(الصفحة 98)
من حيث إنّ الظهر يختصّ بمقدار أربع ركعات; فلا يشترك الوقتان إلاّ بعد قدر إيقاع الظهر; لأنّه ما درى أنّه نصّ من الأئـمّة(عليهم السلام)، أو درى وأقدم.
وقد رواه زرارة، وعبيد، والصباح بن سيّابة، ومالك الجهني، ويونس من العبد الصالح، عن أبي عبدالله(عليه السلام)ومع تحقّق كلامهم يجب الإعشاء بالتأويل لا الإقدام بالطعن(1). انتهى موضع الحاجة.
وبالجملة: فالإشكال في صدور أخبار الاشتراك ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه، فالواجب الجمع بينها، وبين ما يدلّ على الاختصاص بالجمع الدلالي، ولكن يمكن أن يقال بأنّ رواية داود بن فرقد أظهر في الدلالة على الاختصاص من دلالة أخبار الاشتراك على الاشتراك المطلق، بل ليس لها في ذلك إلاّ ظهور بدويّ يرفع اليد عنه بسببها; لأنّ قوله(عليه السلام): «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلاّ أنّ هذه قبل هذه» إنّما يدلّ على دخول وقت مجموع الصلاتين من حيث المجموع، لا وقت كلّ واحد منهما، ولو سلّم ظهوره في ذلك فالاستثناء الذي هو ظاهر كلمة «إلاّ» يوجب رفع اليد عن ظهور الصدر; لأنّ الظاهر أنّ المراد بالقبليّة، القبليّة بحسب الوقت; لأنّ الترتيب بين الصلاتين ممّا لم يكن محتاجاً إلى البيان، بعد كونه ضروريّاً عند المسلمين جميعاً.
وحينئذ فقوله(عليه السلام): «إلاّ أنّ هذه قبل هذه» لم يكن مسوقاً لبيان اعتبار الترتيب، بل المقصود به أنّ وقت صلاة الظهر يدخل قبل دخول وقت صلاة العصر، فتكون هذه الجملة بمنزلة الاستثناء للصدر.
وإن شئت قلت: إنّ رواية ابن فرقد بمنزلة الاستثناء لهذه الروايات، فيصير مفاد
(الصفحة 99)
المجموع هو اشتراك الصلاتين إذا زالت الشمس ومضى مقدار أربع ركعات; فإنّه يختصّ بالظهر فقط.
هذا، ولا يمكن أن تجعل أخبار الاشتراك قرينة على توجيه هذه الرواية; لعدم كونها قابلة للتوجيه بعد صراحتها في أنّ لكلّ من الصلاتين وقتين: وقت اختصاصيّ، ووقت يشتركان فيه.
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ التفصيل في الرواية إنّما هو لبيان اعتبار الترتيب بين الصلاتين في الجملة حتّى لا ينافي اختصاص اعتباره بحال الذكر، فتخصيص أوّل الوقت بالظهر ليس لأجل اختصاصه بها، بل لكون ترتّب العصر عليها مقتضياً للإتيان بها قبل العصر ولو في الوقت المشترك; لعدم التمكّن من الإتيان بها قبلها في أوّل الوقت. وحينئذ فمقصود الرواية ليس بيان الوقت من حيث الاختصاص وعدمه، بل مقصودها أنّ اعتبار الترتيب اقتضى وقوع الظهر في أوّل الوقت قهراً.
هذا، ولكن لا يخفى أنّ هذا التوجيه ـ مضافاً إلى كونه بعيداً عن مساق الرواية، وإلى أنّ اعتبار الترتيب أمر بديهيّ لا يحتاج إلى البيان ـ لا يجري في ذيل الرواية; إذ لو كان الغرض بيان الترتيب، لكان اللاّزم فيمن لم يأت بشيء من الصلاتين إلى أن بقي من مجموع الوقت مقدار أربع ركعات، أن يأتي بالظهر فقط مراعياً للترتيب، فلا وجه لتقديم العصر حينئذ إلاّ أن يكون الوقت مختصّاً بها.
وبالجملة: سقوط التكليف بالظهر في ذلك الفرض، ووجوب الإتيان بالعصر فقط ممّا يدلّ قطعاً على اختصاص الوقت بها، فالرواية حيث تكون متعرّضة للحكم المذكور، فلابدّ من أن يكون المقصود بها هو بيان الوقت الاختصاصي وغيره.
(الصفحة 100)
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ وقت الظهر مبائن لوقت العصر عند العامّة، وكذا وقت المغرب والعشاء، فعند بعضهم يكون أوّل الزوال إلى المثل وقتاً للظهر، ثمّ يخرج وقتها ويدخل وقت العصر، وعند بعضهم الآخر يكون أوّل الزوال إلى المثلين وقتاً للظهر، ثمّ يخرج وقتها ويدخل وقت العصر(1). نعم، حكي عن ربيعة، القول بدخول الوقتين بمجرّد الزوال(2)، ولكن هذا القول شاذّ عندهم.
وكيف كان، فالسيرة المستمرّة فيهم إلى زماننا هذا هو إتيان العصر بعد مدّة طويلة من إتيان الظهر، فكانوا يصلّون الظهر ثمّ يتفرّقون إلى مشاغلهم، إلى أن يصير ظلّ الشاخص مثله أو مثليه، ثمّ يعودون للإتيان بالعصر، وكان الجمع بين الصلاتين والإتيان بهما معاً متّصلا بلا انقطاع أمراً منكراً عندهم، ولذلك تعجّب أبو أُمامة من فعل أنس فيما رواه البخاري عنه، حيث روى عنه أنّه قال: صلّينا مع عمر بن عبدالعزيز الظهر ثمّ خرجنا حتّى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلّي العصر، فقلت: ما هذه الصلاة؟ فقال: العصر وهذه صلاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، التي كنّا نصلّي معه(3).
وبالجملة: فالتباين في الوقت في الظهرين وكذا العشاءين كان أمراً مرتكزاً في أذهانهم، بحيث التزموا بعدم اشتراك الوقت أيضاً في موارد الجمع، كما في السفر وعند المطر، وأنّ وقت الصلاة الاُولى يصير مضيّقاً بسبب الآخر; والدليل لهم في ذلك ما روي من أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان يفرّق بين الصلاتين(4). مضافاً إلى رواية
- (1 ، 2) المغني لابن قدامة 1: 382ـ384; المجموع 3: 24ـ26; الشرح الكبير 1: 430ـ431 و 434ـ436; الخلاف 1: 257، مسألة 4; وص260، مسألة 5; تذكرة الفقهاء 2: 303ـ304، مسألة 26; وص308 مسألة 28.
- (3) صحيح البخاري 1: 156، ح549.
- (4) سنن ابن ماجة 1: 363ـ364، ح667 و 668; سنن النسائي 1: 283، ح498; سنن الترمذي 1: 286، ح152.
(الصفحة 101)
جبرئيل المتقدّمة(1).
ولكن لا يخفى أنّ ذلك لا يدلّ على مرامهم; وهو وجوب التفريق; فإنّ التزامه(صلى الله عليه وآله)بوقت خاصّ للمجيء إلى المسجد لعقد الجماعة، إنّما كان لاطّلاع الناس على وقت مجيئه(صلى الله عليه وآله)، كما هو شأن أئـمّة الجماعة أيضاً، وهذا لا ينافي عدم التزامه(صلى الله عليه وآله)بوقت خاصّ ولو في حال كونه مريداً للصلاة منفرداً.
ويدلّ على ذلك قول أنس في رواية البخاري المتقدّمة، مع أنّه كان حاجباً له(صلى الله عليه وآله)ومطّلعاً على خفايا أمره. وروى نظير هذه الرواية مالك وأحمد بن حنبل; من أن النبيّ(صلى الله عليه وآله) جمع بين الصلاتين(2)، وكذلك روى ابن عبّاس أنّه(صلى الله عليه وآله)جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء من غير مطر ولا سفر(3)، وفي رواية: من غير خوف ولا سفر(4). وقد أجابوا عن هذه الرواية بأنّ روايات ابن عباس معمول بها إلاّ روايته في مسألة الجمع; فإنّها لا تكون حجّة للإعراض عنها(5).
وبالجملة: فالجمع بين الصلاتين كان من المنكرات عندهم، وحينئذ فلا يبقى الارتياب في كون أخبار الاشتراك مسوقة لبيان الحكم الواقعي، وأنّ الحقّ في خلافهم، فمرادهم(عليهم السلام) أنّه لا يجب الانتظار للإتيان بصلاة العصر بعد الإتيان
- (1) في ص87.
- (2) الموطّأ: 90ـ91، باب الجمع بين الصلاتين، ح329ـ332; المسند لابن حنبل 1: 466، ح1874; وج4: 302، ح12527; وج8: 178، ح21820.
- (3) المصنّف في الأحاديث والآثار 2: 344، ح5; وفيه «خوف» بدل سفر، علل الشرائع: 322، ب11، ح6; وعنه وسائل الشيعة 4: 221، أبواب المواقيت، ب32، ح5.
- (4) الموطّأ: 91، ح332; صحيح مسلم 1: 410، ب6، ح49 و 50; علل الشرائع: 321، ح4 و 5; وعنه وسائل الشيعة 4: 221، أبواب المواقيت، ب32، ح4.
- (5) راجع شرح النووي على صحيح مسلم 3: 2149ـ2150.
(الصفحة 102)
بالظهر كما عليه الجمهور، بل يجوز الإتيان بهما معاً بعد الزوال بلا فصل، وليست هذه الروايات بصدد بيان اشتراكهما في كلّ جزء منه حتّى تنافي ما يدلّ على اختصاص أوّل الوقت بالظهر.
وقد عرفت أنّ اعتبار الترتيب بين الصلاتين كان أمراً بديهيّاً عند المسلمين، حتّى أنّ العامّة القائلين بتباين الوقتين المستلزم لوقوع الثانية عقيب الاُولى قهراً، ذهبوا إلى اعتباره في موارد جواز الجمع(1).
وحينئذ فلا يبقى مجال بعد وضوح اعتباره، لتوهّم أن يكون قوله(عليه السلام): «إذا زالت الشمس دخل الوقتان»(2) دالاًّ على دخول الوقتين بمجرّد الزوال، المستلزم لنفي اعتبار الترتيب، فحيث لا يكون ذلك القول موهماً لخلاف المقصود; لأجل ارتكاز اعتبار الترتيب في أذهانهم، وكان الغرض من مثل ذلك القول، الردّ على المخالفين القائلين بوجوب تأخير العصر بعد الفراغ من الظهر إلى أن يدخل وقتها، كان التعبير بهذا النحو من العبارة أحسن تعبير في بيان المرام.
فحاصل معنى الروايات أنّه لا يجب بعد الفراغ من الظهر الانتظار مدّة مديدة، والصبر إلى أن يصير الظلّ مثلي الشاخص مثلا، بل يجوز الجمع بينهما مطلقاً; لدخول وقت العصر بعد الفراغ من الظهر فوراً، والمصحّح لذلك الكلام هو ملاحظة مجموع العملين باعتبار ترتّب أحدهما على الآخر أمراً واحداً يدخل أوّل وقته بالزوال، ألا ترى أنّه لو قيل: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر، لا يتوهّم أحد دخول وقت الركعة الأخيرة منها أيضاً بالزوال، ولا يتبادر منه إلاّ مجرّد جواز الشروع فيها بمجرّد تحقّقه، وهكذا المقام; فإنّه لا يتبادر من أخبار الاشتراك إلاّ
- (1) المغني لابن قدامة 2: 112ـ120; المجموع 4: 308ـ322; وراجع أيضاً ما تقدّم في الصفحة السابقة.
- (2) تقدّم في ص81ـ82.