(الصفحة 232)
مع عدم لزوم البطلان في الصورة المفروضة; لأنّ الصفّ المذكور إذا راعوا كلّهم رعاية صحيحة وتوجّهوا نحو الكعبة على طبق الأمارات التي عيّنت لهم شرعاً كان لصفّهم لا محالة انحناء غير محسوس، والخطوط الخارجة من كلّ واحد منهم إلى الكعبة غير متوازية.
والسرّ في عدم إحساس الانحناء هو: أنّ المصلّين إلى القبلة يقعون في الحقيقة في محيط دائرة أحاطت بالكعبة ووقعت في مركزها، ومن المعلوم أنّه كلّما كان طول شعاع الدائرة أزيد مقداراً كانت القسيّ المنقطعة عن سائر أجزاء محيطها أشبه بالخطّ المستقيم، بحيث قد يبلغ إلى درجة لا يحسّ الانحناء أصلا.
ثمّ إنّه ذهب إلى القول الأوّل جماعة من محقّقي المتأخّرين، كصاحب الجواهر(قدس سره); فإنّه بعد أن حكى عن الأصحاب أقوالا مختلفة ـ في أنّ قبلة البعيد هل هي عين الكعبة أو جهتها؟ ـ قال ما ملخّصه:
إنّ قبلة البعيد هي بعينها قبلة القريب، فكما أنّ القريب المشاهد يجب أن يستقبل عين الكعبة، فكذلك البعيد يجب أن يتوجّه نحوها، وهذا المعنى ـ أي التوجّه نحو العين ـ ليس أمراً ممتنعاً; لأنّه كما يصدق الاستقبال في المشاهد، كذلك يصدق في البعيد; لأنّه لا يعتبر في صدقه وقوع خطّ المستقبِل ـ بالكسر ـ حال استقباله على المستقبل ـ بالفتح ـ ; لأنّ الاستقبال الذي أمر به أمر عرفيّ، وهو يصدق عرفاً بدون ذلك; ضرورة تحقّقه عرفاً في الأجرام المشاهدة من بعد، وإن نقطع بعدم اتّصال جميع الخطوط الخارجة بها.
والحاصل: أنّه وإن كان يتوقّف صدق الاستقبال الحقيقي على ذلك; أي على وقوع خطّ المستقبِل على المستقبَل، إلاّ أنّه لا يعتبر في تحقّق الاستقبال العرفي
(الصفحة 233)
لما عرفت، وإلى ذلك يرجع ما هو المشهور(1) بين الأعلام من أنّ الجرم الصغير كلّما ازداد بُعداً إزداد محاذاةً; لأنّهم لا يريدون أنّ في صورة ازدياد البعد يكون صدق المحاذي الذي يقع خطّه على المحاذى، أوسع من صورة القرب; لأنّ وقوع خطّ المحاذي على المحاذى وعدمه لا فرق فيه بين محاذاة القريب والبعيد، بل مرادهم أنّ في صورة كثرة البعد يكون صدق المحاذي على الأشخاص الذين وقعوا في مقابل الجسم في نظر العرف أكثر وأوسع من صورة القرب.
فعلى هذا لا إشكال في صحّة الصلاة في الصورة المفروضة في كلام الشيخ(قدس سره); لأنّه يصدق عرفاً على كلّ واحد منهم أنّه مستقبل الكعبة ومتوجّه نحوها، وإن كان بعض الخطوط الخارجة لا يقع عليها، انتهى(2).
وفيه: أنّ استقبال الشيء لا يصدق بدون اتّصال الخطّ المذكور إلى ذلك الشيء، وصحّة الصلاة في الصورة المذكورة قد عرفت وجهها في مقام الجواب عن الشيخ(رحمه الله).
ثمّ لو قلنا بأنّ قبلة البعيد هي عين الكعبة، يقع الكلام في وجه صحّة صلاة من كان في بلاد مختلفة، التي يكون البعد بينها أزيد من طول الكعبة، أو في بلد كذلك مع توجّهم في الصلاة إلى جهة واحدة، فهل الوجه في صحّتها أنّه لا يعتبر في تحقّق الاستقبال عرفاً وقوع خطّ المستقبِل على المستقبَل وإن كان يتوقّف تحقّق المحاذاة على ذلك، أو أنّه لا فرق بين الاستقبال والمحاذاة، فكما أنّه لا يعتبر
- (1) لم نعثر على من ادّعى الشهرة، ولم يدّعه في الجواهر أيضاً. نعم، قال به في نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 393; وذكرى الشيعة 3: 160; ومسالك الأفهام 1: 152.
- (2) جواهر الكلام 7: 531ـ533 و 517ـ523.
(الصفحة 234)
في الأوّل، فكذلك لا يتوقّف صدق الثاني عليه وإن كان يعتبر في محاذاة القريب للقريب ذلك.
والأوّل قد عرفت ما فيه، والثاني وإن كان قد استشهد عليه بالوجدان، وقيل في توضيحه: إنّك لو كنت في موقف قريب من الصفّ المركّب من أفراد كثيرة، ووقعت في محاذاتهم، لتجد نفسك محاذياً لواحد منهم، وإذا بعدت عنهم على نحو لو خرج من موقفك الأوّل خطّ مستقيم لوقع على موقفك الثاني لتجد نفسك محاذياً لجميعهم وإن كان الخطّ الخارج من وجهك لا يقع إلاّ على وجه واحد منهم، وهو الذي عبّر عنه الأعلام في كلماتهم بأنّ الجرم الصغير كلّما ازداد بعداً إزداد محاذاةً(1).
والحاصل: أنّ المحاذاة أمر واحد متفاوت الصدق بالنسبة إلى القريب والبعيد، ولكن فيه ـ مع أنّ هذا المثال عكس ما نحن فيه ـ : أنّ ازدياد البعد عن ذلك الصفّ يوجب أن يكون الصفّ كالشيء الواحد في نظر المحاذي، ومن المعلوم أنّ الشيء الواحد لو وقع الخطّ الخارج من المستقبِل على بعض أجزائه لا يخرج عن صدق المحاذاة، فالخطّ الخارج في المثال من المحاذي وإن كان يقع على بعض أفراد ذلك الصفّ، إلاّ أنّه لمّا كان بمنزلة شيء واحد، ويكفي في محاذاته وقوع الخطّ على بعض أجزائه، فلذا تصدق المحاذاة لذلك الصفّ.
ويمكن أن يكون الوجه في ازدياد سعة المحاذاة بالنسبة إلى البعيد أنّ الشخص لو كان قريباً من ذلك الصفّ ليقع جميع الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه على بعض أفراد ذلك الصفّ. وأمّا لو كان بعيداً عنهم ليقع الخطوط
- (1) تقدّم تخريجاتهم في الصفحة السابقة.
(الصفحة 235)
الخارجة على تمام أفراده; والسرّ فيه ما تقدّم من أنّ الخطوط الخارجة من أجزاء الوجه ليس على نحو التوازي، بل على نحو كلّما كان طولها أزيد، كان ازدياد البعد بينها أكثر، وفي البعيد لمّا كان طول الخطوط الخارجة أزيد من القريب، فلذا يكون البعد بينها أكثر، ومع ازدياد البعد لا يقع جميع الخطوط على بعض الأفراد، بل على جميعها.
هذا، ولعلّ الوجه في صحّة الصلاة في مفروض المسألة ـ بناءً على اعتبار العين ـ هو ما تقدّم في وجه صحّة صلاة الصفّ الذي كان طوله أزيد من الكعبة، فراجع.
إذا عرفت ما ذكرنا تظهر لك أوسعيّة أمر القبلة، كما يدلّ عليه ما رواه الشيخ بإسناده عن الطاطري، عن جعفر بن سماعة، عن العلاء بن رزين، عن محمّد بن مسلم، عن أحدهما(عليهما السلام) قال: سألته عن القبلة؟ فقال(عليه السلام): ضع الجدي في قفاك وصلّ(1); فإنّ المراد من القفا إمّا أن يكون مقدار ما بين الكتفين، أو المقدار الذي وقع ظهر الوجه; وهو ربع الدائرة التي تتشكّل من الوجه والعنق، وطرفي اليمين واليسار.
وعلى أيّ تقدير فجعل الجدي على القفا في أوساط العراق كالكوفة يحتاج إلى الانحراف عن نقطة الجنوب إلى المغرب، والتخصيص بأوساط العراق لأجل أنّ السائل ـ وهو محمّد بن مسلم ـ من أهل الكوفة.
وما رواه الصدوق قال: قال رجل للصادق(عليه السلام): إنّي أكون في السفر ولا أهتدي إلى القبلة بالليل، فقال: أتعرف الكوكب الذي يقال له الجدي؟ قلت: نعم. قال:
- (1) تهذيب الأحكام 2: 45، ح143; وعنه وسائل الشيعة 4: 306، أبواب القبلة، ب5، ح1.
(الصفحة 236)
اجعله على يمينك، وإذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك(1).
ولا يعلم منه أنّ السائل من أهل أيّ بلد كان، وعلى هذا فجعل الجدي على اليمين قد ينطبق على بعض بلاد الهند، وهو لا ينطبق مع جعلهم الجدي في طريق الحجّ على كتفهم; فإنّ طريق حجّهم يكون من البحر، وفي هذا الطريق لا يتفاوت قبلتهم مع كونهم في بلدهم، اللّهمّ إلاّ أن يكون طريق حجّهم من البرّ، فينطبق مع الأوّل، والمراد بطريق الحجّ هو الطريق الذي لا يقصد غالباً بطيّه غير الحجّ، وتخصيص السائل عدم اهتدائه بالليل يشعر بأنّه يعرف القبلة في النهار بالشمس أو غيرها.
ورواية معاوية بن عمّار أنّه سأل الصادق(عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا؟ فقال له: قد مضت صلاته، وما بين المشرق والمغرب قبلة(2).
ورواية زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: لا صلاة إلاّ إلى القبلة. قال: قلت: أين حدّ القبلة؟ قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه، الحديث(3); فإنّ المراد بما بين المشرق والمغرب المذكور فيهما إمّا ما ذكرنا من أنّه المقدار الذي لا يصدق على جزء منه أنّه مشرق للشمس، أو مغرب لها ولو في يوم في كلّ سنة; فإنّ لها مشارق ومغارب مختلفة، وباختلافهما تختلف المدارات التي تسير الشمس فيها، فعلى هذا تكون القبلة ربع الدائرة المفروضة التي تمرّ بسطح الكعبة.
- (1) الفقيه 1: 181، ح860; وعنه وسائل الشيعة 4: 306، أبواب القبلة، ب5، ح2.
- (2) الفقيه 1: 179، ح846; تهذيب الأحكام 2: 48، ح157; الاستبصار 1: 279، ح1095; وعنها وسائل الشيعة 4: 314، أبواب القبلة، ب10، ح1.
- (3) الفقيه 1: 180، ح855; وعنه وسائل الشيعة 4: 314، أبواب القبلة، ب10، ح2.