(الصفحة 237)
وأمّا ما هو المفهوم منهما عند العرف; فإنّه لا يتوجّه إلى أنّ للشمس مشارق ومغارب مختلفة، بل يفهم منهما الطرفين اللذين يتقاطع الخطّ الخارج منهما مع الخط الذي يخرج من نقطة الشمال إلى الجنوب، فعلى هذا تكون القبلة نصف الدائرة المذكورة تقريباً.
وعلى أيّ تقدير، فتدلّ الروايتان على أوسعيّة القبلة، إلاّ أنّ المعنى الثاني غير مفتى به لأحد من الأصحاب.
هذا، ويمكن أن يقال: إنّه ليس المراد بقول الإمام(عليه السلام): «ما بين المشرق والمغرب قبلة» أنّه قبلة لجميع الأشخاص في تمام الحالات حتى يدلّ على أوسعيّة دائرة القبلة مطلقاً، بل المراد أنّه قبلة في الجملة.
توضيحه: أنّ الإمام(عليه السلام) ذكر في رواية زرارة أنّه «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» ومعناه أنّه لا يصدق عنوان الصلاة على فعل من كان مستقبلا إلى غيرها، فسأل الراوي عن حدّ القبلة التي لو كان المصلّي متوجّهاً نحوها لصدق على فعله أنّه صلاة، فقال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه». فقوله هذا بيان لحدّ صدق الصلاة، وذلك قضيّة مجملة لا تدلّ على أنّها قبلة لجميع المصلّين في جميع الحالات، فيمكن أن يختصّ ذلك بحال الاشتباه، أو خطأ المجتهد في اجتهاده، أو غيرهما من الأعذار.
وبالجملة: فمفاد الرواية صدق عنوان الصلاة على الصلاة الواقعة إلى ما بين المشرق والمغرب، وأمّا كون ذلك الصدق ثابتاً بنحو الإطلاق وفي جميع الموارد، فلايستفاد منها أصلا.
والشاهد على ذلك ما رواه عمّار الساباطي، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته، قال: إن كان
(الصفحة 238)
متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم، وإن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثم يفتتح الصلاة(1); فإنّ ظاهر هذه الرواية أنّ القبلة التي لو كان المصلّي عالماً بها من أوّل صلاته لوجب عليه أن يتوجّه نحوها، هي الأخصّ ممّا بين المشرق والمغرب، والمراد بدبر القبلة ليس هي النقطة المقابلة لها، بل المراد به بقرينة سابقه هو الذي لا يكون مشرقاً ولا مغرباً، ولا بينهما.
وما رواه عبدالله بن جعفر في قرب الإسناد، عن الحسن بن ظريف، عن الحسين بن علوان، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن عليّ(عليهم السلام) أنّه كان يقول: من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة ثمّ عرف بعد ذلك فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب(2). وتقريب دلالتها على ذلك يعلم ممّا ذكر آنفاً.
ثمّ إنّه قد روى نظير هاتين الروايتين بعض العامّة عن ابن عمر، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)(3)، والمترائى من الناقلين أنّها معمول بها عندهم، ولذا حملوها على المناطق التي وقعت في شمال مكّة كالمدينة ونحوها.
وكيف كان، فممّا يؤيّد أيضاً ما ذكرنا من أوسعيّة دائرة القبلة، ما ذكره المحقّق في الشرائع(4) علامة لأهل العراق; من جعل الجدي خلف المنكب الأيمن، أو جعل عين الشمس وقت الزوال على الحاجب الأيمن، أو جعل المشرق على الأيمن والمغرب على الأيسر; فإنّ مقتضى هذه العلامات مختلف; فإنّ المصلّي
- (1) الكافي 3: 285، ح8; تهذيب الأحكام 2: 48، ح159; وص142 ح555; الاستبصار 1: 298، ح1100; وعنها وسائل الشيعة 4: 315، أبواب القبلة، ب10، ح4.
- (2) قرب الإسناد: 107، ح381; وعنه وسائل الشيعة 4: 315، أبواب المواقيت، ب10، ح5.
- (3) السنن الكبرى للبيهقي 2: 278ـ280، ح2272ـ2276.
- (4) شرائع الإسلام 1: 65ـ66.
(الصفحة 239)
لو عمل على طبق الأمارة الاُولى يلزم عليه أن ينحرف عن نقطة الجنوب نحو المغرب بقليل لو جعلنا المنكب عبارة عمّا بين المفصل والعنق، وأمّا لو جعلناه عبارة عمّا بين المفصل والعضد، لزم أن ينحرف كثيراً.
وأمّا لو عمل على طبق الأمارة الثانية لزم الانحراف عن نقطة الجنوب نحو المشرق; فإنّ الشمس تكون في تلك الحالة على دائرة نصف النهار، وجعلها في هذه الحالة على الحاجب الأيمن يستلزم الانحراف المذكور. وأمّا لو راعى العلامة الثالثة فاللازم أن يتوجّه نحو نقطة الجنوب.
فظهر أنّ مقتضى هذه العلامات لا يكاد يجتمع، وعدم الاجتماع مع كونها علامة لأهل بلد واحد دليل على ما ذكرنا، إلاّ أن يقال: إنّ هذه الأمارات ليست علامات لجميع أهل العراق، بل يختصّ كلّ واحدة منها ببلد منه، فالعلامة الاُولى تكون أمارة لأوساط العراق كالكوفة، والثانية لأطرافه الغربيّة كسنجار، والثالثة لأطرافه الشرقيّة كالبصرة وما والاها، ولكن يبعّد ذلك عدم القرينة على التخصيص، مضافاً إلى وجود القرينة على الخلاف، وهي: أنّ قبلة الأطراف الغربيّة من العراق كالموصل، هي نقطة الجنوب دون الانحراف عنها إلى جانب المشرق.
وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ قبلة البعيد هي ربع الدائرة التي تمرّ بسطح الكعبة، وتقع الكعبة في جزء منها، فيكفي توجّه المستقبِل نحو ذلك الربع، وهو الربع الذي يكون محاذياً للأمام الذي هي جهة من الجهات الأربع; فإنّ الشخص إذا وقف في مركز دائرة، يكون كلّ ربع من هذه الدائرة محاذياً لربع دورة رأسه، فيكفي محاذاة ربع دورة الرأس المسمّى بالوجه لربع الدائرة الكبيرة التي وقع الشخص في مركزها، وهو الربع الذي يكون مشتملا على الكعبة، فافهم واغتنم.
(الصفحة 240)
مسألة: لو علم المستقبل بالجهة التي وقعت الكعبة فيها بسبب الأمارات التي عيّنت شرعاً لتعيين القبلة أو بغيرها، وجب عليه العمل على طبقه.
ودعوى أنّ تلك الأمارات لا تفيد العلم بالقبلة بل تورث الظنّ بها.
مدفوعة بأنّا لا نسلّم ذلك إذا كانت القبلة للبعيد هي الجهة بالمعنى المذكور; فإنّها بناءً عليه تفيد العلم قطعاً. نعم، لو كانت القبلة هي عين الكعبة، فالتحقيق أنّها تفيد الظنّ بها، كما عن الشهيد الثاني وغيره(1)، ولو لم يعلم بتلك الجهة، كما إذا كانت الشمس في النهار، أو القمر وسائر النجوم في الليل مستورة تحت غيم ونحوه، ولم يتميّز قطب الشمال أو الجنوب، ففي كفاية العمل بالمظنّة أو عدمها خلاف، منشؤه اختلاف الأخبار الواردة في هذا المقام.
فطائفة منها تدلّ على كفاية العمل بالظنّ، مثل:
ما رواه الكليني في الصحيح، عن زرارة قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): يجزئ التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة(2); فإنّ لفظ التحرّي قد اُطلق على العمل على طبق الراجح; فإنّه هو الأحرى من العمل بالمرجوح، كما هو المتداول في تلك الأزمنة.
والمراد بالإجزاء إمّا أن يكون هو الإجزاء بالنسبة إلى مقام العمل; بمعنى أنّه يجوز للمكلّف في مقام العمل أن يعتمد على الظنّ ويعمل على طبقه، وحينئذ فلا تعرّض في الرواية لحال المكلّف بعد انكشاف الخلاف.
وإمّا أن يكون هو الإجزاء بالنسبة إلى الواقع، ومعناه أنّه يكفي ذلك واقعاً
- (1) ذكرى الشيعة 3: 162; جامع المقاصد 2: 69; مسالك الأفهام 1: 155ـ156; مدارك الأحكام 3: 131ـ132.
- (2) الكافي 3: 285، ح7; تهذيب الأحكام 2: 45، ح146; الاستبصار 1: 295، ح1087; وعنها وسائل الشيعة 4: 307، أبواب القبلة، ب6، ح1.
(الصفحة 241)
كصورة العلم بالقبلة، فيجزئ العمل على طبق المظنّة ولو انكشف الخلاف، وهو الظاهر من الرواية.
ثمّ إنّ فيها إشعاراً بأنّ عدم العلم بالقبلة أمر قد يتّفق، وهو مؤيّد لما ذكرناه من أنّ قبلة البعيد هي الجهة دون العين; إذ لو كانت قبلة البعيد هي العين لزم أن تكون صورة عدم العلم أكثر من صورة العلم، كما لا يخفى.
ومثل رواية سماعة قال: سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم ير الشمس ولاالقمر ولا النجوم؟ قال(عليه السلام): اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك(1); فإنّ الرأي هو المشي على طبق الظنّ.
وجملة من الأخبار تدلّ على كفاية الصلاة إلى إحدى الجوانب الأربع للمتحيّر.
مثل ما رواه زرارة ومحمّد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام) أنّه قال: يجزئ المتحيّر أبداً أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة(2).
ومرسلة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن زرارة قال: سألت أباجعفر(عليه السلام)عن قبلة المتحيّر؟ فقال: يصلّي حيث يشاء(3); فإنّ ظاهرهما كفاية الصلاة إلى أيّ جهة شاء المصلّي المتحيّر.
والمراد بالمتحيّر إمّا من لا علم له كما يدلّ عليه ذيل الرواية الاُولى، فيشمل صورة المظنّة أيضاً، وحينئذ فيتحقّق التعارض بينهما، وبين الروايتين المتقدّمتين
- (1) الكافي 3: 284، ح1; تهذيب الأحكام 2: 46، ح147; وص255، ح1009; الاستبصار 1: 295، ح1089; وعنها وسائل الشيعة 4: 308، أبواب القبلة، ب6، ح2.
- (2) الفقيه 1: 179، ح845; وعنه وسائل الشيعة 4: 311، أبواب القبلة، ب8، ح2.
- (3) الكافي 3: 286، ح10; وعنه وسائل الشيعة 4: 311، أبواب القبلة، ب8، ح3.