(الصفحة 162)
وأمّا القول بالامتداد إلى نصف الليل، فذهب إليه السيّد، وابن إدريس، والحلبي، وجماعة(1); وصرّح بعضهم بكونه آخر وقت المضطرّ، وأنّ آخر الوقت للمختار هو الثلث(2). وأمّا ثلث الليل، فاختاره المفيد، والشيخ في النهاية، والجمل، والخلاف، والاقتصاد(3). وقال ابن أبي عقيل: أوّل وقت العشاء الآخرة مغيب الشفق، وهو الحمرة لا البياض، فإن جاوز ذلك حتّى دخل ربع الليل فقد دخل في الوقت الأخير(4).
وبالجملة: فأقوال الإماميّة في المسألة أيضاً أربعة: الفجر، ونصف الليل، وثلثها، وربعها، وحكى في مفتاح الكرامة أنّ القول الأخير مرويّ عن الرضا(عليه السلام)(5)، والظاهر أنّه أراد فقه الرضا(عليه السلام)(6). وأمّا ما يدلّ على القول الأوّل، فهي الأخبار المتقدّمة(7) في آخر وقت المغرب، ولا يمكن الاعتماد عليها; لموافقتها للعامّة; لتسالمهم على الامتداد إلى الفجر في الجملة كما عرفت. نعم، حكي عن النخعي القول بامتداده إلى ربع الليل(8)، ولكنّه شاذّ عندهم.
وحينئذ فيحتمل قويّاً صدور الروايات الدالّة على ذلك تقيّة; وما ذكرناه
- (1) مسائل الميافارقيات (رسائل الشريف المرتضى) 1: 274; السرائر 1: 195; الكافي في الفقه: 137; المراسم: 62; غنية النزوع: 70; شرائع الإسلام 1: 61; مختلف الشيعة 2: 24 و 27ـ28; الدروس الشرعيّة 1: 139ـ140; ذكرى الشيعة 2: 340، 344 و 347ـ348; مسالك الأفهام 1: 139; مفتاح الكرامة 5: 97ـ100.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 33، ذ ح103; الاستبصار 1: 270، ذ ح976; المبسوط 1: 75; الوسيلة: 83.
- (3) المقنعة: 93; النهاية: 59; الجمل والعقود، الرسائل العشر: 174; الخلاف 1: 265، مسألة 8; الاقتصاد: 394.
- (4) حكى عنه في مختلف الشيعة 2: 28.
- (5) مفتاح الكرامة 5: 97.
- (6) فقه الرضا(عليه السلام): 103، ب7.
- (7) في ص143ـ145.
- (8) تقدّم في ص160.
(الصفحة 163)
سابقاً(1) في مقام تصحيح هذه الأخبار ـ من أن القول بجواز الإتيان بالمغرب إلى طلوع الفجر، خلاف ما هو المشهور بينهم ـ فهو إنّما كان بالنسبة إلى المغرب. وأمّا بالنسبة إلى صلاة العشاء فلا; وإن كان ربما يستظهر منها عدم التقيّة باعتبار اشتمالها على امتداد المغرب أيضاً إلى طلوع الفجر، والعامّة لا يقولون به.
هذا، ولكن عرفت سابقاً اتّفاقهم إجمالا على امتداده أيضاً إلى الطلوع، وإن اختلفوا من حيث إنّ الجواز من جهة سعة الوقت، كما اختاره مالك(2)، أو من جهة الجمع في موارد مشروعيّته، كالسفر والمطر ونحوهما، فليس ذكر المغرب فيها مانعاً عن الحمل على التقيّة. نعم، بعضها يدلّ على ما لا يقولون به أصلا، وهو اشتراك الوقت بين المغرب والعشاء إلى أن يبقى إلى الفجر مقدار أداء العشاء، فيختصّ بها; إذ ليس هذا التفصيل في كلامهم أصلا. وكيف كان، فهذه الأخبار أيضاً مخالفة للمشهور(3)، ولا يجوز العمل بها.
هذا، وأمّا ما يدل على الامتداد إلى الثلث مطلقاً، فهي الرواية الدالّة على إتيان جبرئيل(عليه السلام) بمواقيت الصلاة(4)، المشتملة على أنّ ما بين زوال الحمرة والثلث وقت، وقد عرفت(5) الجواب عنها.
وأمّا ما يدلّ على النصف، فمنها: قوله ـ تعالى ـ : (أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ)(6); لأنّ المراد بالغسق هو النصف،
- (1) في ص145.
- (2) تقدّم في ص161.
- (3) تقدّم تخريجه في ص162.
- (4) سنن الترمذي 1: 279، ح149; وسائل الشيعة 4: 157، أبواب المواقيت، ب10، ح5.
- (5) اُنظر ص87.
- (6) سورة الإسراء 17: 78.
(الصفحة 164)
كما قد فسّر به(1).
ومنها: رواية زرارة قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام) عمّا فرض الله ـ تعالى ـ من الصلاة؟ فقال: خمس صلوات في الليل والنهار، فقلت: هل سمّـاهنّ الله وبيّنهنّ في كتابه؟ قال: نعم، قال الله ـ عزّ وجلّ ـ لنبيّه: (أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ) ودلوكها: زوالها، ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات، سمّـاهنّ الله وبيّنهنّ ووقّتهنّ، وغسق الليل انتصافه، الحديث(2).
ومنها: مرسلة الصدوق قال: قال الصادق(عليه السلام): إذا غابت الشمس فقد حلّ الإفطار ووجبت الصلاة، وإذا صلّيت المغرب فقد دخل وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل(3).
ومنها: رواية داود بن فرقد، المشتملة على قوله(عليه السلام): إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي ثلاث ركعات، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة حتى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات، وإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب وبقي وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل(4).
ومنها: رواية معلّى بن خنيس، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: آخر وقت العتمة
- (1) مجمع البيان 6: 265; تفسير الصافي 3: 209; تفسير نور الثقلين 3: 200.
- (2) الكافي 3: 271، ح1; تفسير العيّاشي 2: 308، ح136; الفقيه 1: 124، ح1; علل الشرائع: 354، ح1; تهذيب الأحكام 2: 241، ح954; معاني الأخبار: 332; وعنها وسائل الشيعة 4: 10، أبواب أعداد الفرائض، ب2، ح1.
- (3) الفقيه 1: 142، ح662; وعنه وسائل الشيعة 4: 184، أبواب المواقيت، ب17، ح2.
- (4) تقدّمت في ص155.
(الصفحة 165)
نصف الليل(1).
ومنها: غير ذلك من الأخبار الظاهرة في امتداد وقت العشاء إلى الانتصاف.
هذا، والجمع بين هذه الأخبار والأخبار الدالّة على الثلث، هو حمل الثانية على الفضيلة، والاُولى على الإجزاء; لما عرفت من أنّ لكلّ صلاة وقتين، وأنّ اختلافهما إنّما هو بالفضيلة والإجزاء. نعم، من قال بأنّ اختلافهما إنّما هو بالنسبة إلى حالتي الاختيار والاضطرار، كما ذهب إليه جماعة(2)، يكون المتعيّن عنده هو حمل الثانية على صورة الاختيار، والاُولى على صورة الاضطرار، ولكنّه خلاف ما يستفاد من الأخبار الدالّة على أنّ لكلّ صلاة وقتين، كما مرّ سابقاً.
المسألة السابعة ـ في بيان وقت صلاة الفجر أوّلا وآخراً
فنقول: اتّفق المسلمون كافّة على أنّ أوّل وقت صلاة الفجر هو طلوع الفجر الصادق(3)، كما أنّه أوّل وقت الصوم أيضاً. نعم، حكي عن الأعمش أنّه قال: أوّل وقت الصوم هو طلوع الشمس(4)، ولكنّه مردود بالاجماع، ولا عبرة بالفجر الأوّل المسمّى بالفجر الكاذب، لا عندنا ولا عند المخالفين; وما حكي من اعتماد عوامهم على الفجر الكاذب، فهو على فرض صحّة الحكاية سيرة مستمرّة بين
- (1) تهذيب الأحكام 2: 262، ح1042; الاستبصار 1: 273، ح987; وعنهما وسائل الشيعة 4: 185، أبواب المواقيت، ب17، ح8.
- (2) تقدّم في ص150ـ151.
- (3) المغني لابن قدامة 1: 395; الشرح الكبير 1: 442; بداية المجتهد 1: 99; المجموع 3: 46; أحكام القرآن للجصّاص 3: 250ـ251; الخلاف 1: 267، مسألة 10; المعتبر 2: 44; تذكرة الفقهاء 2: 316، مسألة 35; منتهى المطلب 4: 88ـ89; مدارك الأحكام 3: 61; مفتاح الكرامة 5: 101; جواهر الكلام 7: 163ـ164.
- (4) المجموع 3: 46ـ47; الخلاف 1: 266، ذ مسألة 9.
(الصفحة 166)
العوام، ولا يقول به أحد من علمائهم أصلاً، كما يظهر بمراجعة الفتاوى.
ويدلّ على ما ذكرنا مضافاً إلى الإجماع، الآية الشريفة، والروايات الكثيرة، قال الله ـ تعالى ـ : (كُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الاَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاَْسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)(1)، والتعبير عن البياض بالخيط إنّما هو لكونه في أوّل حدوثه دقيقاً. وأمّا التعبير عن الليل بالخيط أيضاً ـ مع كونه محيطاً لجميع السماء والأرض ـ فإنّما هو من باب المشاكلة، والتعبير عن الشيء بلفظ مصاحبه، فمعنى الآية: (كُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ) الذي هو أمارة على النهار، من الخيط الذي هو عبارة عن ظلمة الليل.
وليس المراد التبيّن لكلّ واحد واحد من آحاد الناس باختلاف حالاتهم، أو حالات الليل; من كونه مقمراً، أو غيره، أو حالات الهواء; من كونها مغيمة، أو صحواً، بل المراد هو التبيّن والتميّز النوعي مع قطع النظر عن الموانع; لأنّ النهار
إنّما يتحقّق بقرب الشمس في حركتها إلى الاُفق، بحيث يمكن رؤية ضوئها
لو لم يكن في البين مانع، ولا يختلف حسب اختلاف حالات الناظرين، أو غيرها، كما هو واضح.
ثمّ اعلم أنّ سبب نزول الآية كما يستفاد من الروايات(2)، أنّه كان في صدر الإسلام الأكل والنكاح محرّمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم، بل كان النكاح محرّماً فيه مطلقاً، فوقع الناس من أجل ذلك في شدّة ومشقّة، الشيوخ من ناحية الأوّل، والشبّان من جهة الثاني، فمنَّ الله ـ تعالى ـ عليهم بأن وضع عنهم هذا
- (1) سورة البقرة 2: 187.
- (2) تفسير القمّي 1: 66; مجمع البيان 2: 21; تفسير نور الثقلين 1: 172، ح596ـ598; تفسير الصافي 1: 206; الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2: 314; التفسير الكبير للفخر الرازي 2: 267.