(الصفحة 21)
في النجف الأشرف.(1)
وجاءت مرجعيّة السيّد البروجردي في وقت كانت رحى الحرب العالميّة الثانية قائمة، وما رافقها من اضطراب وقلق عمّ جميع البلدان، ومنها بلادنا الإسلاميّة وشعوبها.
ومع كلّ هذا يقول السيّد الجلالي عن مرجعيّة سيّدنا البروجردي:
وقد كانت المرجعيّة في عصره من أبرز أمثلة المرجعيّات الصالحة الرشيدة المؤديّة لما يُتوقّع منها على مستويات الاُمّة والوطن، والتقدّم العلمي. فكانت مرجعيّة مليئة بالمفاخر والمآثر في مجالات دين الناس ودنياهم وتراث الاُمّة، وقد مضى وخلّف آثاراً وذكريات عجز المتأخّرون عن اللحوق بشأوِهِ في مثلها(2).
فمن جملة مواقفه السياسيّة أنّه لمّا أرسل ملك سعود عاهل المملكة العربيّة السعوديّة يومئذ ـ عندما جاء لزيارة طهران وحكّامه ـ بعض الهدايا، التي منها المصاحف الشريفة وستار الكعبة بيد السفير السعودي في ايران، فتقبّل السيّد المصاحف وشيء من الستار وأرجع الباقي. ثمّ كتب رسالة إلى الملك ضمّنها رواية شريفة للإمام الصادق(عليه السلام) تحتوي على أحكام الحج، فانعكست بعد ذلك في جرائد المملكة العربيّة السعوديّة بشكل واسع(3).
ومنها: ما احتاله النظام الحاكم على ايران في عصر زعامته، حيث سعى لمحو رسم الخطّ الفارسي وإبداله بالخط اللاتيني، لكنّه جُوبه بالردّ العنيف مِن قِبَل السيّد الزعيم، حيث كان له موقف مشهود في المقام الذي أدّى إلى امتناع
- (1) نقباء البشر 2: 607.
- (2) المنهج الرجالي للسيد البروجردي(قدس سره): 26.
- (3) مجلّة الحوزة، العدد 43ـ44: 82ـ83.
(الصفحة 22)
السلطات من إجراء مقاصدهم الخبيثة(1).
نعم، إنّ المؤهلات التي كان يتمتّع بها السيّد البروجردي، ومنها قوّة الشخصيّة التي كان يتّصف بها، وقدراته العلميّة التي فاقت أقرانه ومعاصريه، هيّأته لأن يكون زعيماً للطائفة، كما يكون قائدها المدبّر وعالمها الفذّ. فراح يسدّد الحركة العلميّة التي كانت همّه الأوّل، ويقيم أعمدتها على اُسس متينة واُصول ثابتة، فنظم شؤونها ووحَّد كلمتها ودفع عنها السوء.
فكان لوجوده المبارك، ونشاطه الحثيث، وعمله الدؤوب الذي ما عرف التوقّف أو التردّد، وأيضاً التفاف أهل العلم والفضل حوله الذين وجدوه عالماً، وشخصاً صادقاً... أعظم الأثر لا في تطوّر حوزة قم العلميّة فحسب، بل تطوّر الحوزات العلميّة الاُخرى في مختلف البلاد الإسلامية. فكان فكره الثاقب، ويده المباركة، ونظراته البعيدة ترقب الأحداث في تلك الحوزات وإن بعدت، فتحظى باهتمامه ورعايته الأبوية.
وكيف لا يكون كلّ هذا وغيره من شأنه، وهو المعروف بأنّه صاحب الأفكار الخلاّقة التي منها فكرة التقريب بين المذاهب، ودارها في القاهرة، والمبادرات العلميّة وصاحب المشاريع الكبيرة الرائدة العملاقة التي تتّصف بالإبداع والتجديد؟! وما خلّفه من آثار ومؤلّفات ومساجد ومدارس ومؤسّسات دينيّة هنا وهناك في ايران والنجف الأشرف، وفي بلدان اُخرى إسلاميّة وغير إسلاميّة، منها: المسجد الذي اُسّس بأمره في هامبورغ آلمانيا، كما أنّ المسجد الأعظم في قم عاصمة التشيّع اليوم، يعدّ من أروع مآثره التاريخيّة. وأنّ إرساله المبلِّغين
- (1) مجلّة الحوزة، العدد 43ـ44: 153ـ154.
(الصفحة 23)
من الأعلام لنشر مذهب أهل البيت(عليهم السلام)في شتّى أقطار العالم ولا سيّما أروبا لخير دليل على وعيه واُفقه الواسع وخبرته وتجاربه.
فكان بحقّ من العمالقة القلّة، الذين عرفتهم الحوزات العلميّة في بروجرد، وفي اصفهان، وفي النجف، وفي مشهد، وفي قم. وشهد له بذلك الكثيرون من أعلامها ورجالها. وقد ارتبط بها ارتباطاً وثيقاً طيلة عمره المديد.
ولَكَم وجدنا ونحن نطالع حياته هنا وهناك الشبه الكبير بينه وبين غيره من علمائنا الأفذاذ وإن اختلف في رؤاه وفي منهجه العلمي والتربوي والاجتماعي. وهذا أمر طبيعيّ، فلكلّ شيخ طريقة. فقد اختطّ لنفسه هذه المنهجيّة منذ أوّل خطوة خطاها في سُلَّم العلم والمعرفة، وفي تدريسه وتعليمه وتأليفه، وحتى في حياته الشخصيّة، كما نلاحظ ذلك في معالم حياته، حتى غدت كلّها مدرسةً متكاملةً، سعيدٌ من نال حظّاً وفيراً منها.
أعماله في بروجرد
في أطول فترة علميّة قضاها ـ قرابة الخمسين سنة باستثناء طفولته ـ في حوزتها التي كان مغرماً بعلومها وشغوفاً بدروسها، ومستوعباً لبحوثها، وكانت حقّاً منهلاً سلسبيلاً، لم يذق شربه أنقع لغليله منها. وراحت هذه المرحلة من عمره الشريف تدقّ في شخصه الكريم أعمدة العلم، وتجذّرها في مداركه، وتفتح له من كلّ باب يرده أبواباً اُخر، ومن كلّ نشاط يخطو نحوه خطواته الرصينة أنشطة اُخر أكثر نفعاً وأعظم استيعاباً لعلوم أهل البيت(عليهم السلام); التي نذر نفسه منذ صغره لخوض غمارها، تدريساً وبحثاً، ومعالم حياته المباركة الفكريّة منها والقياديّة كانت
(الصفحة 24)
نتيجة هذه السنين الطويلة، وثمرة لجهود عظيمة تتجلّى عبر ما بحثه وما تركه من آثار تدلّنا بوضوح على ما كان يتمتّع به الرجل من فكر ثاقب، ونشاط لا يعرف التوقّف في التحقيق والبحث.
ومَن أراد الاطّلاع على قدراته الفائقة وخدماته الجليلة، فليرجع وليحتكم إلى أعماله ومؤلّفاته وإلى ما شهد به أساتذته وتلامذته.
لقد كان ذا باع طويل وإلمام بكلّ جوانب العلوم الحوزويّة، وكان على تبحّر واسع بعلمي الرجال والحديث، فهو فيهما صاحب مدرسة خاصّة، ألَّف في هذين العلمين كتباً قيّمة. حقّاً إنّ الفقيه لا يكون فقيهاً ما لم يكن متبحّراً بعلم الرجال، وملمّاً به أيّما إلمام. وفعلاً نضجت عنده في بروجرد فكرة تأليف أعماله الجبّارة، والتي احتضنت ما بين لابتيها: الموسوعة الرجاليّة، وجامع أحاديث الشيعة، والأضابير الفقهيّة الاُخرى.
يقول المحقّق الجلالي:
إنّ بروجرد كانت مجمعاً علميّاً نفّذ فيه السيّد كلّ طموحاته واُطروحاته العلميّة، مستنفداً كلّ وسعه، ومستفيداً من كلّ إمكاناته، ومتمتّعاً من كلّ الفرص المؤاتية.
فهناك طرح فكرته عن تكميل الموسوعة الحديثيّة والرجاليّة، التي تبلورت عن وجود «جامع أحاديث الشيعة في أحكام الشريعة» أحدث موسوعة حديثيّة شيعيّة، وأوسعها وأجمعها وأحسنها ترتيباً وتنظيماً(1).
لقد كان سيّدنا يأمل من موسوعته هذه أن تكون جامعةً حاويةً لجميع الفوائد،
- (1) المنهج الرجالي للسيد البروجردي(قدس سره): 21.
(الصفحة 25)
وافيةً بجملة المقاصد، مشتملةً على الآيات الدالّة على الأحكام والأحاديث الباحثة حول الفروع، وما يحتاج إليه في الفقه من الاُصول، خاليةً عن التكرار والتقطيع والفضول، مراعياً لتسهيل طرق الاطّلاع والعثور، بحيث لا يحتاج معه الفقيه إلى غيره، ويستغني به عمّا سواه(1). وهكذا كان، فقد وفّقه الله تعالى للنهوض بهذا العبء مع ثلّة مؤمنة من العلماء والفضلاء.
وهناك نظّم السيّد فكرة «الموسوعة الرجاليّة» العظيمة بقسميها «ترتيب الأسانيد»، و «طبقات الرجال».
كما بدأ أيضاً مشروع الأضابير الفقهيّة، المؤسَس على فكرة إفراز كلّ فرع فقهيّ في ملفٍّ يضبط كلّ ما يتعلّق بالفروع من أدلّة وأحكام ومناقشات وشؤون.
معجم بأعماله العلميّة
وهنا نكتفي بما وقف عليه السيّد الجلالي بنفسه من أعمال لسيّدنا البروجردي، معتمداً في هذا على ما أعدّه الشيخ رضا الاُستادي(2).
قال: المؤلّفات التي كانت نتاج قلمه الشريف، فهي بين كتب علميّة مؤلّفة، وبين رسائل عمليّة وكتب حقّقها، واُخرى قدّمَ لها، وثالثة ما أمر بطبعه باعتباره من تُراث القدماء.
1ـ ترتيب أسانيد الكافي.
2ـ ترتيب أسانيد التهذيب.
- (1) جامع أحاديث الشيعة 1: 10.
- (2) المنهج الرجالي للسيد البروجردي(قدس سره): 32ـ43.