(الصفحة 16)
معارفه وتكنيزها، تلك التي ضمّت أسرار نبوغ السيّد وطلوع شخصيّته المرموقة.
فقد وجد في البلد العُدّة الكافية من المصادر والعدد الكافي من المحصّلين والباحثين لإلقاء الدروس عليهم والتحاور معهم، مع المواظبة والملازمة على الأعمال العلميّة المتواصلة بلا انقطاع طيلة المدّة التي عاشها السيّد وقتئذ، حيث كان يُلقي الدرس صباحاً ومساءً، كما كان يستوعب كلّ درس ساعةً من الزمن. وكانت حصيلتها التألّق في سماء الفقه والاُصول والحديث والرجال، العلوم التي هي الملاك الأساسي للمرجعيّة الدينيّة.
وقد استفاد السيّد في هذه البلدة من كلّ الإمكانات المتاحة لتركيز مبانيه العلميّة، متزوّداً من الطبيعة الطيبة التي تمتاز بها، ومن الهدوء والاحترام الذي يتمتّع به بيته الكريم، ومن قوّة شخصيّته الفذّة التي كانت سبباً لالتفاف أهل الفضل والعلم حوله، والأهمّ من الجميع هو قلّة المشاغل غير العلميّة التي تعوق ذوي الفضل عن التفرّغ للبحث والتحقيق والتوفّر على مسائل العلم(1).
إضافةً إلى ما يتمتّع به سيّدنا من نبوغ مبكّر وذكاء مفرط وحافظة جيّدة، وقدرة عجيبة على الصبر والمواظبة والإخلاص، وحرص شديد على عدم إضاعة الوقت، حيث يقول عن نفسه:
إنّي مذ عرفت نفسي لم أفرّط بلحظة واحدة من حياتي، ولم أزل حتى الآن على هذه السيرة التي تشاهدونها.
وراح يوصي طلاّبه فيقول: فلا يحسبنَّ أحدٌ أنّه سيبلغ المدى عندما يصرف وقته في سائر المشاغل، ويقتصر على ساعة واحدة ـ فقط ـ في اليوم للمطالعة.
- (1) المنهج الرجالي للسيد البروجردي(قدس سره): 19ـ20.
(الصفحة 17)
وقد كان لا يملّ من المطالعة، بل تدرَّب عليها، واستأنس بها وبقي ذلك ديدنه حتّى أيّام زعامته، وإلى آخر أيّام حياته(1).
فمن كانت هذه صفاته كيف لا يسمو ولا يرتقي العلياء؟! وكيف لا تكون حياته خصبةً معطاء غنيّة حافلةً بالعِبر والمُثل؟!
ولقد تجلّى نشاطه العلمي في هذه المرحلة من حياته بإلقائه أربع دورات اُصوليّة، وأتمّ بحوثه في الطهارة والصلاة والزكاة والنكاح والطلاق والصيد والذبائح والمتاجر والوصيّة واللقطة. كما قام بتدريس «شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام» للاّهيجي(رحمه الله). وفي سنة 1363هـ وقبل سنة واحدة من وروده إلى قم كان يقوم بتدريس كتاب «معالم الدين في الاُصول» لولده السيّد محمد حسن، وكان ـ كما يقول الشيخ المطهّري الذي حضر ذلك الدرس في بروجرد ـ : «درساً حافلاً بالدقّة والعمق».
قال السيّد الجهرمي: كان يحضر هذا الدرس مَن هو بمستوى كفاية الاُصول من طلبة العلوم الدينيّة(2).
أمّا الشيخ آغا بزرگ فيقول عنه: ورجع إلى بروجرد فاشتغل بوظائفه الشرعيّة، وسطع نجمه أكثر من ذي قبل، واتّجهت الأنظار إليه وكثر الإقبال عليه، ورجعت إليه الناس في التقليد، فطبع رسالة عمليّة وأدار شؤون الحوزة العلميّة(3)...
كما يتحدّث عنه السيّد الجلالي فيقول:
- (1) المنهج الرجالي للسيد البروجردي(قدس سره): 19ـ20.
- (2) المنهج الرجالي للسيد البروجردي(قدس سره): 20.
- (3) نقباء البشر 2: 606.
(الصفحة 18)
قد اشتهر فضل السيّد وفقاهته على أثر الهجرة الطويلة تلك، وشاع اسمه وطار صيته بين الأعلام، وفي سنة 1355 هـ .ق الّتي توفّي فيها الشيخ الحائري بقم، حيث إليه أنظار أفاضل الحوزة العلميّة وأعلامها، كما كان قد أرجع إليه المرجع العام للشيعة في ذلك العصر السيّد أبو الحسن الاصفهاني في احتياطاته، فنشرت لأوّل مرّة حاشيته على العروة الوثقى سنة 1355هـ .ق، تلك التي كشفت عن أبعاده العلميّة المتميّزة، ممّا زاد في سعة شهرة فقاهة السيّد وعظمته العلميّة(1).
وهناك أسّس ودعم وركّز مبانِيَهُ الاُصوليّة من خلال دورات الدروس التي ألقاها على تلامذته وناقشها معهم(2).
وكان كثيراً ما ينأى بعلم الاُصول ـ الذي يراه مقدّمةً من المقدّمات الاُخرى للورود إلى الفقه ـ عن الفلسفة ومصطلحاتها المعقدة، وعن العبارات الغامضة وعمّا لا ثمرة عمليّة له.. ويؤكّد على وجوب فهم الأحاديث وظروفها، وعلى عدم الاتّكال على ما توصل إليه علماء الرجال، والاكتفاء به فقط دون النظر والتحقيق والتأمّل.
المرحلة الخامسة: قم المقدّسة
بعد زيارته لمشهد الإمام الرضا(عليه السلام)، ونزولاً عند رغبة فضلائها أمضى فيها ثمانية أشهر ـ وقيل: ثلاثة عشر شهراً ـ اُستاذاً وإماماً للجماعة الوحيدة، بعد أن اقتدى به كلّ أئمّـة الجماعات هناك. وفي طريق عودته إلى بروجرد، زار
- (1) المنهج الرجالي للسيد البروجردي(قدس سره): 24.
- (2) المنهج الرجالي للسيد البروجردي(قدس سره): 21.
(الصفحة 19)
مدينة قم المقدّسة، فكان في استقباله جمع كبير من علمائها وفضلائها، ولم يكتف الشيخ عبد الكريم الحائري بأن يكون على رأس المستقبلين، بل طلب من السيّد البقاء في قم، فما كان من السيّد إلاّ أن يلبّي هذه الدعوة، فبقي فيها خمسة أشهر، وكان هذا في سنة 1347هـ .
يقول السيّد الجلالي: فأقام السيّد هناك، وبدأ بالتدريس والبحث مدّة خمسة أشهر، كان نجمه فيها يتألّق، لكنّ الحكومة لم يرُق لها ذلك، فكانت تُدِبَّرُ المؤامرات وتحيكها; لانتقال السيّد إلى بروجرد، تاركاً قم أمله ومأمنه(1).
وفي عام 1364هـ وبعد سبعة عشر عاماً من عودته إلى مدينته من قم المقدّسة، عاد إلى هذه المدينة المقدّسة مرجعاً كبيراً وعَلماً من أعلام الطائفة، تلبيةً لطلب أكثر الأعلام ـ وفي طليعتهم السيّد الإمام الخميني(قدس سره) ـ واستجابةً لرغبة فضلائها بعد التشتّت والاختلاف الذي دبّ بين صفوفها على أثر وفاة مؤسّسها الشيخ الحائري.
يقول الشيخ آغا بزرگ:... فسافر إلى طهران في (1364) للعلاج، وبقي في (مستشفى الفيروزآبادي) سبعين يوماً حتى تحسّنت حاله وبرئ، فطلب منه جمع من طلاّب قم وبعض علمائها أن يحلّ بينهم، فينظم الحوزة العلميّة هناك، فأجابهم ووردها في (14 محرّم 1364)، أو في (26 صفر 1364 على قول، وقيل في 24 محرّم) وعزم على سكناها; لايجاد روح العلم وتشجيع الطلاّب، حيث تبدّد نظام الهيئة العلميّة بعد وفاة المؤسّس الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري(رحمه الله)، وتمهّدت له الاُمور، واتفق أن فجع العالَم الإسلامي بوفاة السيّد أبي الحسن الأصفهاني في (1365)، ومضت برهة يسيرة، وإذا بأنظار المسلمين في شتّى البلاد والأصقاع
- (1) المنهج الرجالي للسيد البروجردي(قدس سره): 24.
(الصفحة 20)
متجّهةً إليه، شاخصةً نحوه... وهو اليوم ـ في عهد الشيخ آغا بزرگ ـ أكبر زعماء الدين وأشهر مراجع تقليد الإماميّة في سائر البلاد; سواء في ذلك الإسلاميّة أو غيرها، كما أنّ بيده زمام الهيئة العلميّة وهو مديرها ومدبّرها...(1).
من هنا بدأت المرحلة الأخيرة، مرحلة المرجعيّة والزعامة الدينيّة التي ماسعى إليها قطّ كما سعت إليه، حيث كان يقول: إنّي لم أقم بخطوة في طلب هذا المقام، لكنّني أحسست فجأةً أنّ المرجعيّة تطاردني، وشعرت في نفسي أنّه لابدّ من تقبّلها، وله أيضاً: كلّ من يطلب العلم بغرض الوصول إلى المقام الذي أنا فيه، إنّه لسفيه سفيه(2).
وكانت أقواله هذه مرآةً صادقةً تعكس أفعاله، فقد عرف نفسه، وعرف دوره، وعرف ما حوله، وأدرك مسؤوليّته، فكان أن تولد موقفه منها ومسؤوليّته في تحمّل أمانتها، وهي ـ بلا شك ـ أمانة عظيمة ومسؤوليّة خطيرة. وهذا ما حدث فعلاً، كانت مرجعيّته حافلةً بالأحداث، فقد جاءت عقيب وفاة زعيم الحوزة العلميّة في قم، وقد انبرى لها عدد غير قليل، فتشتّتت المواقف واختلفت الآراء، واضطربت الاُمور.
كما جاءت تلو وفاة السيّد أبو الحسن الاصفهاني الذي جمعت المرجعيّة فيه، ودانت له جميع الحوزات العلميّة وانقادت لتقليده; وهي مرجعيّة واسعة موحّدة في شخصه.
يقول الشيخ آغا بزرگ: فإنّ المرجعيّة التقليديّة انقسمت ـ بعد أن كانت مجموعة في السيّد الاصفهاني ـ إلى عدّة أشخاص تقرب العشرة أكثرهم
- (1) نقباء البشر 2: 606ـ607.
- (2) المنهج الرجالي للسيد البروجردي(قدس سره): 47.