(الصفحة 467)
ثالثها: قوله(عليه السلام): «وما كان أقلّ من ذلك»، وظاهرها أنّ الدم إذا كان أقلّ من مقدار الدرهم لا يترتّب عليه أثر; سواء فيه الرؤية وعدمها، وهذه الجملة كالتأكيد للجملة الثانية المقيّدة بالقيد المذكور، وكالتقييد بالنسبة إلى الجملة الاُولى الدالّة على وجوب الطرح، حيث إنّها تقيّدها بما إذا كان الدم أكثر من مقدار الدرهم، كما تقدّمت الإشارة إليه.
رابعها: قوله(عليه السلام): «وإذا كنت قد رأيته» إلخ، والمراد أنّه لو كان الدم أكثر من مقدار الدرهم، وقد رأيته قبل الشروع في الصلاة وضيّعت غسله، والمراد به إمّا عدم الغسل أصلا، أو الغسل مع عدم المبالاة في إزالة الدم، وصلّيت فيه صلاة كثيرة فتجب عليك الإعادة، وقد عرفت أنّ الصلاة في هذه الصورة لا تتحقّق من المكلّف المريد للامتثال العالم بشرطيّة الطهارة، إلاّ مع نسيان نجاسة الثوب.
فهذه الجملة متعرّضة لحكم النسيان، ولا دلالة لها على حكم صورة الجهل بالنجاسة أصلا، كما لا يخفى، ومن الواضح: أنّه لا دلالة لهذه الجمل الثلاثة الأخيرة على التفصيل المتقدّم.
هذا كلّه بناءً على ما هو الموجود في نسخ الكافي التي بأيدينا(1). وأمّا بناءً
- (1) قال سيّدنا العلاّمة الاُستاذ دام ظلّه: إنّه لا تخلو الرواية المذكورة عن الاضطراب بناءً على رواية الكافي; إذ لا بدّ من تقييد الجملة الاُولى بما إذا كان الدم زائداً على مقدار الدرهم، كما يدلّ عليه قوله(عليه السلام) فيما بعد: «وما كان أقلّ من ذلك».
وحينئذ فيصير مناط الفرق بين الجملة الاُولى، الدالّة على الأمر بالطرح، وبين الجملة الثانية، الدالّة على وجوب المضيّ في الصلاة، وعدم وجوب الإعادة هو: كون الدم زائداً على مقدار الدرهم في الاُولى، وكونه أقلّ من ذلك في الثانية، مع أنّ الظاهر من الرواية هو كون المناط وجدان ثوب آخر في الاُولى، وعدمه في الثانية.
هذا، ويمكن أن يقال: إنّ تقييد الجملة الاُولى بالدم المانع وإن كان مسلّماً، إلاّ أنّه لا يوجب أن يكون مناط الفرق ما ذكره دام ظلّه; إذ فيما إذا كان الدم زائداً على مقدار الدرهم، ولم يكن المصلّي واجداً لثوب آخر; بمعنى أنّه لا يتمكّن من الإزالة، يكون مفهوم الجملة الثانية بطلان الصلاة ووجوب الإعادة، مع أنّه لو كان مناط الفرق بين الجملتين ما ذكره الاُستاذ، يلزم صحّة الصلاة في الفرض المذكور، وهو خلاف مدلول الرواية، كما لا يخفى «منه».
(الصفحة 468)
على ما رواه الشيخ في التهذيب كما تقدّم، فالرواية أشبه بكونها صادرة من الإمام(عليه السلام); لخلوّها حينئذ عن التكرار. نعم، مدلول الجملة الثانية الواردة فيما إذا كان الدم زائداً على مقدار الدرهم يصير حينئذ مخالفاً لما عليه المشهور(1); من بطلان الصلاة مع عدم التمكّن من إزالة النجاسة، كما هو مقتضى أدلّة شرطيّة الطهارة.
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الأقوى في مسألة الجهل التفصيل بين ما إذا تبيّن وقوع الصلاة في النجاسة بعد الفراغ عنها فتصحّ، وبين ما إذا انكشف وقوع بعضها فيها في الأثناء فتبطل، كما هو مدلول صحيحة زرارة المتقدّمة.
وقد عرفت أنّ الأقوى أيضاً صحّة الصلاة فيما إذا احتمل حدوثها بعدها، أو في الأثناء، غاية الأمر أنّه يجب عليه في الصورة الثانية إزالة النجاسة وإتمام الصلاة مع الطهارة فيما إذا كان متمكّناً من تحصيلها، ومع عدم التمكّن تبطل الصلاة وتجب عليه الإعادة في سعة الوقت.
وأمّا مع ضيقه بحيث لم يتمكّن من الإتيان بها في الوقت مع مراعاة شرطيّة الطهارة، فيجب عليه المضيّ فيها والإتمام من دون إعادة; لما عرفت ممّا تقدّم أنّ مقتضى التتبّع والاستقراءفي موارد معارضة الوقت مع سائرالشروط،ترجيح مراعاة الوقت على مراعاة سائرالشروط، ومرجع ذلك إلى سقوط شرطيّتها عند
- (1) المبسوط 1: 38 و 90; النهاية: 96; شرائع الإسلام 1: 54; المعتبر 1: 443; نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 385; مدارك الأحكام 2: 351ـ353; الحدائق الناضرة 5: 426ـ436; مفتاح الكرامة 1: 529ـ532; مستند الشيعة 4: 265ـ270; جواهر الكلام 6: 352ـ361.
(الصفحة 469)
المعارضة مع الوقت.
هذا كلّه فيما إذا صلّى في النجاسة مع عدم سبق العلم بها قبل الصلاة.
وأمّا إذا علم بنجاسة ثوبه أو بدنه قبلها وصلّى فيها مع النسيان أو اعتقاد الخلاف; إذ لا تتحقّق الصلاة من العالم بالنجاسة قبلها، المريد للامتثال، المتوجّه إلى شرطيّة الطهارة إلاّ مع طروّ عارض من النسيان أو الجهل المركّب، فالمسألة من حيث وجوب الإعادة مطلقاً وعدمه كذلك.
والتفصيل بين الوقت وخارجه محلّ خلاف بين الأصحاب(1)، ومنشؤه اختلاف الأخبار الواردة في حكمها، فطائفة منها ظاهرة في وجوب الإعادة، وطائفة اُخرى تدلّ على عدمه، وواحدة منها ظاهرة الدلالة على التفصيل.
أمّا الطائفة الاُولى: فكثيرة:
منها: صحيحة زرارة المتقدّمة; فإنّ الجواب عن سؤاله الأوّل يدلّ على وجوب غسل الثوب وإعادة الصلاة.
ومنها: رواية عبدالله بن سنان ـ المرويّة في الكافي ـ قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام)عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال(عليه السلام): إن كان علم أنّه أصاب ثوبه جنابة قبل أن يصلّي ثمّ صلّى فيه ولم يغسله، فعليه أن يعيد ما صلّى(2).
- (1) الاستبصار 1: 184; الخلاف 1: 479، مسألة 221; المبسوط 1: 13، 38 و 90; المعتبر 1: 441ـ442; المختصر النافع: 65; تذكرة الفقهاء 2: 490ـ491، مسألة 130; مختلف الشيعة 1: 241ـ244; تحرير الأحكام 1: 165، الرقم 534; إرشاد الأذهان 1: 240; ذكرى الشيعة 1: 140ـ141; الدورس الشرعيّة 1: 127; جامع المقاصد 1: 150; مدارك الأحكام 2: 345ـ348; الحدائق الناضرة 5: 418ـ426; مفتاح الكرامة 1: 521ـ525; مستند الشيعة 4: 255ـ262.
- (2) الكافي 3: 406، ح9; تهذيب الأحكام 2: 359، ح1488; الاستبصار 1: 182، ح636; وعنها وسائل الشيعة 3: 475، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب40، ح3.
(الصفحة 470)
ومنها: رواية ابن مسكان قال: بعثت بمسألة إلى أبي عبدالله(عليه السلام) مع إبراهيم بن ميمون، قلت: سله عن الرجل يبول فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله، فيصلّي ويذكر بعد ذلك أنّه لم يغسلها؟ قال(عليه السلام): يغسلها ويعيد صلاته. ورواه الكليني من غير تفاوت(1).
ومنها: رواية سماعة قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتّى يصلّي؟ قال: يعيد صلاته كي يهتمّ بالشيء إذا كان في ثوبه، عقوبة لنسيانه(2).
ومنها: غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة فيمن نسي الاستنجاء حتّى صلّى(3).
وأمّا الطائفة الثانية: فكثيرة أيضاً:
منها: رواية العلاء، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشيء ينجّسه، فينسى أن يغسله فيصلّي فيه، ثمّ يذكر أنّه لم يكن غسله، أيعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد، قد مضت الصلاة وكُتبت له(4).
ومنها: ما رواه هشام بن سالم، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الرجل يتوضّأ وينسى أن يغسل ذكره وقد بال، فقال(عليه السلام): يغسل ذكره ولا يعيد الصلاة(5).
- (1) تهذيب الأحكام 2: 359، ح1486; الاستبصار 1: 181، ح633; الكافي 3: 406، ح10; وعنها وسائل الشيعة 3: 480، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب42، ح4.
- (2) تهذيب الأحكام 1: 254، ح738; الاستبصار 1: 182، ح638; وعنهما وسائل الشيعة 3: 480، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب42، ح5.
- (3) وسائل الشيعة 1: 317ـ319، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، ب10.
- (4) تهذيب الأحكام 1: 423، ح1345; وج2: 360، ح1492; الاستبصار 1: 183، ح642; وعنهما وسائل الشيعة 3: 480، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب42، ح3.
- (5) تهذيب الأحكام 1: 48، ح140; الاستبصار 1: 54، ح157; وسائل الشيعة 1: 318، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، ب10، ح2.
(الصفحة 471)
ومنها: ما رواه عمّار بن موسى قال: سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول: لو أنّ رجلا نسي أن يستنجي من الغائط حتّى يصلّي لم يعد الصلاة(1).
وأمّا الرواية التي يستفاد منها التفصيل، وتجعل شاهدة للجمع بين الطائفتين الاُوليين، فهي رواية عليّ بن مهزيار قال: كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره: أنّه بال في ظلمة الليل، وأنّه أصاب كفّه برد نقطة من البول لم يشكّ أنّه أصابه ولم يره، وأنّه مسحه بخرقة ثمّ نسي أن يغسله، وتمسّح بدهن فمسح به كفّيه ووجهه ورأسه، ثمّ توضّأ وضوء الصلاة فصلّى؟ فأجابه بجواب قرأته بخطّه:
أمّا ما توهّمت ممّا أصاب يدك فليس بشيء إلاّ ما تحقّق، فإن حقّقت ذلك كنت حقيقاً أن تعيد الصلوات اللّواتي كنت صلّيتهنّ بذلك الوضوء بعينه ما كان منهنّ في وقتها، وما فات وقتها فلا إعادة عليك لها، من قبل أنّ الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلاّ ما كان في وقت، وإذا كان جنباً أو صلّى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته; لأنّ الثوب خلاف الجسد، فاعمل على ذلك إن شاء الله(2).
أقول: لا يخفى أنّ الرواية في كمال الاضطراب من حيث المتن، بحيث ربما يحصل الوثوق والاطمئنان بعدم كونها صادرة عن المعصوم(عليه السلام)، خصوصاً مع كونها مضمرة، وكون السائل مجهول الحال، وإن كان المظنون صدورها عنه(عليه السلام)، باعتبار أنّ عليّ بن مهزيار لا يروي عن غير الامام(عليه السلام)، ووجه الإضمار أنّه أشار
- (1) تهذيب الأحكام 2: 201، ح789; وج1: 49، ح143; الاستبصار 1: 55، ح159; وعنهما وسائل الشيعة 1: 318، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، ب10، ح3.
- (2) تهذيب الأحكام 1: 426، ح1355; الاستبصار 1: 184، ح643; وعنهما وسائل الشيعة 3: 479، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب42، ح1.