(الصفحة 57)
أقول: يرد عليه أوّلا: ما عرفت من أنّ الروايات الدالّة على كون نافلة المغرب ركعتين، أو نافلة العصر أربعاً أو ركعتين، أو نافلة الزوال أربعاً، متروكة غير معمول بها بين الأصحاب رضوان الله عليهم بعد زمن الرضا(عليه السلام); فلا يجوز الاعتماد عليها في إثبات ما هو بصدده.
هذا، مضافاً إلى أنّه لو ثبت ذلك يجب الاقتصار فيها على موردها; أعني المغرب والعصر، ولا يجوز التعميم بالنسبة إلى نافلة الزوال أيضاً، بعدما عرفت(1)من أنّ الرواية الدالّة على ذلك ـ مضافاً إلى ضعف سندها ـ محمولة على التقيّة; لموافقتها لفتوى أبي حنيفة; فالحمل على اختلاف مراتب الاستحباب إنّما هو في غير نافلة الزوال، فتدبّر.
وثانياً: أنّ ما ذكره من جواز الاقتصار على الركعتين، أو الستّ ركعات في نافلة العصر مستنداً إلى ما ذكره من الروايات، ممنوع جدّاً; لوضوح أنّه لا منافاة بين الروايات الدالّة على الثمان بنحو الاجتماع، وبين الروايات الدالّة على الثمان بنحو الافتراق، وقد عرفت ظهور الطائفة الاُولى في الارتباط بين الأجزاء وكون المجموع نافلة العصر، وهذا لا ينافي جواز التفريق في مقام العمل الذي يدلّ عليه الطائفة الثانية; فانّه لما كان من سيرتهم التفريق بين فريضتي الظهر والعصر، والإتيان بكلّ منهما في وقت فضيلته، كما هو المتداول الآن بين أهل السنّة، فلذا كانوا قد يأتون ببعض نافلة العصر أيضاً بعد الإتيان بفريضة الظهر.
وبالجملة: جواز التفريق والإتيان بالنافلة في وقتين أمر، والارتباط وكون المجموع من حيث هو مجموع نافلة واحدة مسمّـاة بنافلة العصر أمر آخر،
(الصفحة 58)
فلا منافاة بين الروايات الدالّة على الأمر الأوّل، وبين الروايات الظاهرة في الأمر الثاني.
وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الظاهر في كلّ نافلة مركّبة من أزيد من صلاة هو الارتباط ووحدة الأمر، وأنّ اختلاف بعض الأخبار في عدد الركعات لا يدلّ على الخلاف، فضلا عن الأخبار التي لا تخالف الروايات المعمول بها في أصل العدد، بل تخالفها في الجمع والتفريق، كخبر سليمان بن خالد المتقدّم الدالّ على الإتيان بستّ ركعات من نافلة العصر بعد الظهر، وبركعتين منها قبل فريضة العصر.
وخبر رجاء بن أبي الضحاك الدالّ على أنّ الرضا(عليه السلام) صلّى ستّاً من نافلة الظهر، ثمّ أذّن ثمَّ صلّى ركعتين منها، وكذا نافلة العصر(1); فإنّه لا يدلّ على استقلال ستّ ركعات، وكونها نافلة مستقلّة، بل التفريق والإتيان بالستّ قبل الأذان، وبالركعتين بينه وبين الإقامة، لعلّه كان من جهة تحقّق الفصل المستحبّ بين الأذان والإقامة.
الأمر الثاني: روى الشيخ في المصباح عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: من صلّى بين العشاءين ركعتين يقرأ في الاُولى الحمد (وَ ذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـضِبًا ـ إلى قوله : ـ وَ كَذَ لِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ)(2)، وفي الثانية الحمد وقوله: (وَعِندَهُو مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ)(3) الآية، فإذا فرغ من القراءة رفع يديه وقال: اللّهمَّ انّي أسألُكَ بمفاتح الغيب التي لا يعلمها إلاّ أنت، أن تصلّي على محمّد وآل محمّد، وأن تفعل بي كذا وكذا، وتقول: اللهمَّ أنت وليّ نعمتي، والقادر
- (1) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 180ـ181، قطعة من ح5; وعنه وسائل الشيعة 4: 55، أبواب أعداد الفرائض، ب13، ح24.
- (2) سورة الأنبياء 21: 87ـ88.
(الصفحة 59)
على طلبتي، تعلم حاجتي، فأسألك بحقِّ محمّد وآله لمّا قضيتها لي، وسأل الله حاجته أعطاه الله ما سأل(1).
وعن السيّد رضيّ الدين بن طاووس(رحمه الله) في كتاب فلاح السائل بإسناده عن هشام بن سالم نحوه، وزاد: فإنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: لا تتركوا ركعتي الغفيلة وهما ما بين العشاءين(2).
والنقل عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) يحتمل أن يكون صادراً من السيّد(رحمه الله)، ويحتمل أن يكون من كلام الإمام(عليه السلام) وإن كان الثاني أظهر.
وروى الصدوق مرسلا قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين; فإنّهما تورثان دار الكرامة. قال: وفي خبر آخر: دار السلام وهي الجنّة، وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء الآخرة(3). والظاهر أنّ قوله: وساعة الغفلة إلخ، من كلام الصدوق لا تتمّة للرواية.
وروى سماعة ووهب بن وهب والسكوني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه(عليهما السلام)قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين; فإنّهما تورثان دار الكرامة(4).
وزاد الشيخ في التهذيب بعد نقل الرواية عن السكوني، قيل: يا رسول الله وما ساعة الغفلة؟ قال: ما بين المغرب والعشاء.
وعن السيّد بن طاووس في الكتاب المذكور أنّه روى هذه الرواية أيضاً وزاد،
- (1) مصباح المتهجّد: 106ـ107; وعنه وسائل الشيعة 8: 121، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، ب20، ح2.
- (2) فلاح السائل: 431، ح295; وعنه مستدرك الوسائل 6: 303، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، ب15، ح6875.
- (3) الفقيه 1: 357، ح1564; وعنه وسائل الشيعة 8: 120، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، ب20، ح1.
- (4) علل الشرائع: 343، ح1; ثواب الأعمال: 68; أمالي الصدوق: 648، ح882; معاني الأخبار: 265، ح1; تهذيب الأحكام 2: 243، ح963; وعنها وسائل الشيعة 8: 120ـ121، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، ب20، ذ ح1.
(الصفحة 60)
قيل: يا رسول الله وما معنى خفيفتين؟ قال: يقرأ فيهما الحمد وحدها. قيل: يارسول الله فمتى اُصلّيها؟ قال: ما بين المغرب والعشاء(1).
وعن الصدوق في الفقيه، عن الباقر(عليه السلام): إنّ إبليس يبثّ جنود الليل من حين تغيب الشمس إلى مغيب الشفق، ويبثّ جنود النهار من حين يطلع الفجر إلى مطلع الشمس. وذكر أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان يقول: أكثروا ذكر الله ـ عزّ وجلّ ـ في هاتين الساعتين، وتعوّذوا بالله ـ عزّ وجلّ ـ من شرّ إبليس وجنوده، وعوّذوا صغاركم في هاتين الساعتين; فإنّهما ساعتا غفلة(2)، انتهى.
وروى الشيخ في المصباح عن الصادق، عن آبائه(عليهم السلام)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)قال: أُوصيكم بركعتين بين العشاءين، يقرأ في الاُولى الحمد وإذا زلزلت الأرض ثلاث عشرة مرّة، وفي الثانية الحمد مرّة وقل هو الله أحد خمس عشرة مرّة; فإنّه من فعل ذلك في كلّ شهر كان من الموقنين، فإن فعل ذلك في كلّ سنة كان من المحسنين، فإن فعل ذلك في كلّ جمعة مرّة كان من المخلصين، فإن فعل ذلك مرّة كلّ ليلة زاحمني في الجنّة، ولم يحص ثوابه إلاّ الله تعالى(3).
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يقع الكلام هنا في جهتين: إحداهما: اتّحادالتنفّل المأمور به في ساعة الغفلة مع صلاة الغفيلة التي تضمّنتها رواية هشام بن سالم المتقدّمة، وكذا مع صلاة الوصيّة التي تدلّ عليها الرواية الأخيرة وعدمه، والاُخرى: اتّحاد صلاة الغفيلة أو الوصيّة مع نافلة المغرب وعدمه.
- (1) فلاح السائل: 430، ح294، وص434، ح301; وعنه مستدرك الوسائل 6: 302ـ303، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، ب15، ح6874.
- (2) الفقيه 1: 318، ح1444; وعنه وسائل الشيعة 6: 496، أبواب التعقيب، ب36، ح5.
- (3) مصباح المتهجّد: 107; وعنه وسائل الشيعة 8: 118، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، ب17، ح1.
(الصفحة 61)
فنقول: أمّا الكلام في الجهة الاُولى، فملخّصه: أنّ الظاهر هو التعدّد وإن جاز التداخل في مقام الامتثال; لوضوح أنّ الرواية الدالّة على مطلوبيّة مطلق التنفّل في ساعة الغفلة، إنّما تدلّ على أنّ المطلوب هو عدم خلوّ هذا الزمان الذي هو زمان الغفلة من التنفّل الذي يكون حقيقته التوجّه إلى المعبود، والتخضّع والتخشّع لديه، فالمطلوب فيه أمر عامّ ينطبق على القليل والكثير، ولا دلالة لها على كيفيّة مخصوصة ونحو خاصّ.
والرواية الاُخرى تدلّ على استحباب ركعتين بالكيفيّة الخاصّة، وهو عنوان آخر يغاير العنوان المأخوذ في تلك الروايات من حيث المفهوم، ولكن لا يأبى من الاجتماع معه في الخارج ومقام الامتثال; فهذان العنوانان في عالم تعلّق الطلب والأمر متغايران، ولذا يجوز تعلّق أمر مستقلّ بكلّ منهما، وفي عالم الامتثال والوجود الخارجي يمكن تصادقهما على أمر واحد.
وبعبارة أُخرى: لـمّا كان من سيرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) التفريق بين المغرب والعشاء، والإتيان بكلّ منهما في وقت فضيلته، فكان يأتي بالعشاء بعد ذهاب الشفق، كما هو المتداول الآن بين المسلمين من أهل السنّة، فلذا يفصل بين الصلاتين زمان قهراً، وكان الناس في ذلك المقدار من الزمان مجتمعين على ذكر الاُمور الباطلة، والاشتغال باللغو والغيبة، ولا أقلّ من الاُمور الدنيويّة، فلذا وقع الحثّ والتحريض على صرف هذا الزمان في ذكر الله الذي هو عبارة عن الصلاة التي حقيقتها التوجّه إلى الخالق المعبود بنحو الخضوع والخشوع، فالمطلوب هو مطلق التنفّل المانع عن الاشتغال بالاُمور الدنيويّة.
ومن الواضح: تحقّق هذا المطلوب بالإتيان بصلاة الغفيلة بكيفيّتها المخصوصة; لوجود الأعمّ في ضمن الأخصّ، وهذا لا ينافي تعلّق أمر مستقلّ بكلّ منهما; لأنّ