(الصفحة 152)
غيبوبته، ذهب إليه الأوزاعي، وأبو حنيفة، وزفر، وروي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز، وهو اختيار المزني(1).
وذهب أحمد إلى أنّ وقتها في البلدان والأبنية غيبوبة البياض، وفي الصحاري والفضاء غيبوبة الحمرة; فإنّ البنيان يستر، فاحتيط بتأخير الصلاة إلى غيبوبة البياض ليتحقّق معه غيبوبة الحمرة. وفي الصحراء لا حائل يمنع من ذلك، فلم يعتبر ذلك، لا أنّه جعل الوقت مختلفاً في الصحاري والبنيان(2).
دليلنا: أنّ ما اعتبرناه من ذلك لا خلاف بين الطائفة المحقّة أنّه من الوقت، وليس هاهنا إجماع على أنّ ما قبله وقت، فوجب الاحتياط لئلاّ يصلّي قبل دخول الوقت، وقد تكلّمنا في الأخبار المختلفة في هذا المعنى في الكتابين المقدّم ذكرهما(3)، انتهى.
ويستفاد من ذلك تسالم المسلمين إجمالا على كون ما بين ذهاب الشفق بمعنى البياض، وثلث الليل وقتاً للعشاء، وإنّما وقع الاختلاف بينهم في وقتها أوّلا وآخراً، هذا. وقد نقل(قدس سره) أقوالا ثلاثة:
الأوّل: أنّ وقتها هو غيبوبة الشفق بمعنى الحمرة.
الثاني: دخول وقتها بغيبوبة الشمس، وهذا إنّما هو مع قطع النظر من حيث الاشتراك والاختصاص.
الثالث: دخول وقتها بغيبوبة الشفق بمعنى البياض، ولا يخفى أنّ العامّة
- (1) المجموع 3: 44; مغني المحتاج 1: 123; أحكام القرآن للجصّاص 3: 258.
- (2) مسائل أحمد بن حنبل 1: 230، الرقم 132.
- (3) الخلاف 1: 262، مسألة 7.
(الصفحة 153)
باعتبار إعراضهم عن أحد الثقلين(1) اللذين تركهما النبيّ(صلى الله عليه وآله) ـ وهو قول العترة الطاهرة سلام الله عليهم أجمعين ـ لم يكن لهم مستند فيما ذهبوا إليه في المقام إلاّ العمل المستمرّ من النبيّ(صلى الله عليه وآله)، حيث إنّه كان يفرّق بين العشاءين، ويصلّي صلاة العشاء بعد زوال الشفق(2).
وكذلك خبر جبرئيل المرويّ في كتب الفريقين(3) بأدنى اختلاف، وحملوا جمع النبيّ(صلى الله عليه وآله) بين العشاءين على اختصاص ذلك بموارد خاصّة من السّفر والمطر ونحوهما; إذ قد عرفت(4) أنّ المراد بالجمع عندهم هو الإتيان بإحدى الصلاتين في الوقت المختصّ بالاُخرى، أعمّ ممّا إذا لم يدخل وقتها، أو دخل
وخرج، وحيث إنّ جوازه يكون على خلاف القاعدة، فلابدّ أن يقتصر على ما إذا دلّ الدليل على الجواز; وهي موارد الضرورة.
وأمّا ما رواه ابن عباس من أنّ النبيَّ(صلى الله عليه وآله) جمع بين الصلاتين من غير خوف ولا علّة(5)، فهو مردود ومطروح عندهم.
هذا، ولا يخفى أنّ استمرار عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) على ذلك لا يدلّ على ما ذكر; لما عرفت من أنّ تفريق النبيّ(صلى الله عليه وآله) والإتيان بالثانية في وقت واحد معيّن، إنّما هو
- (1) سنن الترمذي 5: 663، ح3797; صحيح مسلم 4: 1492، ح2408; المستدرك على الصحيحين 3: 160، ح4781، وغيرها; فليراجع كتاب الله وأهل البيت(عليهم السلام) في حديث الثقلين، الكافي 1: 294، قطعة من ح3; إرشاد المفيد 1: 233; أمالي الصدوق: 500، ح686; أمالي المفيد: 135، ح3; أمالي الطوسي: 162، قطعة من ح268; المراجعات 1: 27، المراجعة 8. وفي ذيله ذكر صور الحديث وموارد ذكره في كتب العامّة، وكذا في بحار الأنوار 23: 106ـ152.
- (2 ، 3) تقدّما في ص87.
- (4) في ص146ـ147.
- (5) تقدّم في ص113.
(الصفحة 154)
لمراعاة الأفضليّة. وكذا مراعاة المأمومين ليجتمعوا في وقت واحد، ويدركوا فضيلة الجماعة، فلم يكن حاله إلاّ كحال أئـمّة الجماعة في هذه الأزمنة، فلا يدلّ فعله(صلى الله عليه وآله)على عدم دخول الوقت قبل ذلك، وعدم جواز الإتيان بالصلاة في غيره.
وأمّا خبر جبرئيل، فقد عرفت(1) ما يتعلّق به سابقاً، فليس لهم دليل على ذلك، مضافاً إلى وجوده على خلافهم، وهي رواية ابن عباس; إذ لا وجه لطرحها بعد كونها واجدة لشرائط الحجّية.
وأمّا الإماميّة القائلون بحجّة اُخرى; وهي قول الأئـمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، فالمسألة أيضاً محلّ خلاف بينهم، فذهب إلى القول الثاني جمع كثير، منهم: السيد المرتضى، وابن الجنيد، وأبو الصلاح، وابن البرّاج، وابن زهرة، وابن إدريس(2)، وقد صار هذا القول من زمان العلاّمة(3) إلى هذه الأزمنة أمراً مسلّماً مقطوعاً به.
وذهب الشيخ إلى القول الأوّل في أكثر كتبه، كالمبسوط، والخلاف، والنهاية وغيرها، والمفيد(رحمه الله)، وسلاّر في المراسم، والصدوق في الهداية(4).
وأمّا القول الثالث: فيختصّ ببعض العامّة، كأبي حنيفة وجماعة(5); ومنشأ الاختلاف بينهم ـ أي الإماميّة ـ هو اختلاف الأخبار الواردة في هذا الباب،
- (1) في ص87.
- (2) مسائل الميافارقيات (رسائل الشريف المرتضى) 1: 274، مسألة 5; وحكى عن ابن الجنيد في المعتبر 2: 42; الكافي في الفقه: 137; المهذّب 1: 69; الوسيلة: 83; السرائر 1: 195.
- (3) مختلف الشيعة 2: 24.
- (4) المبسوط 1: 75; الخلاف 1: 262، مسألة 7; النهاية: 59; تهذيب الأحكام 2: 33، ذ ح102; المقنعة: 93; المراسم: 62; الهداية: 130.
- (5) المجموع 3: 44; مغني المحتاج 1: 123; أحكام القرآن للجصّاص 3: 258; الخلاف 1: 262، مسألة 7.
(الصفحة 155)
فبعضها ظاهر في القول الأوّل، وبعضها يدلّ على القول الثاني.
أمّا ما يدلّ على جواز الإتيان بالعشاء قبل سقوط الشفق فكثيرة:
منها: رواية زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر والعصر، وإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة(1).
ومنها: مرسلة الصدوق قال: قال الصادق(عليه السلام): إذا غابت الشمس فقد حلّ الافطار ووجبت الصّلاة، وإذا صلّيت المغرب فقد دخل وقت العشاء الآخرة(2).
ومنها: مرسلة داود بن فرقد، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي ثلاث ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة حتّى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، وإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب وبقي وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل(3).
ومنها: رواية عبيد بن زرارة، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: إذا غربت الشمس دخل وقت الصلاتين إلاّ أنّ هذه قبل هذه(4).
ومنها: رواية إسماعيل بن مهران قال: كتبت إلى الرضا(عليه السلام): ذكر أصحابنا أنّه إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر، وإذا غربت دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة، إلاّ أنّ هذه قبل هذه في السفر والحضر، وأنّ وقت المغرب
- (1) الفقيه 1: 140، ح648; تهذيب الأحكام 2: 19، ح54; وعنهما وسائل الشيعة 4: 125، أبواب المواقيت، ب4، ح1.
- (2) الفقيه 1: 142، ح662; وعنه وسائل الشيعة 4: 179، أبواب المواقيت، ب16، ح19.
- (3) تقدّم تخريجها في ص91.
- (4) الكافي 3: 281، ح12; تهذيب الأحكام 2: 27، ح78; وعنهما وسائل الشيعة 4: 186، أبواب المواقيت، ب17، ح11.
(الصفحة 156)
إلى ربع الليل. فكتب: كذلك الوقت غير أنّ وقت المغرب ضيّق، الحديث(1).
ومنها: رواية زرارة، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: صلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالناس المغرب والعشاء الآخرة قبل الشفق من غير علّة في جماعة، وإنّما فعل ذلك ليتّسع الوقت على اُمّته(2).
ومنها: رواية زرارة أيضاً قال: سألت أبا جعفر وأبا عبدالله(عليهما السلام) عن الرجل يصلّي العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق؟ فقالا: لا بأس به(3).
ومنها: رواية عبيدالله وعمران ابني عليّ الحلبيّين قالا: كنّا نختصم في الطريق في الصلاة صلاة العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق، وكان منّا من يضيق بذلك صدره، فدخلنا على أبي عبدالله(عليه السلام) فسألناه عن صلاة العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق؟ فقال: لا بأس بذلك، قلنا: وأيّ شيء الشفق؟ فقال: الحمرة(4).
ومنها: رواية إسحاق البطّيخي قال: رأيت أبا عبدالله(عليه السلام) صلّى العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق ثمّ ارتحل(5).
ومنها: رواية إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام): نجمع بين المغرب والعشاء في الحضر قبل أن يغيب الشفق من غير علّة؟ قال:
- (1) الكافي 3: 281، ح16; تهذيب الأحكام 2: 260، ح1037; وعنهما وسائل الشيعة 4: 186، أبواب المواقيت، ب17، ح14.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 263، ح1046; الاستبصار 1: 271، ح981; وعنهما وسائل الشيعة 4: 202، أبواب المواقيت، ب22، ح2.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 34، ح104; وعنه وسائل الشيعة 4: 203، أبواب المواقيت، ب22، ح5.
- (4) تهذيب الأحكام 2: 34، ح105; وعنه وسائل الشيعة 4: 203، أبواب المواقيت، ب22، ح6.
- (5) تهذيب الأحكام 2: 34، ح106; وعنه وسائل الشيعة 4: 204، أبواب المواقيت، ب22، ح7.