(الصفحة 379)
ومقتضاه حينئذ تحقّقها بمجرّد الشروع فيها وبقاؤها إلى حصول الفراغ، غاية الأمر أنّه يجب أن يشتغل معه ببعض الأذكار المخصوصة والأفعال المأثورة، كما لا يبعد أن تكون كذلك، فالأمر أيضاً كذلك; لأنّها وإن كانت متحقّقة بمجرّد الشروع، والمفروض العلم بعدم وقوعها في اللباس المشكوك، إلاّ أنّ المعتبر أن لا تكون من أوّل حدوثها إلى آخر بقائها واقعة في شيء من الألبسة المحرّمة، والمفروض الشك في ذلك، فاليقين بوجود الحالة السابقة منتف كما عرفت.
ثمّ إنّ بعض المعاصرين بعد أن جعل اعتبار وقوع الصلاة في الألبسة غير المحرّمة من قبيل الموانع دون الشرائط، نفى الإشكال حينئذ عن جواز الرجوع إلى أصالة عدم المانع لإثبات الصحّة في المسألة(1).
ونحن نقول: ليس المراد من المانع المأخوذ عدمه في مجرى الأصل هو عنوان المانع ومفهومه قطعاً، بل المراد منه ما يحمل عليه ذلك المفهوم بالحمل الشائع ويتّحد معه وجوداً.
وحينئذ، فإن كان المراد أنّ هذا الأصل معتبر من باب الاستصحاب; لكونه مسبوقاً بالحالة السابقة، ففيه ما عرفت من عدم جريانه أصلا.
وإن كان المراد أنّ هذا الأصل معتبر بنفسه من دون لحاظ الحالة السابقة فيه، إمّا لتنزيل أدلّة الاستصحاب على هذا المعنى لا عليه، بتقريب أن يقال: إنّ المراد من الشك في قوله(عليه السلام): لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت(2) ليس الشكّ المتعلّق بما تعلّق به اليقين وهي الطهارة، بل المراد هو الشك في وجود الحدث الناقض لها.
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 59.
- (2) تأتي الرواية بتمامها في ص462.
(الصفحة 380)
فالمعنى حينئذ أنّه لا يضرّ الشك في وجود الحدث; لأنّه يبنى على عدمه فيؤخذ بمقتضى اليقين السابق، فهو ـ أي اليقين السابق ـ ليس له دخل في جريانه، بل الرجوع إليه من باب أنّه إذا وجب البناء على عدم حدوث الحادث فالواجب الرجوع إلى الحالة السابقة.
وإمّا لكون العدم أولى بالماهيّة من الوجود، حيث إنّه يكفي في استمراره وعدم انقطاعه عدم حدوث علّة الوجود.
ففيه أيضاً: عدم تماميّته; لأنّه لم يثبت ظهور أدلّة الاستصحاب في ذلك المعنى لو لم نقل بظهورها في خلافه، كما هو المشهور، وبطلان الوجه الثاني واضح، فلم يثبت دليل على اعتبار ذلك الأصل، اللّهمّ إلاّ أن يتمسّك لاعتباره باستمرار سيرة العقلاء عليه، ولكنّها مع ثبوتها، تحتاج إلى دليل يدلّ على الإمضاء من جانب الشرع، ولم يثبت وجوده كما لا يخفى.
ومنها: ـ أي من جملة الاُصول الشرعيّة التي اعتمد عليها في إثبات الصحّة في المقام ـ أصالة الحلّية التي يدلّ على اعتبارها رواية ابن سنان(1)، ورواية مسعدة بن صدقة(2)، وغيرهما من الروايات العامّة والخاصّة الواردة في الموارد الخاصّة، وكذا يدلّ على اعتبارها السيرة القطعيّة المستمرّة من زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله)والأئـمّة(عليهم السلام)إلى يومنا هذا.
ولا إشكال في شمولها بل في اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة، كما لا يخفى على من راجع تلك الروايات، وتقريب الاستدلال بها يمكن بوجهين:
- (1) تقدّمت في ص376.
- (2) الكافي 5: 313: ح40; وعنه وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4.
(الصفحة 381)
أحدهما: أن يكون المراد من الحلّية والحرمة، الحلّية والحرمة التكليفيّة، كما هو الظاهر من إطلاقهما وجريانه في المقام، مع أنّ الشك فيه إنّما هو في الحلّية، والحرمة الوضعيّة; بأن يقال: إنّ الشك في صحّة الصلاة فيما لم يعلم كونه من أجزاء غير المأكول مسبّب عن الشك في حلّية لحم الحيوان المأخوذ منه ذلك اللباس وحرمته، فإذا حكمنا بحلّيته لأصالتها تترتّب عليها صحّة الصلاة في الثوب المأخوذ منه.
ويرد عليه أولا: أنّ ما ذكر من جريان الأصل في لحم الحيوان وترتّب صحّة الصلاة عليه إنّما هو فيما إذا كان الحيوان المأخوذ منه هذا اللّباس مشتبه الحكم بالشبهة الحكميّة; بأن كان الشك في صحّة الصلاة مسبّباً عن اشتباه حكمه الشرعي، وهذا الفرض مع أنّه من الفروض النادرة لم يثبت اعتبار هذا الأصل فيه; لما عرفت من أنّ جريانه في الشبهة الحكميّة غير مسلّم.
وأمّا فيما إذا كان الشك في صحّة الصلاة مسبّباً عن أنّه هل يكون الحيوان المأخوذ منه هذا اللباس من أفراد ما يحلّ أكل لحمه شرعاً، أو من مصاديق ما يحرم؟ فجريانه محلّ نظر بل منع; لأنّه ربما لا يكون اللحم الذي هو مورد الأصل مشكوك الحكم، بل يعلم بكونه من الحيوان المحلّل أو المحرّم.
فالشكّ في الحلّية إنّما هو لعدم الابتلاء بلحم ذلك الحيوان، بل مورد الابتلاء هي الصلاة في الثوب المأخوذ منه، وبعبارة اُخرى: ليس في البين حيوان شكّ في حلّية لحمه لتردّده بين كونه من أفراد ما يحلّ أكله أو يحرم، فلا مجال لجريان أصالة الحلّية كما هو واضح.
وثانياً: أنّ ظاهر الأدلّة أنّ بطلان الصلاة وفسادها في أجزاء غير المأكول مترتّب على الحيوان المحرّم بعنوانه الأوّلي، كالأسد والأرنب والثعلب وغيرها،
(الصفحة 382)
لا على الحيوان بوصف كونه محرّم الأكل، والتعبير عن ذلك العنوان بهذا الوصف في بعض الأخبار إنّما هو للإشارة إلى ذات الموصوف مع قطع النظر عن وصفه.
ويؤيّده ما في بعض الأخبار من أنّ الصلاة في الثعالب والأرانب فاسدة(1)، فعبّر عن موضوع الحكم بنفس ذلك العنوان الأوّلي من دون أخذ قيد التحريم فيه أصلا.
وبالجملة: فبطلان الصلاة في أجزاء الحيوانات المحرّمة ليس حكماً مترتّباً على تحريمها بحيث لو لم يجعل التحريم لكان جعل هذا الحكم لغواً، بل إنّما هو حكم في عرض الحكم بالتحريم من دون ترتّب وطوليّة بينهما أصلا.
وحينئذ، فلا مجال لإثبات أحد الآثار المشكوكة بالأصل الجاري في الأثر الآخر، فلا تثبت صحّة الصلاة في الثوب المشكوك بجريان الأصل في اللحم، وإثبات حلّيته ظاهراً، إلاّ على القول بالاُصول المثبتة، وهو خلاف التحقيق.
وثالثاً: سلّمنا ذلك; أي كون الحلّية أو الحرمة واسطة في ثبوت البطلان أو الصحّة للصلاة في أجزاء الحيوان، فيترتّب على إثبات الحلّية صحّة الصلاة، وعلى إثبات الحرمة بطلانها، لكن نقول: إنّ المراد من الحلّية والحرمة المأخوذتين في موضوعهما ليست الحرمة والحلّية الفعليّتين، وإلاّ لزم جواز الصلاة في أجزاء ما يحلّ أكله فعلا للاضطرار أو غيره ولو كان محرّماً ذاتاً، وهو ممّا لا يلتزم به أحد.
بل المراد منهما هي الحرمة والحلّية المتعلّقتان بذوات الحيوانات مع قطع النظر عن حدوث ما يوجب تغيير الحكم المتعلّق به أوّلاً، كالاضطرار أو غيره،
- (1) وسائل الشيعة 4: 355ـ358، أبواب لباس المصلّي، ب7.
(الصفحة 383)
ومن المعلوم أنّ جريان الأصل في المقام لا يجدي في إثبات الحلّية الواقعيّة، كما هو الشأن في غيره من الاُصول الشرعيّة.
ودعوى أنّه لم يثبت ظهور الأدلّة فيما ذكر، مدفوعة بأنّه يكفي عدم ثبوت الظهور في خلافه، كما لا يخفى.
ثانيهما: ما يظهر من المحقّق القمّي(قدس سره) من أنّ المراد من الحلّية والحرمة في قوله(عليه السلام)في رواية ابن سنان: كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال، إلخ(1)، ليس خصوص الحلّية والحرمة التكليفيّتين; أي ما يكون مبغوضاً بنفسه لأجل المفسدة الملزمة الباعثة على الزجر عنه لنفسه، أو غير مبغوض كذلك، بل يعمّ الحلّية والحرمة الوضعيّتين; أي ما يكون مبغوضاً لكونه مانعاً مثلا عن حصول مطلوب المولى، أو غير مبغوض كذلك.
فكما أنّه إذا تردّد مائع بين كونه خمراً أو ماءً، يكون مقتضى الرواية جواز شربه وعدم وجوب الاجتناب عنه، فكذا إذا تردّد أمر الثوب بين صحّة الصلاة الواقعة فيه; لعدم كونه من أجزاء غير المأكول، وبين بطلانها فيه لكونه من أجزائه، يكون مدلول الرواية حلّية الصلاة فيه; لكون الثوب أيضاً شيئاً فيه حلال باعتبار عدم كونه مانعاً عنها، وحرام باعتبار كونه مانعاً، فالصلاة فيه حلال إلى أن تعرف الحرام منه بعينه(2).
هذا، ولا يخفى أنّه لا يبعد الاعتماد على هذا الوجه في الاستدلال بأصالة الحلّية مع تتميمه; بأن يقال: إنّ التتبّع والاستقراء في كلمات العرب واستعمالاتهم لفظي الحلال والحرام في النثر والنظم، يقضي بأنّ هذه المادّة ـ أي مادّة «حرم» ـ
- (1) تقدّمت في ص376.
- (2) قوانين الاُصول 2: 18ـ19; جامع الشتات 2: 776ـ777.