(الصفحة 89)
فعملتم أنتم، فغضب اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملا وأقلّ أجراً. فقال: هل نقصتكم من حقّكم شيئاً؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء(1).
هذا، ولكن لا يخفى قصور الرواية عن الدلالة على مقصود هذا القائل.
وأمّا القول الرابع: ـ الذي ذهب إليه مالك وغيره ـ فلم يذكر له مستند، ولعلّه أخذه من الصادق(عليه السلام); لكثرة تردّده إليه وارتباطه معه، ولكنّه أخفاه تقيّة أو لغيرها.
وأمّا الإماميّة رضوان الله عليهم، فالمسألة محلّ خلاف بينهم أيضاً، وأقوالهم ربما ترتقي إلى عشرة، كما حكاها في مفتاح الكرامة(2)، ولكن لا حاجة إلى التطويل بنقل الجميع، والمهمّ منها أربعة:
أحدها: ما ذهب إليه الشيخ(رحمه الله)في بعض كتبه; من أنّ آخر وقت المختار إذا صار ظلّ كلّ شيء مثله(3).
ثانيها: ما ذهب إليه أيضاً في بعض كتبه; من أنّ آخره قدمان، وفي موضع آخر أربعة أقدام(4).
ثالثها: صيرورة الفي بقدر الذراع أو سبعي الشاخص، حكي هذا القول عن المفيد، وابن أبي عقيل(5).
رابعها: بقاء وقته إلى أن يبقى إلى الغروب مقدار العصر، وهو اختيار
- (1) كذا في تذكرة الفقهاء 2: 305; ورواه في صحيح البخاري 3: 68، ح2268; والسنن الكبرى للبيهقي 9: 35، ح11848 باختلاف.
- (2) مفتاح الكرامة 5: 58ـ61.
- (3) المبسوط 1: 72; الخلاف 1: 257ـ259، مسألة 4; والجمل والعقود (رسائل العشر) 1: 174; على ما في مختلف الشيعة 2: 10.
- (4) النهاية: 58ـ59، ولم نعثر على قوله: «قدمان» عاجلاً.
- (5) المقنعة: 92; وحكى عن ابن أبي عقيل في مختلف الشيعة 2: 11.
(الصفحة 90)
المرتضى، وابن الجنيد، وسلاّر، وابن إدريس، والعلاّمة وغيرهم(1). هذا، ولو قلنا بعدم اختصاص العصر بمقدار الأربع يمتدّ الوقتان إلى الغروب.
ثمّ إنّ كلّ من قال بامتداد وقت الظهر إلى قدر معيّن من المثل أو الذراع أو أربعة أقدام، قال بأنّ لكلّ صلاة وقتين: فالأوّل للمختار من المكلّفين، والثاني للمضطرّ. هذا، ولكنّ الظاهر هو القول الأخير، والأخبار الظاهرة في غيره تحمل على بيان مراتب الفضل، فوقت الظهر يمتدّ اختياراً إلى أن يبقى إلى الغروب مقدار أداء العصر، ولكن ذلك إنّما هو وقت الإجزاء، دون وقت الفضيلة.
وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام، فينبغي التعرّض لمسألتين مهمّتين جاريتين في غير الظهرين أيضاً، فنقول:
الاُولى منهما: أنّه قد اشتهر بينهم أنّ لكلّ صلاة وقتين، ويشهد بصدقه لسان الأخبار، ولكنّهم اختلفوا في المراد من ذلك على قولين:
أحدهما: أنّ الوقت الأوّل اختياريّ، والثاني اضطراريّ; بمعنى عدم جواز التأخير إليه إلاّ لذوي الأعذار.
ثانيهما: أنّ الوقت الأوّل وقت الفضيلة، والثاني وقت الإجزاء، وأكثر القدماء كالشيخين وابن أبي عقيل وغيرهم على الأوّل(2)، وذهب السيّد، وابن الجنيد، وجماعة إلى الثاني، وتبعهم المتأخّرون(3)، وهو الأقوى، ومنشأ الاختلاف بينهم هو
- (1) مسائل الناصريّات: 189، مسألة 72; وحكى عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة 2: 9ـ10; المراسم: 62; السرائر 1: 195; تذكرة الفقهاء 2: 302، مسألة 26; مختلف الشيعة 2: 9ـ18; غنية النزوع: 69; الوسيلة: 82; الجامع للشرائع: 60; ذكرى الشيعة 2: 330; جواهر الكلام 7: 80ـ81.
- (2) المقنعة: 94; النهاية: 58; المبسوط 1: 72; ونقله عن ابن أبي عقيل في مختلف الشيعة 2: 4; المهذّب 1: 71.
- (3) مسائل الناصريات: 195 و 197; ونقله عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة 2: 4; السرائر 1: 196; المعتبر 2: 26; تذكرة الفقهاء 2: 300، مسألة 23; جامع المقاصد 2: 11; مدارك الأحكام 3: 32; كشف اللثام 3: 19ـ20.
(الصفحة 91)
اختلاف الأخبار الواردة في الباب، ويدلّ على المختار روايات:
منها: رواية زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): أحبّ الوقت إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ أوّله، حين يدخل وقت الصلاة فصلِّ الفريضة، فإن لم تفعل فإنّك في وقت منهما حتّى تغيب الشمس(1).
ومنها: رواية عبيد بن زرارة، عن أبي عبدالله(عليه السلام)في قوله ـ تعالى ـ : (أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ)(2) قال: إنّ الله افترض أربع صلوات، أوّل وقتها زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها: صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس، إلاّ أنّ هذه قبل هذه، ومنها: صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل، إلاّ أنّ هذه قبل هذه(3).
ومنها: رواية داود بن أبي يزيد ـ وهو داود بن فرقد ـ عن بعض أصحابنا، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر وبقي وقت العصر حتّى تغيب الشمس(4).
ومنها: ما رواه ابن مسكان، عن الحلبي في حديث قال: سألته عن رجل نسي
- (1) تهذيب الأحكام 2: 24، ح69; الاستبصار 1: 260، ح935; وعنهما وسائل الشيعة 4: 119، أبواب المواقيت، ب3، ح5.
- (2) سورة الإسراء 17: 78.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 25، ح72; الاستبصار 1: 261، ح938; وعنهما وسائل الشيعة 4: 157، أبواب المواقيت، ب10، ح4.
- (4) تهذيب الأحكام 2: 25، ح70; الاستبصار 1: 261، ح936; وعنهما وسائل الشيعة 4: 127، أبواب المواقيت، ب4، ح7.
(الصفحة 92)
الاُولى والعصر جميعاً ثمّ ذكر ذلك عند غروب الشمس؟ فقال: إن كان في وقت لا يخاف فوت إحداهما فليصلِّ الظهر ثمّ ليصلِّ العصر، وإن هو خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر، ولا يؤخّرها فتفوته فيكون قد فاتتاه جميعاً، ولكن يصلّي العصر فيما قد بقي من وقتها، ثمّ ليصلِّ الاُولى بعد ذلك على أثرها(1).
ومنها: رواية أُخرى لعبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن وقت الظهر والعصر؟ فقال: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلاّ أنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس(2).
ومنها: رواية ثالثة لعبيد بن زرارة، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس(3).
ومنها: غير ذلك من الأخبار.
واستدلّ الشيخ(رحمه الله) وغيره أيضاً بروايات:
منها: رواية عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: لكلّ صلاة وقتان، وأوّل الوقتين أفضلهما، وقت صلاة الفجر حين ينشقّ الفجر إلى أن يتجلّل الصبح السماء، ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً، ولكنّه وقت من شغل أو نسي أو سهى أو نام، ووقت المغرب حين تجب الشمس إلى أن تشتبك النجوم، وليس لأحد أن يجعل آخر
- (1) تهذيب الأحكام 2: 269، ح1074; الاستبصار 1: 287، ح1052; وعنهما وسائل الشيعة 4: 129، أبواب المواقيت، ب4، ح18.
- (2) الفقيه 1: 139، ح647; تهذيب الأحكام 2: 19، ح51; وص24 و 26، ح68 و 73; الاستبصار 1: 246، ح881; وص260، ح934; وعنها وسائل الشيعة 4: 126، أبواب المواقيت، ب4، ح5.
- (3) الكافي 3: 276، ذ ح5; تهذيب الأحكام 2: 26، ح73; وعنهما وسائل الشيعة 4: 130، أبواب المواقيت، ب4، ح22.
(الصفحة 93)
الوقتين وقتاً إلاّ من عذر أو من علّة(1).
وروى قطعة منها في الوسائل في موضع آخر أيضاً(2).
ولا يخفى أنّ قوله(عليه السلام): «وأوّل الوقتين أفضلهما» يدلّ على المختار; لدلالته على اشتراك الوقتين في أصل الفضيلة المرادف للإجزاء، وكذلك قوله(عليه السلام): «ولكنّه وقت من شغل»; فإنّ جعل الشغل موجباً لجواز التأخير لا يناسب مع تعيّن الوقت الأوّل للإجزاء; إذ مع تعيّنه يجب رفع اليد عن جميع المشاغل، والإتيان بالواجب. وكذلك قوله(عليه السلام): «ولا ينبغي تأخير ذلك عمداً»; فإنّ التعبير بـ «لا ينبغي» لا يناسب مع التعيّن واختصاص أوّل الوقت بالإجزاء، كما هو واضح.
وبالجملة: فالرواية دليل على ما ذكرنا، لا أنّها تنافيه.
وأمّا قوله(عليه السلام) في ذيل الرواية: «وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً إلاّ من عذر أو من علّة» فإنّما هو لترغيب الناس وتحريصهم إلى الإتيان بالصلوات في أوائل أوقاتها، ونظير ذلك كثير في الأخبار التي سيقت لبيان المستحبّات إذا كان المقصود الترغيب إلى الإتيان بمستحبّ مؤكّد.
وبالجملة: فلا يستفاد من الرواية إلاّ كراهة التأخير، واستحباب التقديم استحباباً مؤكّداً لا ينبغي تركه مع عدم العذر، كما يدلّ عليه ما ورد من أنّ فضل الوقت الأوّل على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا(3). ونظيره من التعبيرات
- (1) تهذيب الأحكام 2: 39، ح123; الاستبصار 1: 276، ح1003; وعنهما وسائل الشيعة 4: 208، أبواب المواقيت، ب26، ح5.
- (2) وسائل الشيعة 4: 119، أبواب المواقيت، ب3، ح4.
- (3) الكافي 3: 274، ح6; ثواب الأعمال: 58، ح2; تهذيب الأحكام 2: 40، ح129; وعنها وسائل الشيعة 4: 123، أبواب المواقيت، ب3، ح15.