها بمجرّد الشروع فيها وبقاؤها إلى حصول الفراغ، غاية الأمر أنّه يجب أن يشتغل معه ببعض الأذكار المخصوصة والأفعال المأثورة، كما لا يبعد أن تكون كذلك، فالأمر أيضاً كذلك; لأنّها وإن كانت متحقّقة بمجرّد الشروع، والمفروض العلم بعدم وقوعها في اللباس المشكوك، إلاّ أنّ المعتبر أن لا تكون من أوّل حدوثها إلى آخر بقائها واقعة في شيء من الألبسة المحرّمة، والمفروض الشك في ذلك، فاليقين بوجود الحالة السابقة منتف كما عرفت.
ثمّ إنّ بعض المعاصرين بعد أن جعل اعتبار وقوع الصلاة في الألبسة غير المحرّمة من قبيل الموانع دون الشرائط، نفى الإشكال حينئذ عن جواز الرجوع إلى أصالة عدم المانع لإثبات الصحّة في المسألة(1).
ونحن نقول: ليس المراد من المانع المأخوذ عدمه في مجرى الأصل هو عنوان المانع ومفهومه قطعاً، بل المراد منه ما يحمل عليه ذلك المفهوم بالحمل الشائع ويتّحد معه وجوداً.
وحينئذ، فإن كان المراد أنّ هذا الأصل معتبر من باب الاستصحاب; لكونه مسبوقاً بالحالة السابقة، ففيه ما عرفت من عدم جريانه أصلا.
وإن كان المراد أنّ هذا الأصل معتبر بنفسه من دون لحاظ الحالة السابقة فيه، إمّا لتنزيل أدلّة الاستصحاب على هذا المعنى لا عليه، بتقريب أن يقال: إنّ المراد من الشك في قوله(عليه السلام): لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت(2) ليس الشكّ المتعلّق بما تعلّق به اليقين وهي الطهارة، بل المراد هو الشك في وجود الحدث الناقض لها.
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 59.
- (2) تأتي الرواية بتمامها في ص462.