(الصفحة 398)
هذا، ولا يخفى أنّه لو قيل بالمنع من كونهما رواية واحدة ـ والمفروض أنّ سند الاُولى مظلم لا يجوز الاعتماد عليه، فالاعتبار إنّما هو بالثانية، وقد عرفت أنّ السؤال فيها إنّما هو عن جلود الخزّ، لا عن الصلاة فيها، ومن المعلوم انصرافه إلى السؤال عن جواز استعمالها في اللبس، وهو لا يلازم جواز الصلاة فيها ـ لكان له وجه; لعدم دليل معتبر على الاتّحاد.
ومن هنا يظهر أنّه لا دلالة للخبر الرابع عشر من الباب العاشر على جواز الصلاة في جلود الخزّ، كما يظهر من صاحب الجواهر والمحقّق الهمداني(قدس سرهما)(1); وهو ما رواه الشيخ، عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن البرقي، عن سعد بن سعد، عن الرضا(عليه السلام) قال: سألته عن جلود الخزّ؟ فقال: هو ذا نحن نلبس، فقلت: ذاك الوبر جعلت فداك، قال: إذا حلّ وبره حلّ جلده(2).
حيث إنّ الظاهر أنّ السؤال إنّما هو عن لبس جلود الخزّ لا عن جواز الصلاة فيها، واعتراض الراوي عليه(عليه السلام) يشعر بأنّ الشبهة في جواز لبس جلوده إنّما يكون منشؤها احتمال كونه ميتة نجسة غير مذكّى، فالجواب بالملازمة بين حلّية الوبر وحلّية الجلد إنّما ينفي هذا الاحتمال.
وبالجملة: فالملازمة بين حلّية استعمال الوبر في اللبس، والانتفاع بالجلد كذلك، لا تدلّ على الملازمة بين جواز الصلاة في الوبر، وجوازها في الجلد، كما هو واضح، ويدلّ على أنّ السؤال إنّما هو عن جواز اللبس ـ مضافاً
- (1) جواهر الكلام 8: 143ـ149; مصباح الفقيه 10: 255.
- (2) الكافي 6: 452، ح7; تهذيب الأحكام 2: 372، ح1547; وعنهما وسائل الشيعة 4: 366، أبواب لباس المصلّي، ب10، ح14.
(الصفحة 399)
إلى ما ذكرنا ـ أنّ مورد الشبهة في أذهان الناس إنّما هو جواز لبسه، خصوصاً مع علمهم بما روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)من النهي عن ركوب الخزّ والجلوس عليه، كما تقدّم في محكيّ كلام ابن المنظور(1)، وخصوصاً مع كون ثوب الخزّ كثير القيمة شائع الاستعمال بين المترفين والمتنعّمين.
ويدلّ على ذلك ما روي من أنّ عليّ بن الحسين(عليهما السلام) كان بعدما اشترى جبّة الخزّ بخمسمائة درهم ومطرفه أيضاً بخمسين ديناراً يقول: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِى) إلخ(2)،(3); فإنّ استشهاده بهذه الآية يشعر بعدم كون جواز لبس الخزّ ممّا يعرفه الناس، بل كان مورداً لشكّهم.
وبالجملة: فالرواية أجنبيّة عن المقام.
نعم، قد يتوهّم دلالة الخبر الأوّل من الباب الثامن وأمثاله على جواز الصلاة في جلده أيضاً، وهو ما رواه الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري أنّه قال: رأيت الرضا(عليه السلام) يصلّي في جبّة خزّ(4)، وأنت خبير بأنّ هذه الرواية وأمثالها إنّما تكون حاكية للفعل، ومن الواضح: أنّ الفعل لا إطلاق له، فلعلّ ذلك الخزّ كان منسوجاً من الوبر، فلا دلالة لها على جواز الصلاة في جلده، كما لا يخفى.
ثمّ إنّ ظاهر عبارة القدماء من الأصحاب استثناء الخزّ الخالص دون
- (1) في ص390.
- (2) سورة الأعراف 7: 32.
- (3) قرب الإسناد: 357، ح1277; وعنه وسائل الشيعة 5: 7، أبواب أحكام الملابس، ب1، ح8; وبحار الأنوار 79: 298، ح2.
- (4) الفقيه 1: 170، ح802; تهذيب الأحكام 2: 212، ح832; وعنهما وسائل الشيعة 4: 359، أبواب لباس المصلّي، ب8، ح1.
(الصفحة 400)
المغشوش بوبر الأرانب والثعالب(1)، ولا يخفى أنّ ما يتصوّر فيه الخالصيّة والمغشوشية إنّما هو وبر الخزّ دون جلده، فيعلم أنّ المراد من المستثنى إنّما هو الوبر دون الجلد، فلا يستفاد من كلماتهم جواز الصلاة في جلد الخزّ، واحتمال أن يكون المستثنى شاملا للجلد أيضاً.
غاية الأمر أنّ التقييد بالخلوص إنّما يكون في الوبر فقط خلاف الظاهر. هذا، وعبارة المحقّق في الشرائع إنّما تكون كعبارة القدماء في عدم استفادة الجواز منها(2). وأمّا في المعتبر، فقد استقرب الجواز بعد أن تردّد في المسألة(3). وأمّا العلاّمة، فالمحكيّ عن كلامه في التحرير والمنتهى هو المنع، والتفصيل بين الوبر والجلد(4)، خلافاً لما يظهر من سائر كتبه من تعميم الجواز(5)، كما هو المعروف بين المتأخّرين(6).
ولا يخفى أنّ تحقيق المسألة وتقريب القول بالجواز أو العدم فيها مبنيّ على اُمور:
أحدها: أنّه هل يكون الخزّ من الحيوانات التي يحلّ أكل لحمها، أو ممّا يحرم؟ الظاهر هو الثاني; لقيام الإجماع على حرمة الحيوانات المائيّة عدا السمك الذي
- (1) الاستبصار 1: 387، ذ ح1471; تهذيب الأحكام 2: 211ـ213; غنية النزوع: 66; كشف اللثام 3: 190ـ195، ويراجع ص389.
- (2) شرائع الإسلام 1: 69.
- (3) المعتبر 2: 84ـ85.
- (4) تحرير الأحكام 1: 198; منتهى المطلب 4: 236ـ240; وكذا ابن ادريس في السرائر 1: 261ـ262.
- (5) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 374ـ375; تذكرة الفقهاء 2: 468ـ469، مسألة: 122; قواعد الأحكام 1: 255; مختلف الشيعة 2: 77.
- (6) جامع المقاصد 2: 78; ذكرى الشيعة 3: 36; مسالك الأفهام 1: 163; مجمع الفائدة والبرهان 2: 97; مدارك الأحكام 3: 168ـ169; جواهر الكلام 8: 141ـ148.
(الصفحة 401)
له فلس(1)، ومخالفة صاحب الحدائق(2) وأمثاله لا يضرّ بتحقّقه، كما هو واضح.
ثانيها: أنّه هل الأدلّة المانعة عن الصلاة في جلد الميتة منصرفة عن الميتة الطاهرة; وهي ميتة غير ذي النفس، أو باقية على ظاهرها من العموم والشمول؟
ثالثها: أنّه على فرض الانصراف هل تكون الحيوانات المائيّة لها نفس سائلة أم لا؟
رابعها: أنّه هل تكون التذكية ثابتة فيما عدا السمك من الحيوانات المائيّة أو تختصّ به؟
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لو قيل بحلّية أكل لحم الخزّ أو بحرمته، ولكن ادّعي انصراف الأدلّة المانعة عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه عن الحيوانات المائيّة، فلازمه القول بصحّة الصلاة في وبر الخزّ، وكذا في جلده من حيث مانعيّة غير المأكول.
وأمّا من حيث مانعيّة الميتة، فجواز الصلاة فيه مبنيّ على القول بخروج الخزّ عن تحت الأدلّة المانعة عن الصلاة في الميتة، إمّا موضوعاً بدعوى وقوع التذكية عليه، وإمّا حكماً بدعوى انصرافها عن الميتة الطاهرة، واختصاص المانعيّة بالميتة النجسة، مع ادّعاء كون الحيوانات المائيّة، أو خصوص الخزّ منها ليس لها نفس سائلة حتّى تكون ميتتها طاهرة، فلا تدخل في تلك الأدلّة، وحينئذ ينتهي القول بجواز الصلاة في جلد الخزّ على وفق القاعدة، ولا حاجة في إثباته
- (1) الخلاف 6: 29، مسألة 31; غنية النزوع: 397ـ398; السرائر 3: 98; المعتبر 2: 84; ذكرى الشيعة 3: 36; حاشية شرائع الإسلام المطبوع ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره 1: 129; مسالك الأفهام 12: 10; جواهر الكلام 36: 241ـ243 (ط.ق).
- (2) الحدائق الناضرة 7: 67ـ68.
(الصفحة 402)
إلى دليل كما هو واضح.
وأمّا لو قلنا بحرمة أكل لحم الخزّ، كما عرفت أنّه معقد إجماع الأصحاب، ولم نقل بانصراف الأدلّة المانعة عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه عن الحيوانات المائيّة، فلازمه القول ببطلان الصلاة في جلد الخزّ وكذا في وبره، إلاّ أن يدلّ دليل على خلاف ذلك، وقد عرفت في صدر المسألة أنّه قام الدليل على الجواز في الوبر، والإشكال إنّما هو في الجلد خاصّة.
هذا، والذي ينبغي أن يقال في المقام: إنّه لو كان وجه المانعيّة وبطلان الصلاة في جلد الخزّ منحصراً في كونه من أجزاء غير المأكول، فلا يبعد أن يقال باستثناء جلد الخزّ وصحّة الصلاة فيه كالوبر; لأنّه بعد نهوض الدليل من النصّ والإجماع على استثناء الوبر، تكون خصوصيّة الوبريّة ملغاة بنظر العرف; لأنّ الظاهر أنّ أهل العرف لا يفهمون من استثناء الوبر إلاّ استثناء الحيوان المسمّى بالخزّ، وصحّة الصلاة في أجزائه، وبراً كان أو غيره، كما لا يخفى.
وأمّا مع احتمال كون الخزّ ميتة; لاحتمال عدم كونه كالسّمك في أنّ خروجه من الماء كان علّة لموته، كما يظهر من بعض الروايات، حيث إنّ الإمام(عليه السلام) أجاب فيه عن السؤال عن الخزّ، بأنّه سبع يرعى في البرّ، ويأوي الماء(1)، فالحكم بجواز الصلاة في جلده محلّ إشكال; إذ لو كان إخراجه من الماء مستلزماً لقتله; لعدم تعيّشه في خارج الماء، لأمكن أن يقال بحصول التذكية له بذلك كالسّمك.
وأمّا مع تعيّشه في خارج الماء أيضاً; بمعنى عدم كون إخراجه من الماء إماتة
- (1) تهذيب الأحكام 9: 49، ذ ح205; وعنه وسائل الشيعة 24: 191، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، ب39، ح2.