(الصفحة 433)
منهيّ عنه ـ إلى أن قال: ـ دليلنا أنّ الصلاة تحتاج إلى نيّة بلا خلاف، ولا خلاف أنّ التصرّف في الدار المغصوبة والثوب المغصوب قبيح، ولا يصحّ نيّة القربة فيما هو قبيح، وأيضاً طريقة براءة الذمّة تقتضي وجوب إعادتها; لأنّ الصلاة في ذمّته واجبة بيقين، ولا يجوز أن يبرأها إلاّ بيقين، ولا دليل على براءتها إذا صلّى في الدار والثوب المغصوبين(1). انتهى.
وحاصل الاستدلال بالدليل الأوّل أنّ صحّة العبادة متوقّفة على صلاحيّتها للتقرّب بها مع قصده أيضاً، وإذا اتّحدت مع عنوان محرّم لا تكون صالحة لذلك، ولا يتمشّى قصده من الملتفت إلى حرمته; لأنّ الفعل الصادر عن المكلّف عصياناً للمولى وطغياناً عليه لا يعقل أن يكون مقرّباً له إليه.
وهذا لا فرق فيه بين أن نقول بجواز اجتماع الأمر والنهي، أو نقول بامتناعه، ولذا اخترنا الجواز(2) مع الذهاب إلى بطلان العبادة فيما إذا اتّحدت مع عنوان محرّم، فمجرّد الحكم بالبطلان لا يكون كاشفاً عن القول بالامتناع، كما يظهر من جماعة من الاُصوليّين، حيث نسبوا القول بعدم الجواز إلى المشهور(3); لما رأوا من أنّهم يحكمون بالبطلان; لما عرفت من عدم الملازمة بينهما، فالأقوى في المقام هو البطلان وإن كان الحقّ في تلك المسألة الجواز.
هذا، ولكن ذلك ـ أي البطلان ـ إنّما هو فيما إذا كانت الحرمة منجّزة. وأمّا في غير ذلك من موارد عدم تنجّزها، كما إذا كان جاهلا بالموضوع أو الحكم، أو ناسياً، أو كان مقتضى الأصل خلافها، كما إذا كان مأذوناً من المالك
- (1) الخلاف 1: 509ـ510، مسألة 253.
- (2) نهاية الاُصول: 257ـ259.
- (3) كفاية الاُصول: 193.
(الصفحة 434)
في التصرّف في ماله سابقاً وشكّ في بقائه، ففي جميع تلك الموارد تكون العبادة صحيحة; لعدم كونها مبغوضة، وعدم صدورها من المكلّف على وجه العصيان والطغيان حتّى ينافي ذلك مع كونها مقرّبة، وهذا هو الفارق بين الموارد التي يكون فساد الصلاة فيها لأجل اتّحادها مع عنوان محرّم، وبين ما يكون فسادها لأجل عدم رعاية بعض الموانع الاُخر، كما إذا صلّى في غير المأكول جاهلا أو ناسياً، حيث إنّ مانعيّة الأوّل منحصرة بما إذا كانت الحرمة المتعلّقة بالعنوان المتّحد مع الصلاة خارجاً منجّزة على المكلّف، بخلاف الثاني.
ثمّ إنّ ما ذكرنا في وجه بطلان الصلاة في الثوب المغصوب يجري بعينه في الصلاة في المكان المغصوب، بلا فرق بينهما أصلا، كما هو واضح.
ثمّ إنّه حيث جرى في الكلام ذكر مسألة جواز الاجتماع وعدمه، فلا بأس أن نشير إلى بيان المختار فيها على سبيل الإجمال وإن كان خارجاً عن محلّ البحث والمقال، فنقول وعلى الله الاتّكال:
اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي المتعلّقين بعنوانين بينهما عموم من وجه، يمكن أن يتصادقا في وجود واحد بحسب سوء اختيارالمكلّف، على قولين، نسب إلى المشهور القول بالامتناع، وقد عرفت ما في هذه النسبة، والحقّ هو القول بالجواز.
وأقوى ما استدلّ به للقول بالامتناع ما أفاده المحقّق الخراساني في الكفاية.
وملخّصه: أنّه لا ريب في ثبوت التضادّ بين الأحكام الخمسة التكليفيّة في مرتبة الفعليّة; لضرورة المنافاة بين البعث نحو شيء والزجر عنه، وكذا بين البعث على وجه أكيد، وبينه على وجه غير أكيد، وكذا بين مرتبتي الزجر عن شيء.
(الصفحة 435)
وكذا لا شكّ في أنّ متعلّق التكاليف فعل المكلّف، وما هو في الخارج صادر عنه، وذلك لأنّ البعث والزجر إنّما يتعلّق كلٌّ منهما بالوجود الخارجي، وما يصدر من المكلّف في الخارج، وحينئذ فلو جاز اجتماع الأمر والنهي في واحد شخصيّ كما هو محلّ الكلام، يلزم اجتماع الضدّين وكون شيء واحد معروضاً بتمامه لعرضين متنافيين; لأنّه بعد فرض كون متعلّق الأحكام هو ما يصدر في الخارج من المكلّف، يلزم كون الغسل بماء مغصوب أو الصلاة في الدار المغصوبة مثلا متعلّقاً لحكمين.
وقد عرفت ثبوت التضادّ بين الأحكام، فلا يمكن عروض اثنين منها لمعروض واحد ووجود فارد، وهل هو إلاّ ككون جسم معروضاً بتمامه للسواد، وفي ذلك الحال معروضاً بتمامه للبياض، ومن الواضح استحالته(1).
أقول: ويرد عليه: أنّ كون الأحكام من قبيل الأعراض لفعل المكلّف محلّ نظر بل منع، وذلك لأنّه لو كانت عرضاً يلزم عدم إمكان تحقّقها قبل وجود معروضها، كما هو الشأن في سائر الأعراض من السواد والبياض وأشباههما، ومن المعلوم ثبوت التكليف قبل أن يوجد المكلّف متعلّقه; إذ هو الداعي والباعث على الإيجاد، فلا يمكن تقدّم المتعلّق عليه.
مضافاً إلى أنّ المكلّف قد لا يوجد متعلّقه أصلا، إمّا لعصيان منه كما في التكاليف الوجوبيّة، أو لغيره كما في التكاليف التحريميّة; فإنّ متعلّقها أيضاً هو الوجود كما حقّقناه في الاُصول(2)، وأشرنا إليه في بعض المباحث السابقة،
- (1) كفاية الاُصول: 193ـ195.
- (2) نهاية الاُصول: 256ـ257.
(الصفحة 436)
فلو كانت عارضة للوجودات يلزم عدم إمكان تحقّق العصيان في التكاليف الوجوبيّة، وعدم إمكان تحقّق الإطاعة في التكاليف التحريميّة أبداً، وهذا بمكان من البطلان.
وأيضاً من الواضح سقوط التكاليف الوجوبيّة مثلا بمجرّد إتيان متعلّقها، فلو كانت أعراضاً يلزم أن يكون ثبوت معروضها سبباً لانتفائها، ونحن لا نتصوّر عرضاً كذلك، وبالجملة: فهذا المعنى ممّا لا يمكن الالتزام به بوجه.
والحقّ أن يقال: إنّ الأحكام متنزعة من فعل المولى عارضة له قائمة به على نحو القيام الصدوري، غاية الأمر أنّ لها تعلّقاً وإضافةً إلى فعل المكلّف الصّادر منه في الخارج; لكونها من الاُمور ذات الإضافة، كما أنّ لها أيضاً إضافة إلى المكلّف، ومن المعلوم أنّ تحقّق الإضافة لا يتوقّف على ثبوت المضاف بها، فكما أنّا نعلم الاُمور التي ستوجد في الاستقبال، كذلك مكلّفون فعلا بالأمر الذي نوجده بعد تحقّق التكليف.
وحينئذ نقول: إن كان المراد بثبوت التضادّ بين الأحكام كونها متضادّة بحيث لا يمكن اجتماعها في آن واحد ولو كانت متعلّقاتها متبائنة، فبطلانه أظهر من أن يخفى. وإن كان المراد بها كونها متضادّة بحيث لا يمكن اجتماعها في آن واحد مع اتّحاد متعلّقها، فهو مسلّم، ولكن لا من حيث لزوم كون الفعل معروضاً لعرضين، بل من حيث امتناع قيامها كذلك بنفس المولى، ولكن لا يخفى أنّ ذلك غير مفيد فيما هو بصدده.
وإن كان المراد ذلك مع إمكان تصادق متعلّقها في وجود واحد، فنحن لا نتصوّر فيه الاستحالة بوجه، بل لو قيّد المولى أمره مثلا بالوجودات غير
(الصفحة 437)
المتّحدة مع عنوان محرّم، تلزم اللغويّة بعد وجود المصلحة الموجودة في سائر الأفراد في الفرد المحرّم أيضاً، وعدم الاستحالة يكشف عن عدم المضادّة بينها في هذه الصورة.
فالوجود الواحد بتمامه متعلّق للأمر لحيثيّة الصلاتيّة التي هي تمام المأمور به، وكذلك متعلّق للنهي لحيثيّة كونه تصرّفاً في مال الغير بغير إذنه، لا أن يكون معروضاً لعرضين، بل محمولا عليه الوجوب والتحريم على نحو الحمل الاشتقاقي.
وممّا ذكرنا ظهر الفرق بين ما قلناه في مقام الجواب، وبين ما يظهر من القائلين بالجواز من مقاربي عصرنا(1)، حيث إنّ ظاهرهم تسلّم كون الأحكام من قبيل الأعراض، وثبوت التضادّ بينها لذلك، غاية الأمر يتكلّفون في مقام الجواب لإثبات المغايرة والتنافي بين المتعلّقين، ولا يخفى أنّ إثباته في غاية الإشكال.
ثمّ إنّ ما ذكرنا لا ينافي القول ببطلان العبادة فيما إذا اتّحدت مع عنوان محرّم كالوضوء بماء الغير، والصلاة في المكان المغصوب، أو في الثوب كذلك; لأنّه وإن كان الأمر متعلّقاً بالوجود الخارجي المنطبق عليه عنوان محرّم، إلاّ أنّ صحّة العبادة مشروطة بكون الفعل صالحاً لأن يتقرّب به مع قصد التقرّب به أيضاً.
ومن الواضح: أنّه لا يكاد يكون ما يصدر من المكلّف على وجه العصيان والطغيان صالحاً لذلك أصلا، مع عدم إمكان قصد التقرّب به مع الالتفات إلى الحرمة الموجب لتنجّزها عليه.
- (1) فوائد الاُصول 1ـ2: 396ـ397.