(الصفحة 185)
وتركت النافلة(1).
والكلام في دلالة هذه الرواية هو الكلام في دلالة الرواية الاُولى، بل الظاهر أنّها بعينها هي الرواية المتقدّمة، كما لا يخفى.
3ـ ومنها: ما رواه إسماعيل الجعفي، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟ قال: قلت: لِمَ؟ قال: لمكان الفريضة; لئلا يؤخذ من وقت هذه ويدخل في وقت هذه(2).
ورواه في الوسائل في موضع آخر بطريق آخر هكذا: قال ـ يعني أباجعفر(عليه السلام) ـ : كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) إذا كان الفيء في الجدار ذراعاً صلّى الظهر، وإذا كان ذراعين صلّى العصر، قلت: الجدران تختلف، منها قصير ومنها طويل؟ قال: إنّ جدار مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يومئذ قامة، وإنّما جعل الذراع والذراعان لئلاّ يكون تطوّع في وقت فريضة(3).
وظاهر هاتين الروايتين تباين الوقتين: وقت الفريضة ووقت النافلة، وقد عرفت(4) أنّ ذلك مخالف لإجماع المسلمين، وحينئذ فيحتمل أن يكون المراد بوقت الفريضة وقت فضيلتها، فالمقصود من الرواية الاُولى حينئذ: أنّ التحديد إلى الذراع إنّما هو لئلاّ يؤخذ من وقت فضيلة العصر ويدخل في وقت
- (1) الكافي 3: 288، ح1; تهذيب الأحكام 2: 245، ح974; الاستبصار 1: 249، ح893; علل الشرائع: 349، ب59، ح2; وعنها وسائل الشيعة 4: 146، أبواب المواقيت، ب8، ح20.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 245، ح975; الاستبصار 1: 249، ح894; وعنهما وسائل الشيعة 4: 146، أبواب المواقيت، ب8، ح21.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 250، ح993; الاستبصار 1: 255، ح916; وعنهما وسائل الشيعة 4: 148، أبواب المواقيت، ب8، ح28.
- (4) في ص181ـ182.
(الصفحة 186)
نافلتها; ومن الرواية الثانية: أنّ التحديد إليه من جهة أن لا يقع التطوّع في وقت فضيلة الفريضة. ولكن هذا الإحتمال مردود أيضاً من جهة مخالفته للإجماع بالنسبة إلى صلاة الظهر; لأنّ مقتضاه صيرورة الظهر ذات أوقات ثلاثة: وقتان للإجزاء، ووقت للفضيلة متوسّط بينهما.
ويحتمل أن يكون المراد بوقت الفريضة وقت انعقاد الجماعة لأجلها، والمراد بالجعل هو جعل النبيّ(صلى الله عليه وآله) عمله كذلك، لا الجعل التشريعي، فيصير محصّل الروايتين: أنّ تأخير النبيّ(صلى الله عليه وآله) عملا إنّما هو لمراعاة حال المتنفّلين القاصدين لإدراك الجماعة; إذ لو لم يكن يؤخّر الفريضة لأخذ من وقت انعقاد الجماعة للفريضة، وأدخل في وقت النافلة، وتقع النافلة حينئذ في وقت انعقاد الجماعة للفريضة، وعلى أيّ تقدير، فلا يستفاد من الرواية التوقيت كما هو واضح.
4ـ وما رواه أبو بصير، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: الصلاة في الحضر ثماني ركعات، إذا زالت الشمس ما بينك وبين أن يذهب ثلثا القامة، فإذا ذهب ثلثا القامة بدأت الفريضة(1).
ولا يخفى أنّ المراد بالصلاة هي نافلة الظهر، فتدلّ الرواية على توقيتها إلى ذهاب ثلثي القامة، ولا ريب أنّهما أزيد من الذراعين، فتخالف مع جميع الروايات، كما هو واضح.
5ـ ومنها: رواية محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إذا دخل وقت الفريضة أتنفّل أو أبدأ بالفريضة؟ قال: إنّ الفضل أن تبدأ بالفريضة، وإنّما أخّرت
- (1) تهذيب الأحكام 2: 248، ح985; الاستبصار 1: 253، ح908; وعنهما وسائل الشيعة 4: 146، أبواب المواقيت، ب8، ح23.
(الصفحة 187)
الظهر ذراعاً من عند الزوال من أجل صلاة الأوّابين(1).
والمراد بوقت الفريضة في السؤال هو وقت فضيلتها، أو وقت انعقاد الجماعة لها، وهو بعد مضيّ الذراع; لأنّ الإتيان بالنافلة قبل الذراع أفضل.
ويحتمل أن يكون المراد بوقت الفريضة، الوقت الذي لا تزاحم النافلة الفريضة فيه; لما عرفت من أنّ النافلة تزاحم الفريضة إلى الذراع وتصير مرجوحة بعده، فلا يستفاد من الرواية التوقيت بالنسبة إلى النافلة.
واحتمل صاحب المدارك في الرواية احتمالا آخر; وهو: أن يكون صدر الرواية متعرّضاً لحال النافلة المبتدأة; لأنّها هي التي يكون الإتيان بالفريضة
راجحاً عليها، وذيلها ـ وهو قوله(عليه السلام): «وإنّما أخّرت الظهر ذراعاً» إلخ ـ إنّما هو دفع دخل; لأنّه بعدما حكم بترجيح الإتيان بالفريضة على النافلة المبتدأة، صار بصدد بيان الفرق بين النافلة المبتدأة، وصلاة الأوّابين ـ أي نافلة الظهر ـ لئلاّ يورد عليه بأنّه ما الفرق بينهما مع اشتراكهما في كونهما نافلة؟ فأجاب بثبوت الفرق بينهما من حيث مرتبة الفضيلة; فإنّ فضل نافلة الظهر بمرتبة تؤخّر الفريضة لأجلها(2).
هذه مجموع الروايات التي يمكن أن يستدلّ بها القائل بالقول الثاني، وقد عرفت عدم دلالة شيء منها على هذا القول; فإنّ مفاد أكثرها هو بيان أنّ النافلة تزاحم الفريضة إلى أن يصير ظلّ الشاخص ذراعاً أو ذراعين. وأمّا إذا بلغ الفيء إليهما فلا تزاحم النافلة الفريضة، بل الفضل في تأخيرها عنها، لا أنّه يخرج
بذلك وقت النافلة وتصير قضاءً، فلا دلالة لها على ذلك أصلا.
- (1) الكافي 3: 289، ح5; وعنه وسائل الشيعة 4: 230، أبواب المواقيت، ب36، ح2 و 3.
- (2) مدارك الأحكام 3: 89.
(الصفحة 188)
بل يمكن أن يقال بدلالة بعضها على عدم خروج وقتها; فإنّ قوله(عليه السلام)في صحيحة زرارة المتقدّمة: «بدأت بالفريضة وتركت النافلة» يدلّ على جواز الإتيان بالنافلة بعد الفريضة إذا بلغ الفيء الذراع، وظاهره أنّ النافلة التي يجوز الإتيان بها بعد الفريضة في ذلك الوقت هي عين الطبيعة التي كانت تزاحم الفريضة قبله، ولو كانت موقّتة بالذراع مثلا ـ بحيث صارت قضاءً بعده ـ لم تكن النافلة البعديّة عين الطبيعة القبليّة; لما حقّق في محلّه من أنّ طبيعة القضاء مباينة لطبيعة الأداء، فلا يستفاد من الروايات بملاحظة ما ذكرنا أزيد من جواز مزاحمة النافلة للفريضة إلى الذراع، ويكون إدراكها أفضل من إدراك فضل وقت الفريضة، وبعد الذراع ينعكس الأمر من دون أن تصير النافلة قضاءً.
نعم، لا ينبغي الإشكال في كون النوافل موقّتة; لدلالة الأخبار الكثيرة على استحباب قضاء النوافل(1)، كما أنّ الظاهر عدم كون وقتها أوسع من وقت الفريضة، وحينئذ فبعد عدم ثبوت توقيتها إلى الذراع والذراعين، وكذا إلى المثل والمثلين، لا يبعد القول بامتداد وقتها بامتداد وقت الفريضة، لكن لا يترتّب على هذا النزاع ثمرة مهمّة; إذ الإتيان بها قبل الذراع راجح بلا إشكال، والإتيان بها بعده قبل الفريضة مرجوح كذلك، والإتيان بها بعدها جائز بلا ريب; سواء كان قضاءً، أو أداءً; إذ على فرض صيرورتها قضاءً بعد الذراع لا مجال لاحتمال وجوب تأخيرها إلى الليل أو النهار الآتي كما هو واضح; فالأحوط فيما إذا أتى بها بعد الفريضة الإتيان بها بقصد ما في الذمّة.
هذا، وربما يتمسّك في بقاء وقتها بعد الذراع باستصحاب بقاء الوقت، أو عدم
- (1) وسائل الشيعة 4: 75، أبواب أعداد الفرائض، ب18.
(الصفحة 189)
خروجه، أو بقاء الرجحان، ولا يخفى ما فيه من الضعف; فإنّ ممّا يتقوّم به الاستصحاب أن يكون هنا متيقّن سابق يمكن إبقاؤه في الزمان اللاحق، ومن الواضح في المقام عدم ثبوت هذا الركن; فإنّ المتيقّن السابق هو وقوع النافلة في وقتها مقيّداً بما إذا أتى بها قبل الذراع، واستصحاب هذا المعنى لا يجدي لإثبات بقاء وقتها بعد الذراع أيضاً، بل لا يجري هذا الاستصحاب; لعدم كون هذه القضيّة الشرطيّة مشكوكة أصلا، فما وقع الشك فيه ـ وهو أصل جهة الوقتيّة ـ مشكوك من أوّل الأمر، وما كان متيقّناً ـ وهي القضيّة الشرطيّة ـ لا يكون مشكوكاً أصلا، كما هو واضح; هذا كلّه بالنسبة إلى آخر وقت نافلة الظهرين.
وأمّا أوّل وقتها، فلا إشكال ولا خلاف في جواز الإتيان بها من أوّل الزوال(1)، وحكي عن جماعة جواز تقديم نافلة الظهر على الزوال(2)، واستدلّوا على ذلك بروايات:
منها: رواية محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر(عليه السلام): عن الرجل يشتغل عن الزوال أيعجّل من أوّل النهار؟ قال: نعم، إذا علم أنّه يشتغل فيعجّلها في صدر النهار كلّها(3)، والمراد بالزوال هي نافلة الظهر.
ومنها: رواية عمر بن يزيد، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قال: إعلم أنّ النافلة
- (1) المجموع 4: 14; المغني لابن قدامة 1: 762; المقنعة: 90; المراسم 63; النهاية: 60; المهذّب 1: 70; غنية النزاع: 71; الوسيلة: 83; المعتبر 2: 48; الجامع للشرائع: 62; تذكرة الفقهاء 2: 316، مسألة 37; مختلف الشيعة 2: 33; جامع المقاصد 2: 20; كشف اللثام 3: 51; مفتاح الكرامة 2: 105.
- (2) منهم: الشهيد في ذكرى الشيعة 2: 360ـ361، والأردبيلي في مجمع القائدة والبرهان 2: 16 و 19; والسيّد العاملي في مدارك الأحكام 3: 73; والبهبهاني في الحاشية على مدارك الأحكام 2: 314ـ315.
- (3) الكافي 3: 450، ح1; تهذيب الأحكام 2: 268، ح1067; الاستبصار 1: 278، ح1011; وعنها وسائل الشيعة 4: 232، أبواب المواقيت، ب37، ح1.