(الصفحة 436)
فلو كانت عارضة للوجودات يلزم عدم إمكان تحقّق العصيان في التكاليف الوجوبيّة، وعدم إمكان تحقّق الإطاعة في التكاليف التحريميّة أبداً، وهذا بمكان من البطلان.
وأيضاً من الواضح سقوط التكاليف الوجوبيّة مثلا بمجرّد إتيان متعلّقها، فلو كانت أعراضاً يلزم أن يكون ثبوت معروضها سبباً لانتفائها، ونحن لا نتصوّر عرضاً كذلك، وبالجملة: فهذا المعنى ممّا لا يمكن الالتزام به بوجه.
والحقّ أن يقال: إنّ الأحكام متنزعة من فعل المولى عارضة له قائمة به على نحو القيام الصدوري، غاية الأمر أنّ لها تعلّقاً وإضافةً إلى فعل المكلّف الصّادر منه في الخارج; لكونها من الاُمور ذات الإضافة، كما أنّ لها أيضاً إضافة إلى المكلّف، ومن المعلوم أنّ تحقّق الإضافة لا يتوقّف على ثبوت المضاف بها، فكما أنّا نعلم الاُمور التي ستوجد في الاستقبال، كذلك مكلّفون فعلا بالأمر الذي نوجده بعد تحقّق التكليف.
وحينئذ نقول: إن كان المراد بثبوت التضادّ بين الأحكام كونها متضادّة بحيث لا يمكن اجتماعها في آن واحد ولو كانت متعلّقاتها متبائنة، فبطلانه أظهر من أن يخفى. وإن كان المراد بها كونها متضادّة بحيث لا يمكن اجتماعها في آن واحد مع اتّحاد متعلّقها، فهو مسلّم، ولكن لا من حيث لزوم كون الفعل معروضاً لعرضين، بل من حيث امتناع قيامها كذلك بنفس المولى، ولكن لا يخفى أنّ ذلك غير مفيد فيما هو بصدده.
وإن كان المراد ذلك مع إمكان تصادق متعلّقها في وجود واحد، فنحن لا نتصوّر فيه الاستحالة بوجه، بل لو قيّد المولى أمره مثلا بالوجودات غير
(الصفحة 437)
المتّحدة مع عنوان محرّم، تلزم اللغويّة بعد وجود المصلحة الموجودة في سائر الأفراد في الفرد المحرّم أيضاً، وعدم الاستحالة يكشف عن عدم المضادّة بينها في هذه الصورة.
فالوجود الواحد بتمامه متعلّق للأمر لحيثيّة الصلاتيّة التي هي تمام المأمور به، وكذلك متعلّق للنهي لحيثيّة كونه تصرّفاً في مال الغير بغير إذنه، لا أن يكون معروضاً لعرضين، بل محمولا عليه الوجوب والتحريم على نحو الحمل الاشتقاقي.
وممّا ذكرنا ظهر الفرق بين ما قلناه في مقام الجواب، وبين ما يظهر من القائلين بالجواز من مقاربي عصرنا(1)، حيث إنّ ظاهرهم تسلّم كون الأحكام من قبيل الأعراض، وثبوت التضادّ بينها لذلك، غاية الأمر يتكلّفون في مقام الجواب لإثبات المغايرة والتنافي بين المتعلّقين، ولا يخفى أنّ إثباته في غاية الإشكال.
ثمّ إنّ ما ذكرنا لا ينافي القول ببطلان العبادة فيما إذا اتّحدت مع عنوان محرّم كالوضوء بماء الغير، والصلاة في المكان المغصوب، أو في الثوب كذلك; لأنّه وإن كان الأمر متعلّقاً بالوجود الخارجي المنطبق عليه عنوان محرّم، إلاّ أنّ صحّة العبادة مشروطة بكون الفعل صالحاً لأن يتقرّب به مع قصد التقرّب به أيضاً.
ومن الواضح: أنّه لا يكاد يكون ما يصدر من المكلّف على وجه العصيان والطغيان صالحاً لذلك أصلا، مع عدم إمكان قصد التقرّب به مع الالتفات إلى الحرمة الموجب لتنجّزها عليه.
- (1) فوائد الاُصول 1ـ2: 396ـ397.
(الصفحة 438)
ودعوى أنّه مستلزم لعدم كون ذلك الوجود مأموراً به، مدفوعة بناءً على ما يظهر من جماعة من عدم كون قصد التقرّب مأخوذاً في متعلّق الأمر، لا شطراً ولا شرطاً، بمنع استلزامه لذلك; إذ لا منافاة بين عدم إمكان قصد التقرّب، وكونه مأموراً به.
وأمّا بناءً على ما اخترناه في الاُصول من إمكان أخذه في متعلّق الأمر(1)، فصحّة تعلّقه به إنّما هي فيما إذا كانت الحرمة غير منجّزة للجهل بالموضوع أو الحكم أو للنسيان. وأمّا مع تنجّزها، فلا يكون مأموراً به، ويخرج حينئذ عن مورد النزاع، فتدبّر جيّداً.
[ حكم الصلاة في الشمشك والنعل السندي و... ]
مسألة: قال الشيخ(رحمه الله) في كتاب النهاية: لا يصلّي الرجل في الشُمشك; بضمّ الشين الأوّل وكسر الميم، أو ضمّها وسكون الشين الثاني، ولا النعل السندي، ويستحب الصلاة في النعل العربي، ولا بأس بالصلاة في الخفّين والجرموقين إذا كان لهما ساق(2). انتهى.
ويظهر عدم جواز الصلاة في الأوّلين من المحكيّ عن المفيد في المقنعة(3)، ويظهر من المحقق في الشرائع عدم اختصاص المنع بهما، بل يعمّ كلّ ما يستر ظهر القدم، حيث قال: لا تجوز الصلاة فيما يستر ظهر القدم كالشُمشك، ويجوز فيما له ساق، كالجورب والخفّ، ويستحب في النعل العربي(4).
أقول: الظاهر عدم ورود نصّ بهذا المعنى واصل إلينا مذكور في الجوامع
- (1) نهاية الاُصول: 111ـ123.
- (2) النهاية: 98.
- (3) المقنعة: 153; وكذا في المراسم: 64; والمهذّب 1: 75; والجامع للشرائع: 66.
- (4) شرائع الإسلام 1: 69.
(الصفحة 439)
الأربعة المتأخّرة التي بأيدينا، كما اعترف به المحقّق في المعتبر(1)، بل إنّما ذكره بعض الأصحاب في الكتب الموضوعة لإيراد الفتاوى المأثورة عن الأئـمّة(عليهم السلام)بعين الألفاظ الصادرة عنهم(عليهم السلام)، كالمقنعة، والنهاية، وهذا إنّما يكشف عن صدور نصّ منهم مذكور في الجوامع الأوّليّة، غاية الأمر أنّه لم يضبط في الجوامع الثانويّة.
وحينئذ، فالدليل لا يدلّ على أزيد من عدم جواز الصلاة في الشُمشك والنعل السندي، فالحكم بعدم الجواز في كلّ ما يستر ظهر القدم مبنيّ على استظهار أنّ مناط النهي عنهما هو كونهما ساترين لظهر القدم، مع عدم سترهما للساق; إذ ماكان ساتراً للظهر والساق معاً كالخفّ، يكون مقتضى الدليل جواز الصلاة فيه، وكذلك ما لا يكون ساتراً لظهر القدم كالنعل العربيّة; فإنّه قد ورد النصّ على جواز الصلاة فيه بل على استحبابها(2).
فيستظهر من ذلك أنّ الوجه في بطلان الصلاة فيهما، هو كونهما ساترين لظهر القدم دون الساق.
هذا، ولا يخفى ما فيه; لعدم الدليل على ذلك; إذ كما يحتمل أن يكون المنع عن الصلاة فيهما لأجل ما ذكر، يحتمل أيضاً أن يكون لأجل أنّهما مانعان عن وصول الإبهام، أو سائر الأصابع إلى الأرض في حال السجود، مع أنّه معتبر فيه بلا ريب، ويحتمل غير ذلك من الوجوه، وحينئذ فالتعدّي عنهما إلى كلّ ما يستر ظهر القدم فقط يحتاج إلى دليل معيّن للاحتمال الأوّل، ومن المعلوم عدمه.
- (1) المعتبر 2: 93.
- (2) وسائل الشيعة 4: 424ـ428، أبواب لباس المصلّي، ب37 و 38.
(الصفحة 440)
ثمّ إنّ الظاهر باعتبار عدم ورود لفظ الشُمشك في كتب لغة العرب على ماتتبّعنا أنّه معرّب چمشك، أو چمش، وهما على ما حكاه بعض نوع من الأحذية له رأس مانع عن وصول الأصابع إلى الأرض، بل إلى رأسه، ويستر أكثر ظهر القدم، ثمّ إنّه بناءً على التعميم هل يكون المنع مختصّاً بما يستر جميع ظهر القدم، أو يعمّ ما يستر أكثره أو ولو بعضه؟ الظاهر هو الثاني كما لا يخفى.
وأيضاً الظاهر اختصاص الحكم بما يكون معدّاً لأن يمشى به، فلا يعمّ مثل الجورب المنسوج من القطن أو الصوف إذا لم يكن ساتراً للساق. نعم، الأقوى الحكم بمنع الصلاة فيهما فيما إذا لزم من الصلاة فيهما الإخلال ببعض ما يعتبر فيها، كوصول الأصابع إلى الأرض أو إلى ما يتّصل بها، وفي غير هذه الصورة الأحوط ذلك.