(الصفحة 280)
في ثبوت أمر اعتباريّ، كالشرطيّة التي تنتزع من الأمر بالمشروط، والجزئيّة التي تنتزع من الأمر بالكلّ، بل إنّما تجري فيما لو كان الشك في وجود شيء مستقلّ.
وأمّا الاستدلال بما يدلّ على عدم جواز صلاة الفريضة في جوف الكعبة، فيردّه أنّ الحقّ جواز ذلك على كراهيّة، كما هو مقتضى بعض الروايات الاُخر. وأمّا ما ورد في تفسير قوله ـ تعالى ـ : (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ...)الآية، فلا يدلّ على ذلك أصلا; لأنّه ليس في مقام بيان هذه الجهة، كما لا يخفى.
وأمّا ما استدلّ به على عدم الجواز، فعمدته هي صحيحة زرارة الاُولى، وتقريب دلالتها على ذلك بوجه لا يرد عليه ما أورده بعض الأعاظم(1) هو: أنّها تدلّ على انتفاء حقيقة الصلاة وماهيّتها إذا لم تكن إلى القبلة، فصدق عنوانها على الصلوات المأتيّ بها في الخارج بترقّب أنّها صلاة يتوقّف على كونها إلى القبلة، فكلّ فرد يؤتى به من أنواع الصلوات الواجبة والمندوبة إلى غير القبلة فهو ليس من أفراد هذا العنوان.
خرج من ذلك العموم صلاة النافلة مع كون المصلّي غير مستقرّ بالإجماع وبالأخبار الصحيحة المتقدمة، وبقي الباقي تحته. فما أورد على الاستدلال بها من أنّ خروج الفرد في بعض الأحوال ينافي حجّية العامّ بالنسبة إليه في سائر الأحوال غير وارد; لأنّ كلّ ما يؤتى به في الخارج فهو فرد من أفراد طبيعة الصلاة، وليست صلاة النافلة فرداً واحداً خارجاً عن تحت العموم في بعض الأحوال، بل الصلاة التي يؤتى بها مستقرّاً فرد مستقلّ شك في خروجه عن تحت العامّ، فيجب الرجوع إلى أصالة الحقيقة بالنسبة إلى غير الفرد الخارج; لأنّ
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري(رحمه الله): 30 و 34.
(الصفحة 281)
الحكم بخروجه يوجب تقييداً زائداً وهو مجاز.
إن قلت: إنّ تقييد المطلق ليس مجازاً حتى لو شك فيه لوجب الرجوع إلى أصالة الحقيقة، كما قد حقّق ذلك في الاُصول(1).
قلت: الأمر وإن كان كذلك في مثل قوله: «إن ظاهرت فأعتق رقبة»، و«إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة»، إلاّ أنّه ليس كذلك في مثل المقام; لأنّ تقييد النكرة التي وقعت في سياق النفي مناف لما تكون كلمة «لا» موضوعة له; لأنّها موضوعة لنفي المدخول فقط، فإذا استعملت في نفيه وغيره فقداستعملت في غير الموضوعة له، فيجب الرجوع لو شك في التقييد في مثله إلى أصالة عدمه وأصالة الحقيقة، فظهر ممّا ذكرنا صحّة التمسّك بالرواية، وأنّ الأقوى ما عليه المشهور.
ثمّ إنك بعدما عرفت جواز الإتيان بالنوافل على الراحلة وغيرها على ما هو مقتضى تلك الأخبار المذكورة، فاعلم أنّ الأمر في الفريضة يكون كذلك في حال الضرورة، فيجوز الإتيان بها في حالها على الراحلة وغيرها مع رعاية سائر ما يعتبر فيها بلا خلاف ولا إشكال(2); إنّما الخلاف في جواز صلاة النافلة على الراحلة إذا كانت متعلّقة للنذر أو غيره، وأنّه هل تلحق بصلاة الفريضة حتّى لا يجوز الإتيان بها عليها إلاّ في حال الضرورة، أو يكون حكمها حكم سائر النوافل التي لم يتعلّق بها نذر أو غيره، فيجوز إتيانها على الراحلة مطلقاً في حال الضرورة وغيرها؟
وكذا الإشكال في جواز صلاة الفريضة على الراحلة إذا صارت مستحبّة
- (1) نهاية الاُصول: 385ـ386.
- (2) الخلاف 1: 300، مسألة 47; المعتبر 2: 75; منتهى المطلب 4: 183ـ185; تذكرة الفقهاء 3: 16ـ18، مسألة 142ـ143; كشف اللثام 3: 159ـ160; مفتاح الكرامة 5: 345.
(الصفحة 282)
كصلاة المعادة جماعة بعد الإتيان بها فرادى، ومنشأ الإشكال في الفرض الأوّل اختلاف الأخبار.
ففي صحيحة عبدالله بن سنان قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): أيصلّي الرجل شيئاً من الفروض راكباً؟ فقال: لا، إلاّ من ضرورة(1).
وفي صحيحة عبدالرحمن بن أبي عبدالله، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: لا يصلّي على الدابّة الفريضة إلاّ مريض يستقبل به القبلة، ويجزئه فاتحة الكتاب، ويضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من شيء، ويومئ في النافلة ايماءً(2).
وفي صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى(عليه السلام) قال: سألته عن رجل جعل لله عليه أن يصلّي كذا وكذا، هل يجزئه أن يصلّي ذلك على دابّته وهو مسافر؟ قال(عليه السلام): نعم(3).
فمقتضى الصحيحتين الأوّلتين عدم جواز الإتيان بالنافلة المنذورة على الراحلة إلاّ في حال الضرورة، بناءً على إطلاق لفظ الفريضة وشمولها لما صارت فريضة بالعرض، ومقتضى الصحيحة الأخيرة هو الجواز مطلقاً في حال الضرورة وغيرها، فهما مطلقتان من حيث الموضوع، والأخيرة مطلقة من حيث الحكم، فيرجع الأمر إلى تقديم أحد الإطلاقين على الآخر.
فقد يقال بتقديم الإطلاق الأوّل وتقييد الثاني بحال الضرورة، كما ذهب إليه بعض(4)، وقد يقال بتقييد الأوّل بالفرائض الذاتيّة وتقديم
- (1) تهذيب الأحكام 3: 308، ح954; وعنه وسائل الشيعة 4: 326، أبواب القبلة، ب14، ح4.
- (2) تهذيب الأحكام 3: 308، ح952; وعنه وسائل الشيعة 4: 325، أبواب القبلة، ب14، ح1.
- (3) تهذيب الأحكام 3: 231، ح596; وعنه وسائل الشيعة 4: 326، أبواب القبلة، ب14، ح6.
- (4) ذكرى الشيعة 3: 188ـ189; تذكرة الفقهاء 3: 16، مسألة 142; كتاب الصلاة تقرير بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 100ـ102.
(الصفحة 283)
الثاني(1)، كما هو الظاهر; لأنّ دلالتها على إطلاق الحكم من حيث حال الضرورة وغيره أقوى من دلالتهما على الإطلاق، من حيث شموله للنوافل الذاتيّة المفروضة بالعرض، كما لا يخفى; لأنّ تقييدها بحال الضرورة في غاية البعد; لأنّ الظاهر أنّ عليّ بن جعفر كان عالماً بالفرق بين النافلة والفريضة; من حيث جواز الإتيان بالاُولى على الراحلة مطلقاً، وعدم جواز الإتيان بالثانية عليها إلاّ في حال الضرورة.
فسؤاله إنّما هو عن جواز الإتيان بالنافلة المنذورة على الراحلة في حال الاختيار; لأنّ من المعلوم أنّ ما صار فريضة بالعرض لا يزيد حكمه على المفروض بالذات، فإذا جاز الإتيان بالثاني في حال الضرورة على الراحلة فالإتيان بالأوّل عليها في حالها يكون جائزاً بطريق أولى، فما يتعلّق به الشك والتحيّر الموجب للسؤال إنّما هو ما ذكرنا من الإتيان بالفريضة بالعرض على الراحلة في حال الاختيار، فالرواية كالصريح في الجواز في حال الاختيار، فيجب تقييد الروايتين بها.
هذا، مضافاً إلى أنّ مورد الرواية هو ما كان المنذور نافلة دون الأعمّ منها ومن الفريضة، كما هو واضح. ومن المعلوم أنّ الوجوب الآتي من قبل النذر لا يغيّر المنذور عمّا هو عليه من الحكم، بل المنذور بعد تعلّق النذر به إنّما يصير ديناً لله على العبد يجب الوفاء به، ووجوب الوفاء بالشيء لا يغيّر حكمه، فإذا كانت صلاة الليل مثلا قبل تعلّق النذر بها ممّا يجوز الإتيان بها على الراحلة، فبعدما صارت ديناً على العبد ووجب عليه الإتيان بها لا يصير حكمها عدم جواز
- (1) مدارك الأحكام 3: 139; الحاشية على مدارك الأحكام 2: 334; جواهر الكلام 7: 672ـ675.
(الصفحة 284)
الإتيان بها على الدابّة وغيرها، كما هو المغروس في أذهان العرف.
ومضافاً إلى أنّ أخذ الفروض في الروايتين الأوّلتين متعلّقاً لعدم الجواز ليس من باب مدخليّة الفرضيّة في ذلك الحكم، بل التعبير بها للإشارة إلى العناوين المفروضة بالذات، كما لا يخفى.
ويؤيّد ما ذكرنا ـ من عدم جواز تقييد الأخيرة بحال الضرورة ـ ما دلّ على أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) صلّى صلاة الليل في غزوة تبوك على الراحلة(1)، مع أنّ مقتضى بعض الروايات أنّها كانت واجبة عليه(صلى الله عليه وآله)(2).
إن قلت: إنّه لا يدلّ على ما ذكر; لأنّها حكاية لفعله(صلى الله عليه وآله)، ومن المعلوم أنّ الفعل لا إطلاق له، فلعلّه(صلى الله عليه وآله) كان يصلّي تلك الصلاة على الراحلة للضرورة من مطر أو غيره.
قلت: إنّ الحاكي لفعله(صلى الله عليه وآله) هو الإمام(عليه السلام)، وغرضه من الحكاية مجرّد بيان الحكم، وحينئذ فلو كان قيد الضرورة دخيلا فيه، وكان فعله(صلى الله عليه وآله) في ذلك الحال، لوجب عليه البيان، وحيث لم يبيّن يعلم منه إطلاق الحكم، كما لا يخفى.
وممّا ذكرنا ظهر حكم الفرض الثاني، وهو الإتيان بالفريضة التي صارت مستحبّة بالعرض على الراحلة، وذلك لأنّك عرفت أنّ ما يدلّ على عدم جواز الإتيان بالفريضة على الراحلة لا دلالة فيها على حكم النافلة المنذورة; لأنّ أخذ الفريضة فيها للإشارة إلى الطبائع المفروضة بالأصل، والمفروض أنّ الصلاة المعادة جماعة بعد الإتيان بها فرادى تكون منها، فلا يجوز فعلها على الراحلة.
هذا تمام الكلام في القبلة.
- (1) قرب الإسناد: 16، ح51; وص115، ح402; وعنه وسائل الشيعة 4: 333، أبواب القبلة، ب15، ح20 و 21.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 242، ح959; وعنه وسائل الشيعة 4: 68، أبواب أعداد الفرائض، ب16، ح6.