(الصفحة 377)
ولا فرق بين أن يكون موضوعاً لذلك الأثر مستقلاًّ، أو جزءاً لموضوعه، أو دخيلا فيه وجوداً أو عدماً، فباستصحاب عدم كونه لابساً لما يكون وجوده مانعاً، يثبت عدم كونه لابساً لأجزاء غير المأكول، فتتمّ الصلاة فيه بعد إحراز سائر الشرائط والأجزاء وفقد الموانع بالوجدان، أو بقيام البيّنة، أو بجريان الأصل.
هذا، ولا يخفى أنّ التمسّك بالاستصحاب إنّما يتمّ بناءً على أن يكون ما اعتبر شرعاً عدمه في الصلاة، هو كون المصلّي لابساً لأجزاء غير المأكول.
وبعبارة اُخرى: كان المانع هو الذي اعتبر وصفاً وحالة للمصلّي، وهو خلاف ظاهر الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول; لأنّها تدلّ على أنّ الصلاة فيها فاسدة، كما في موثّقة ابن بكير المتقدّمة(1)، أو على النهي عن الصلاة فيها، فالمانع هو وقوعها في أجزاء غير المأكول، وهو لا يكون لعدمه حالة سابقة، وكذا لا يتمّ أيضاً بناءً على اعتبار المانع وصفاً وحالة للباس; لعدم وجود الحالة السابقة له أيضاً.
نعم، يجري الاستصحاب بناءً عليه ـ أي على الوجه الأخير ـ في بعض فروض المسألة، كما إذا شكّ في تلطّخ لباسه غير المشكوك بأجزاء غير المأكول ومصاحبته معها، بناءً على بطلان الصلاة في صورة التلطّخ بها، كما قوّيناه سابقاً; فإنّه يجري حينئذ استصحاب عدم التلطّخ وعدم المصاحبة، كما لا يخفى.
إن قلت: لا مانع من جريان الاستصحاب بناءً على الوجه الثاني; وهو اعتبار المانع وصفاً للصلاة; لوجود الحالة السابقة للمستصحب، بتقريب أن يقال: إنّ الصلاة حين ما لم توجد لم تكن في أجزاء غير المأكول، فهذه القضيّة السالبة
(الصفحة 378)
بانتفاء الموضوع المستلزم لانتفاء المحمول كانت متيقّنة قد شك في بقائها بعد تحقّق الموضوع، فتستصحب.
قلت: الظاهر عدم شمول دليل اعتبار الاستصحاب لمثل هذه الصورة، كما بيّن في محلّه(1).
إن قلت: سلّمنا ذلك ولكن لا نسلّم عدم وجود الحالة السابقة المتيقّنة في جميع صور المسألة، بناءً على الوجه الثاني من الوجوه المتقدّمة; لوجود هذه الحالة فيما إذا شرع في الصلاة في اللباس الذي علم عدم كونه مانعاً; لعدم كونه من أجزاء غير المأكول، وشكّ في أثنائها في أنّ ما اُلقي عليه بعد الشروع هل يكون مانعاً أم لا، فلا إشكال حينئذ في جريان الاستصحاب، كما هو واضح.
قلت: لا يخفى أنّ مدلول الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول إنّما هو بطلانها فيما إذا وقعت بتمام أجزائها أو ببعضها فيها، فلا يكفي مجرّد وقوع بعض أجزائها في غيرها.
ومن المعلوم أنّ إحراز عدم هذا المانع لا يتحقّق إلاّ بعد العلم بعدم وقوع شيء من أجزائها فيها، فمجرّد الشروع في الصلاة في الألبسة المحلّلة لا يوجب العلم بعدم المانع; لأنّه إن كانت الصلاة عبارة عن مجموع الأقوال والأفعال التي توجد وتنصرم، فحصولها يتوقّف على الإتيان بجميعها، فلا يعلم وقوعها مع فقد المانع إلاّ بعد حصول جميع أجزائها وشرائطها مع فقده، كما هو واضح، وإن كانت الصلاه عبارة عن حضور العبد في مقابل مولاه والتوجّه نحوه والالتفات إليه بنحو الخضوع والخشوع.
- (1) نهاية الاُصول: 335ـ339; الحاشية على كفاية الاُصول 1: 504ـ509.
(الصفحة 379)
ومقتضاه حينئذ تحقّقها بمجرّد الشروع فيها وبقاؤها إلى حصول الفراغ، غاية الأمر أنّه يجب أن يشتغل معه ببعض الأذكار المخصوصة والأفعال المأثورة، كما لا يبعد أن تكون كذلك، فالأمر أيضاً كذلك; لأنّها وإن كانت متحقّقة بمجرّد الشروع، والمفروض العلم بعدم وقوعها في اللباس المشكوك، إلاّ أنّ المعتبر أن لا تكون من أوّل حدوثها إلى آخر بقائها واقعة في شيء من الألبسة المحرّمة، والمفروض الشك في ذلك، فاليقين بوجود الحالة السابقة منتف كما عرفت.
ثمّ إنّ بعض المعاصرين بعد أن جعل اعتبار وقوع الصلاة في الألبسة غير المحرّمة من قبيل الموانع دون الشرائط، نفى الإشكال حينئذ عن جواز الرجوع إلى أصالة عدم المانع لإثبات الصحّة في المسألة(1).
ونحن نقول: ليس المراد من المانع المأخوذ عدمه في مجرى الأصل هو عنوان المانع ومفهومه قطعاً، بل المراد منه ما يحمل عليه ذلك المفهوم بالحمل الشائع ويتّحد معه وجوداً.
وحينئذ، فإن كان المراد أنّ هذا الأصل معتبر من باب الاستصحاب; لكونه مسبوقاً بالحالة السابقة، ففيه ما عرفت من عدم جريانه أصلا.
وإن كان المراد أنّ هذا الأصل معتبر بنفسه من دون لحاظ الحالة السابقة فيه، إمّا لتنزيل أدلّة الاستصحاب على هذا المعنى لا عليه، بتقريب أن يقال: إنّ المراد من الشك في قوله(عليه السلام): لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت(2) ليس الشكّ المتعلّق بما تعلّق به اليقين وهي الطهارة، بل المراد هو الشك في وجود الحدث الناقض لها.
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 59.
- (2) تأتي الرواية بتمامها في ص462.
(الصفحة 380)
فالمعنى حينئذ أنّه لا يضرّ الشك في وجود الحدث; لأنّه يبنى على عدمه فيؤخذ بمقتضى اليقين السابق، فهو ـ أي اليقين السابق ـ ليس له دخل في جريانه، بل الرجوع إليه من باب أنّه إذا وجب البناء على عدم حدوث الحادث فالواجب الرجوع إلى الحالة السابقة.
وإمّا لكون العدم أولى بالماهيّة من الوجود، حيث إنّه يكفي في استمراره وعدم انقطاعه عدم حدوث علّة الوجود.
ففيه أيضاً: عدم تماميّته; لأنّه لم يثبت ظهور أدلّة الاستصحاب في ذلك المعنى لو لم نقل بظهورها في خلافه، كما هو المشهور، وبطلان الوجه الثاني واضح، فلم يثبت دليل على اعتبار ذلك الأصل، اللّهمّ إلاّ أن يتمسّك لاعتباره باستمرار سيرة العقلاء عليه، ولكنّها مع ثبوتها، تحتاج إلى دليل يدلّ على الإمضاء من جانب الشرع، ولم يثبت وجوده كما لا يخفى.
ومنها: ـ أي من جملة الاُصول الشرعيّة التي اعتمد عليها في إثبات الصحّة في المقام ـ أصالة الحلّية التي يدلّ على اعتبارها رواية ابن سنان(1)، ورواية مسعدة بن صدقة(2)، وغيرهما من الروايات العامّة والخاصّة الواردة في الموارد الخاصّة، وكذا يدلّ على اعتبارها السيرة القطعيّة المستمرّة من زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله)والأئـمّة(عليهم السلام)إلى يومنا هذا.
ولا إشكال في شمولها بل في اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة، كما لا يخفى على من راجع تلك الروايات، وتقريب الاستدلال بها يمكن بوجهين:
- (1) تقدّمت في ص376.
- (2) الكافي 5: 313: ح40; وعنه وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4.
(الصفحة 381)
أحدهما: أن يكون المراد من الحلّية والحرمة، الحلّية والحرمة التكليفيّة، كما هو الظاهر من إطلاقهما وجريانه في المقام، مع أنّ الشك فيه إنّما هو في الحلّية، والحرمة الوضعيّة; بأن يقال: إنّ الشك في صحّة الصلاة فيما لم يعلم كونه من أجزاء غير المأكول مسبّب عن الشك في حلّية لحم الحيوان المأخوذ منه ذلك اللباس وحرمته، فإذا حكمنا بحلّيته لأصالتها تترتّب عليها صحّة الصلاة في الثوب المأخوذ منه.
ويرد عليه أولا: أنّ ما ذكر من جريان الأصل في لحم الحيوان وترتّب صحّة الصلاة عليه إنّما هو فيما إذا كان الحيوان المأخوذ منه هذا اللّباس مشتبه الحكم بالشبهة الحكميّة; بأن كان الشك في صحّة الصلاة مسبّباً عن اشتباه حكمه الشرعي، وهذا الفرض مع أنّه من الفروض النادرة لم يثبت اعتبار هذا الأصل فيه; لما عرفت من أنّ جريانه في الشبهة الحكميّة غير مسلّم.
وأمّا فيما إذا كان الشك في صحّة الصلاة مسبّباً عن أنّه هل يكون الحيوان المأخوذ منه هذا اللباس من أفراد ما يحلّ أكل لحمه شرعاً، أو من مصاديق ما يحرم؟ فجريانه محلّ نظر بل منع; لأنّه ربما لا يكون اللحم الذي هو مورد الأصل مشكوك الحكم، بل يعلم بكونه من الحيوان المحلّل أو المحرّم.
فالشكّ في الحلّية إنّما هو لعدم الابتلاء بلحم ذلك الحيوان، بل مورد الابتلاء هي الصلاة في الثوب المأخوذ منه، وبعبارة اُخرى: ليس في البين حيوان شكّ في حلّية لحمه لتردّده بين كونه من أفراد ما يحلّ أكله أو يحرم، فلا مجال لجريان أصالة الحلّية كما هو واضح.
وثانياً: أنّ ظاهر الأدلّة أنّ بطلان الصلاة وفسادها في أجزاء غير المأكول مترتّب على الحيوان المحرّم بعنوانه الأوّلي، كالأسد والأرنب والثعلب وغيرها،