(الصفحة 268)
لا ما يشمل العامد والجاهل كما قال به بعض(1); لأنّ التعبير بالإعادة لا يناسبهما; فإنّها إنّما تستعمل في مورد يكون الشخص قاصداً لامتثال التكليف المتوجّه إليه، ويكون هو الداعي له على إتيان العمل.
غاية الأمر أنّه إنّما منعه عن إتيانه تامّاً بأجزائه وشرائطه بعض الطوارئ القهريّة، وإلاّ فالعامد الذي يترك عمداً بعض ما له دخل في تحقّق المأمور به، أو يفعل بعض ما كان وجوده مضرّاً به لا يكون قاصداً في الحقيقة لإتيان المأمور به، فلا يقال عليه أنّه يجب عليك الإعادة، بل يقال: إنّه يجب عليك أصل الصلاة كما هو واضح. نعم، لا يبعد أن يكون شاملا للجاهل القاصر الذي يعتقد صحّة ما يفعله وإن كان في الواقع فاسداً، وسيأتي في بعض المباحث الآتية مزيد توضيح لذلك، فانتظر. فإذا انحصر مورد حديث لا تعاد بصورة النسيان ولم يكن عامّاً له ولغيره، فيكون مخصّصاً لحديث الرفع، وحاكماً عليه كما لا يخفى.
ثمّ إنّه لا دلالة للأخبار المتقدّمة المفصّلة بين الوقت وخارجه على عدم الفرق بين الناسي وغيره كما يظهر من بعض(2); لأنّك عرفت أنّ موردها ما إذا كانت علائم الانكشاف مفقودة لأجل العمى أو الغيم أو غيرهما، فلا يشمل صورة النسيان، فالواجب الرجوع في حكم هذه الصورة إلى القواعد، وهي تقتضي وجوب الإعادة عليه في الوقت وفي خارجه مطلقاً، حتّى ما إذا لم يكن مستدبراًللقبلة; فإنّه لم يأت بما هو المأمور به.
والمفروض أنّه لم يتوجّه إليه أمر ظاهريّ حتى يقال باقتضائه للإجزاء، فيجب عليه الإعادة كما يدلّ عليه أيضاً حديث «لا تعاد» على ما عرفت.
- (1 ، 2) راجع جواهر الكلام 8: 58ـ59; ومصباح الفقيه 10: 179ـ180.
(الصفحة 269)
هذا كلّه فيما إذا كان الانحراف كثيراً. وأمّا إذا كان يسيراً، فمقتضى حديث الرفع وإن كان عدم وجوب الإعادة، بناءً على أنّ المراد برفع النسيان هو رفع حكم كلّ ما صار النسيان سبباً له من فعل أو ترك، فإذا صلّى مع نسيان السورة مثلا فهو يقتضي عدم وجوب الإعادة عليه، وعدم كون السورة جزءاً في حال النسيان.
فما يترتّب على تركها من عدم تحقّق المركّب، وعدم الإتيان بالمأمور به، ووجوب الإعادة فهو مرفوع، ولا يلزم من هذا عدم وجوب الإتيان بالصلاة فيما إذا تركها في بعض الوقت سهواً; لأنّ وجوب الإتيان بها بعده ليس من آثار عدم الإتيان به فيما مضى من الوقت، بل من آثار بقاء الأمر المتوجّه إليه من أوّل الوقت.
وبالجملة: فمقتضى حديث الرفع وإن كان ذلك، إلاّ أنّ حديث لا تعاد يدلّ على وجوب الإعادة عليه، وهو مخصّص لحديث الرفع; لأنّك عرفت أنّ مورده هو الساهي فقط، ولا يشمل العالم العامد والجاهل.
هذا كلّه مع قطع النظر عن الأخبار الخاصّة الواردة في المسألة. وأمّا مع ملاحظتها فلا يجب عليه الإعادة; لإطلاق موردها على وجه يشمل الناسي، ولا يختصّ بالمجتهد المخطئ في اجتهاده، كما هو ظاهر صحيحتي معاوية بن عمّار وزرارة، ورواية عمّار الساباطي المتقدّمة(1).
ثمّ إنّ الصحيحتين تدلاّن بظاهرهما على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة لجميع المكلّفين في جميع الحالات من العلم والظنّ وغيرهما، وهو مع أنّ أحداً
(الصفحة 270)
من الأصحاب لم يعمل على طبقهما ـ ولذا لم يعبّر أحد منهم بذلك في مقام تعيين حدّ القبلة ـ معارض لقوله(عليه السلام) في رواية عمّار الساباطي: «إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم»; فإنّها تدلّ بظاهرها على أنّ القبلة التي لو كان المكلّف عالماً بها لوجب عليه أن يتوجّه نحوها أضيق ممّا بين المشرق والمغرب.
فالوجه أن يقال: إنّ المراد منهما أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة في الجملة، ولو لبعض المكلّفين في الحالات; بأن يقال مثلا: إنّ الإمام(عليه السلام) قال في صحيحة زرارة إنّه لا يصدق عنوان الصلاة على الصلاة التي كانت فاقدة لشرط القبلة، فصدقها يتوقّف على أن يكون المصلّي متوجّهاً إليها، ثمّ سأل الراوي عن حدّ القبلة التي لو كان المكلّف متوجّهاً إليها لصدق على فعله أنّه صلاة، فقال(عليه السلام): «ما بين المشرق والمغرب قبلة»; يعني: إذا تجاوز هذا الحدّ فلا يصدق عنوان الصلاة. وأمّا صدقها على الصلاة التي كان التوجّه فيها إلى ما بين المشرق والمغرب مطلقاً وفي جميع الأحوال، فلا يعلم منهما.
وبالجملة: لا يستفاد منهما أنّ ما بينهما قبلة مطلقاً، بل هي قضيّة مجملة لاتنافي عدم كونه قبلة في بعض الأحوال، وعلى تقدير كون ظاهرهما ذلك يجب تأويلهما وحملهما على ما ذكرنا; لما عرفت من كونهما معرضاً عنهما مع ثبوت المعارض لهما.
ويؤيّد ذلك أنّ المشهور بل المتّفق عليه بين الأصحاب أنّ الالتفات إلى غير القبلة في أثناء الصلاة مبطل لها(1)، ومعنى الالتفات أن ينحرف بوجهه عن القبلة
- (1) النهاية: 64 و 87; المعتبر 2: 260ـ261; البيان: 182; ذكرى الشيعة 4: 16ـ18; جامع المقاصد 2: 346ـ349; روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 886ـ888; الروضة البهيّة 1: 202 و 236; مفاتيح الشرائع 1: 173; الحدائق الناضرة 9: 26ـ32; مفتاح الكرامة 5: 412ـ415; وج8: 46ـ67; مستند الشيعة 7: 20ـ26; جواهر الكلام 11: 42ـ72; وج8: 3ـ4.
(الصفحة 271)
بحيث يرى خلفه، ومن الواضح أنّه يتحقّق بكون وجهه مواجهاً إلى قريب المشرق والمغرب ممّا يصدق عليه أنّه ما بينهما، فلو كان ما بين المشرق والمغرب قبلة في جميع الحالات لزم عدم بطلان الصلاة في صورة الانحراف بوجه الالتفات; لأنّه لم ينحرف بوجهه عمّا بينهما.
هذا، مضافاً إلى سائر الروايات الواردة في حكم المسألة الدالّة على خلاف ذلك، مثل ما رواه في الجعفريّات عن محمّد بن محمّد بن أشعث الكوفي، عن موسى بن إسماعيل، عن أبيه، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه(عليهما السلام): أنّ عليّاً(عليه السلام)كان يقول: من صلّى لغير القبلة إذا كان بين المشرق والمغرب فلا يعيد(1). ورواه السيّد فضل الله الراوندي في النوادر عن عبدالواحد بن إسماعيل، عن محمّد بن الحسن التميمي، عن سهل بن أحمد الديباجي، عن محمد بن محمد إلى آخر ما ذكر في الطريق(2) الأوّل، إلاّ أنّ فيها: إذا كان إلى المشرق أو المغرب. والظاهر أنّه من سهو الراوي، والصحيح هو الأوّل.
نعم، في رواية الكليني عن أبي هاشم الجعفري، الواردة في الصلاة على المصلوب ما يدلّ على ذلك، حيث قال: سألت الرضا(عليه السلام) عن المصلوب؟ فقال: أماعلمت أنّ جدّي(عليه السلام) صلّى على عمّه؟(3) قلت: أعلم ذلك ولكنّي لا أفهمه مبيّناً،
- (1) الجعفريات: 87، ذ ح295; وعنه مستدرك الوسائل 3: 184، أبواب القبلة، ب7، ح3311.
- (2) نوادر الراوندي: 242، ح497; وعنه بحار الأنوار 84: 69، ح26; ومستدرك الوسائل 3: 184، أبواب القبلة، ب7، ح3310.
- (3) الظاهر أنّه: زيد بن عليّ بن الحسين(عليهما السلام).
(الصفحة 272)
فقال: أُبيّنه لك، إن كان وجه المصلوب إلى القبلة فقم على منكبه الأيمن، وإن كان قفاه إلى القبلة فقم على منكبه الأيسر; فإنّ بين المشرق والمغرب قبلة.
وإن كان منكبه الأيسر إلى القبلة فقم على منكبه الأيمن، وإن كان منكبه الأيمن إلى القبلة فقم على منكبه الأيسر، وكيف كان منحرفاً فلا تزايلنّ مناكبه، وليكن وجهك إلى ما بين المشرق والمغرب، ولا تستقبله ولا تستدبره ألبتّة. قال أبو هاشم: وقد فهمت إن شاء الله تعالى، فهمته والله(1).
هذا، ولكن قد عرفت أنّ الأخذ بظاهر مثلها في غاية الإشكال.
هذا كلّه إذا كان المراد بالمشرق والمغرب الاعتداليين منهما كما هو المفهوم عند العرف، وهما منتهى الخطّ الخارج من طرف اليمين واليسار بالنسبة إلى الشخص المتوجّه إلى الجنوب أو الشمال; وهو ما إذا كان مدار الشمس دائرة المعدّل وما يقاربها من جانب الجنوب أو الشمال. وأمّا إذا كان المراد بهما كلّ مشرق للشمس أو مغرب لها كما ذكرناه سابقاً.
وعليه: يكون المراد بما بينهما هو المقدار الذي لا يصدق على جزء منه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ولو في يوم، وهو عبارة عمّا بين مشرق أوّل الجدي ومغربه المساوي لربع الدورة تقريباً; فالأخذ به أيضاً على الإطلاق مشكل.
فالأوسعيّة بهذا المقدار ممّا لا يمكن الالتزام بها، وكذلك وجوب التوجّه إلى عين الكعبة على نحو يخرج من وسط وجه المصلّي خطّ مستقيم واقع عليها، قام على عدمه سيرة المسلمين من زمان النبيّ والأئـمّة(عليهم السلام) إلى زماننا هذا،
- (1) الكافي 3: 215، ح2; عيون أخبار الرضا(عليه السلام)1: 255، ح8; وعنهما وسائل الشيعة 3: 130، أبواب صلاة الجنازة، ب35، ح1.