(الصفحة 64)
نعم، يمكن تصادقهما في الخارج وفي مقام الامتثال; لأنّ نافلة المغرب لا تكون
مشروطة بصورة خاصّة، وكيفيّة مخصوصة مغايرة لصورة الغفيلة، والغفيلة أيضاً لا تكون مشروطة بالإتيان بها بعد نافلة المغرب أو قبلها حتّى لا يمكن تصادقهما، بل نافلة المغرب مطلقة من حيث الكيفيّة، والغفيلة مطلقة من حيث الوقت بالإضافة إلى نافلة المغرب، فلا إشكال حينئذ في الإتيان بركعتين بصورة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب أيضاً، ويتحقّق الامتثال بالنسبة إلى كلا الأمرين.
نعم، بناءً على ما ذكرنا سابقاً من أنّ نافلة المغرب نافلة واحدة مركّبة من صلاتين مرتبطتين، تكون الركعتان منها المأتيّ بهما بعنوان صلاة الغفيلة أيضاً مأموراً بهما بالأمر الاستقلالي، بالنظر إلى كونهما صلاة الغفيلة، وبالأمر الضمني من جهة كونهما جزءاً من نافلة المغرب التي تعلّق بمجموعها أمر واحد; فالركعتان امتثال للأمر الاستقلالي والضمني معاً، فبالاعتبار الأوّل يكون تامّاً، وبالاعتبار الثاني يكون غير تامّ.
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّه بناءً على الوجه الأوّل ليس هناك إلاّ مستحبّ واحد، وعلى الوجه الثاني هناك مستحبّان متبائنان لا يمكن تداخلهما، وعلى الوجه الثالث مستحبّان يمكن تداخلهما.
واعلم أنّه حيث كان التفريق بين العشاءين وتأخير العشاء الآخرة إلى ذهاب الشفق، ممّا استقرّت عليه سيرة المسلمين في الصدر الأوّل، فلذا يكون المتبادر من قوله(عليه السلام): «من صلّى بين العشاءين ركعتين» هو الصلاة بين الوقتين اللّذين يصلّى فيهما الفريضتان; أعني من ذهاب الحمرة إلى زوال الشفق، وحينئذ فالمتبادر كون وقت الغفيلة هو ما بين المغرب والعشاء المأتيّ بهما في وقت فضيلتهما، لا ما بينهما وإن أخّر العشاء إلى نصف الليل، كما لا يخفى.
(الصفحة 65)
ثمّ إنّه بناءً على تغاير الغفيلة مع صلاة الغفلة، أو مع نافلة المغرب، وجواز التداخل في مقام الامتثال، فهل يجب قصد كلا العنوانين في تحقّقهما، أو يكفي قصد أحدهما في سقوط الأمر المتعلّق بهما إذا كان المأتيّ به منطبقاً عليه كلا العنوانين، كما إذا صلّى ركعتين بكيفيّة صلاة الغفيلة؟ وجهان، وتحقيق الحقّ موقوف على بيان المراد من قصد التعيين وحكمه، والإشارة إلى الموارد التي يجب فيها ذلك.
فنقول: قد يتوهّم أنّ قصد التعيين من شؤون قصد امتثال الأمر، فيقال: إنّه لو كان هناك عنوانان مشتركان في المصاديق، بحيث يجوز أن تكون صورة
واحدة مصداقاً لهذا العنوان تارة، ولذلك العنوان أُخرى، فإن كان المكلّف مأموراً بكلا العنوانين، يجب عليه في مقام الامتثال تعيين العنوان الذي يريد امتثال أمره; وإن لم يكن مأموراً إلاّ بأحدهما لم يجب عليه التعيين، بل يكفي قصد امتثال الأمر المتوجّه إليه.
وهذا التوهّم بمكان من البطلان; لعدم ارتباط مسألة قصد التعيين بمسألة قصد الامتثال.
والتحقيق في المسألة أن يقال: إنّ العناوين الواقعة تحت الأمر على قسمين:
الأوّل: العناوين القصديّة التي تكون انطباقها على العمل الخارجي موقوفاً على قصدها، بحيث لا يصير العمل الخارجي مصداقاً لها، ومنطبقاً عليه لشيء منها إلاّ بالقصد، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون هذا العنوان متعلّقاً للأمر أم لا، وأمثلة هذا القسم كثيرة:
فمنها: عنوان التعظيم; فإنّه لا ينطبق على شيء من الأفعال المأتيّ بها في هذا المقام إلاّ مع ضميمة قصد عنوان التعظيم إليها.
ومنها: عنوان الظهريّة والعصريّة ونحوهما من عناوين الصلوات المفروضة;
(الصفحة 66)
فإنّ انطباقها على صورة الصلاة المأتيّ بها خارجاً ـ المشتركة بين العناوين الكثيرة ـ يتوقّف على ضمّ قصد شيء من تلك العناوين إليها; والدليل على ذلك الأدلّة الواردة في العدول(1)، الدالّة على العدول من العصر إلى الظهر إذا ذكر في أثناء العصر أنّه لم يأت بالظهر بعد. وكذا العدول من العشاء إلى المغرب; فإنّه لو لم تكن الظهرية والعصرية من العناوين القصدية، وكان الظهر اسماً لأربع ركعات مأتيّ بها بعد الزوال أوّلا، لم يمكن الدخول في العصر قبل الإتيان بالظهر حتّى يصحّ العدول من العصر إليها، كما لا يخفى.
الثاني: العناوين التي لا يتوقّف انطباقها على الصورة الخارجيّة على قصدها، بل تنطبق عليها بنفس تحقّقها ولو لم يقصد شيئاً منها.
إذا عرفت ذلك نقول: إنّه لو كان العنوان المأخوذ في متعلّق الأمر من العناوين القصديّة، فاللاّزم في مقام الامتثال الإتيان بالمأمور به مع قصد عنوانه; لعدم تحقّق المأمور به بدونه; وهذا لا فرق فيه بين اشتراك صورة العمل بين عنوانين أو العناوين المتكثّرة، أم لا. وكذا لا فرق بين تعلّق الأمر بعنوان واحد، أم بأكثر. وإن كان من القسم الثاني، فلا يجب قصد العنوان في شيء من الصور; ومن ذلك ظهر أنّ قصد عنوان المأمور به ليس من شؤون قصد الامتثال ومرتبطاً به حتّى يجب مع تعدّد الأمر دون وحدته، كما توهّم.
إذا ظهر لك ما ذكرنا نقول: لا شك في أنّ النوافل الراتبة تكون من العناوين القصديّة التي لا تنصرف صورة الصلاة إليها إلاّ بعد قصدها، كما أنّه لا شك في عدم كون صلاة الغفلة من تلك العناوين; لما عرفت من أنّ المقصود منها هو عدم إخلاء
- (1) وسائل الشيعة 4: 290، أبواب المواقيت، ب63، ح1، 3 و 5.
(الصفحة 67)
الوقت من الصلاة، وصرفها في غيرها من الاُمور الدنيويّة، وحينئذ فالتداخل لا يتوقّف على قصد كلا العنوانين، بل يكفي قصد الغفيلة والإتيان بها. نعم، يبقى الإشكال في مثل صلاة الغفيلة والوصيّة ونحوهما، وأنّه هل تكون من العناوين القصديّة، فلا يكفي الإتيان بصورتها من دون قصد عنوانها، أم لا تكون كذلك، فيكفي الإتيان بمجرّد صورتها وإن قصد بها نافلة المغرب مثلا؟ فيه وجهان.
الأمر الثالث: الظاهر تسالم الفقهاء إلى زمن الشهيد الأوّل(قدس سره) على ثبوت الجلوس في نافلة العشاء المسمّـاة بالوتيرة، ولم يفت أحد منهم بجواز القيام فيها، والمذكور في كتب القدماء ـ المعدّة لبيان الفتاوى المأثورة عن الأئـمّة(عليهم السلام)بعين ألفاظها الصادرة عنهم ـ أنّ الثابت بعد فريضة العشاء ركعتان من جلوس تعدّان بركعة من قيام(1)، كما ورد هذا التعبير في الأخبار الكثيرة:
منها: رواية البزنطي المتقدّمة(2).
ومنها: رواية الفضل بن شاذان المتقدّمة(3) أيضاً.
ومنها: خبرا فضيل بن يسار الدالاّن على أنّ مجموع الفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، منها: ركعتان بعد العتمة جالساً تعدّان بركعة وهو قائم(4).
ومنها: رواية الأعمش، عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام) في حديث شرائع الدين قال: وصلاة الفريضة: الظهر أربع ركعات، والعصر أربع ركعات ـ إلى أن قال: ـ والسنّة
- (1) الهداية: 132; المقنعة: 91; جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3: 31; النهاية: 119; المبسوط 1: 71; المهذّب 1: 68; غنية النزوع: 106; الوسيلة: 81; السرائر 1: 193; الجامع للشرائع: 58.
- (2) في ص48.
- (3) في ص49.
- (4) الكافي 1: 266، ح4، وج3: 443، ح2; تهذيب الأحكام 2: 4، ح2; الاستبصار 1: 218، ح772; وعنها وسائل الشيعة 4: 45ـ46، أبواب أعداد الفرائض، ب13، ح2 و 3.
(الصفحة 68)
أربع وثلاثون ركعة: منها: أربع ركعات بعد المغرب لا تقصير فيها في السفر والحضر، وركعتان من جلوس بعد العشاء الآخرة تعدّان بركعة(1).
ومنها: خبر أبي عبدالله القزويني قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن علي الباقر(عليهما السلام): لأيّ علّة تصلّى الركعتان بعد العشاء الآخرة من قعود؟ فقال: لأنّ الله فرض سبع عشرة ركعة، فأضاف إليها رسول الله(صلى الله عليه وآله) مثليها، فصارت إحدى وخمسين ركعة، فتعدّان هاتان الركعتان من جلوس بركعة(2).
ومنها: رواية هشام المشرقي، عن الرضا(عليه السلام) في حديث قال: إنّ أهل البصرة سألوني فقالوا: إنّ يونس يقول: من السنّة أن يصلّي الإنسان ركعتين وهو جالس بعد العتمة؟ فقلت: صدق يونس(3).
ومنها: غير ذلك من الروايات الظاهرة أو المشعرة بذلك.
وقد عرفت أنّ الفتاوى قبل الشهيد(قدس سره) كانت متطابقة على العمل بهذه الروايات الكثيرة الدالّة على ثبوت الجلوس في الوتيرة، بحيث لو فرضنا أنّنا كنّا في زمان الشهيد لكنّا نحكم بعدم جواز الفتوى بالقيام; لأنّه خرق لإجماع الطائفة.
وكيف كان، فهنا روايتان ظاهرتان في جواز القيام، بل وأفضليّته من القعود.
الاُولى: رواية الحارث بن المغيرة النصري قال: سمعت أبا عبدالله(عليه السلام)يقول: صلاة النهار ستّ عشرة ركعة: ثمان إذا زالت الشمس، وثمان بعد الظهر، وأربع ركعات بعد المغرب، يا حارث! لا تدعهنّ في سفر ولا حضر، وركعتان بعد العشاء
- (1) الخصال: 603، ح9; وعنه وسائل الشيعة 4: 57، أبواب أعداد الفرائض، ب13، ح25.
- (2) علل الشرائع: 330، ح1; وعنه وسائل الشيعة 4: 96، أبواب أعداد الفرائض، ب29، ح6.
- (3) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشي»: 490، الرقم 934; وعنه وسائل الشيعة 4: 97، أبواب أعداد الفرائض، ب29، ح9.