(الصفحة 298)
من الوجه، فلايدلّ على أنّ المراد بالوجه في غير ذلك المورد هو هذا المقدار. وهذا الوجه هو الظاهر.
ثمّ لا يخفى أنّ المراد ممّا ذكره الإمام(عليه السلام) أنّه يجب غسل المقدار الذي يكون مساوياً للمقدار الذي هو منتهى الفاصلة بين الإبهام والوسطى، بحيث لا يخرج عن حدّ الوجه، فلا يرد أنّ وجوب غسل ذلك المقدار في الذقن لا يتحقّق امتثاله إلاّ بإدخال جزء من العنق في الغسل، وذلك لخروجه عن حدّ الوجه، ولعلّه السبب في حمل بعض وتأويله الرواية على فرض دائرة في الوجه يكون قطرها ذلك المقدار الفاصل بين الإبهام والوسطى. وأنت خبير ببُعد هذا المعنى، والصواب ما ذكرناه.
هذا، ولكنّ التحقيق أنّه ليس في الأخبار الدالّة على عدم وجوب ستر الوجه في الصلاة ما يدلّ على استثناء الوجه بعنوانه حتّى يبحث في المراد منه، بل مدلول تلك الأخبار إنّما هو مجرّد ما يكفي من الثياب أن تصلّي المرأة فيها، مثل قوله(عليه السلام): المرأة تصلّي في الدرع والمقنعة(1)، وقوله(عليه السلام): صلّت فاطمة(عليها السلام)في درع وخمارها على رأسها(2)، والمعنى: أنّ أقل ما يكفي من الثياب هو الدرع والخمار، والمراد بالأوّل هو قميص المرأة، الذي يستر من الكتف إلى القدمين، وبالثاني هو ما يستر رأس المرأة.
وحينئذ فلابدّ من الفحص والتتبّع ليعرف المقدار الخارج عن الدرع والخمار حتّى يستدلّ بتلك الأخبار على عدم وجوب ستره، وإن لم تدلّ على وجوب ستر
- (1) الفقيه 1: 343، ح1081; الكافي 3: 394، ذ ح2; تهذيب الأحكام 2: 217، ذ ح855; وعنها وسائل الشيعة 4: 405، أبواب لباس المصلّي، ب28، ح3; وص 406، ذ ح7.
- (2) يأتي بتمامه في ص299ـ300.
(الصفحة 299)
كلّ ما هو داخل فيهما ومستور بهما; لإمكان عدم وجوب ستر بعض ما يكون داخلا فيهما، كما لا يخفى.
وانقدح ممّا ذكرنا أنّ ستر المرأة وجهها لا يكون شرطاً لصحّة صلاتها، كما هو المشهور بين العامّة(1) والخاصّة(2); للأخبار الدالّة على أنّ المرأة تصلّي في درع وخمار، ومن المعلوم أنّ الخمار لا يكون ساتراً للوجه.
فما عن بعض العامّة(3) والخاصّة من أنّ ستره يكون واجباً وشرطاً لها ـ كالمحكي عن ابن حمزة من أنّه يجب عليها ستر جميع بدنها إلاّ موضع السجود(4)، وما حكي عن الغنية والجمل والعقود، من شرطيّة ستر جميع البدن من غير استثناء(5) ـ ممّا لا وجه له.
وكذا ما حكي عن البعض الآخر من جواز كشف بعض الوجه(6)، ويمكن أن يكون مراده وجوب ستر البعض من باب المقدّمة، فلا ينافي ما ذكرنا، وقد عرفت أنّ المراد بالوجه فيما نحن فيه هو الوجه العرفي الشامل للصدغين وما يحاذيهما من الوجه، لا الوجه في باب الوضوء، ويدلّ عليه ما رواه الصدوق عن الفضيل، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: صلّت فاطمة(عليها السلام) في درع وخمارها
- (1) بداية المجتهد 1: 117، المسألة الثالثة; المغني لابن قدامة 1: 637; المجموع 3: 171.
- (2) بحار الأنوار 83: 179; الحدائق الناضرة 7: 7; مصابيح الظلام 6: 151.
- (3) وهو أبو بكر بن عبدالرحمن بن هشام، كما في الخلاف 1: 394، مسألة 144; والمجموع 3: 171ـ172; وتذكرة الفقهاء 2: 446، مسألة 108.
- (4) الوسيلة: 89.
- (5) غنية النزوع: 65; الجمل والعقود (الرسائل العشر): 176; والحاكي هو صاحب الجواهر في جواهر الكلام 8: 283; ولكن حكى ابن إدريس في السرائر 1: 260، عن الجمل والعقود استثناء الوجه والكفّين والقدمين.
- (6) إشارة السبق: 83.
(الصفحة 300)
على رأسها، ليس عليها أكثر ممّا وارت به شعرها واُذنيها(1).
والمراد أنّ خمارها كان على نحو لا تستر أزيد من الشعر والاُذنين من الوجه، وليس المراد أنّه لا يستر العنق والصدر، كما لا يخفى.
إن قلت: إنّه لا يدلّ على ما ذكر; لأنّ مضمونه إنّما هو حكاية فعلها(عليها السلام)، والفعل لا إطلاق له، فلعلّها كانت(عليها السلام) تصلّي فيهما لضرورة.
قلت: نعم، [يصحّ ذلك] لو كان الحاكي غير الإمام(عليه السلام)، وأمّا لو كان هو الحاكي مع كون المقصود من الحكاية بيان الحكم، يعلم عدم كونه مقيّداً بحال الضرورة وغيره، وإلاّ كان عليه البيان، كما لا يخفى.
هذا، ولكنّ الفضيل مشترك، وطريق الصدوق إليه ضعيف، فالأحوط الاقتصار على القدر المتيقّن; وهو الوجه في باب الوضوء.
ثمّ إنّه هل يكون المراد بالوجه ظاهره فقط حتّى يكون ستر باطنه شرطاً لصحّة صلاتها، أو أنّ المراد به أعمّ من باطنه؟ قولان، حكى صاحب الجواهر عن كاشف الغطاء القول بوجوب ستر الباطن(2); لأنّ المتبادر من الوجه ظاهره، فلا تشمل الأدلّة غيره.
وفيه: قد عرفت أنّه لا دليل على استثناء الوجه بعنوانه حتّى يقال إنّ المتبادر منه خصوص الظاهر، بل الدليل هو مثل قوله(عليه السلام): المرأة تصلّي في الدرع والمقنعة(3)، وهو كما يدلّ على عدم وجوب ستر الظاهر لخروجه عنهما، كذلك يدلّ على عدم وجوب ستر الباطن لعدم الفرق، هذا كلّه في الوجه.
- (1) الفقيه 1: 167، ح785; وعنه وسائل الشيعة 4: 405، أبواب لباس المصلّي، ب28، ح1.
- (2) كشف الغطاء 3: 13; جواهر الكلام 8: 291ـ292.
- (3) تقدّمت في ص298.
(الصفحة 301)
وأمّا الكفّان، ففي وجوب سترهما وعدمه خلاف، والمشهور بين الخاصّة والعامّة استثناؤهما كالوجه، بل ادّعى كثير من العلماء الإجماع عليه(1)، ولكنّ المحكي عن صاحب الحدائق(قدس سره) أنّه ذهب إلى ما ذهب إليه أحمد بن حنبل وداود من العامّة; من أنّ ستر الكفّين شرط لصحّة صلاة المرأة، واستدلّ عليه برواية جميل قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن المرأة تصلّي في درع وخمار؟ فقال: يكون عليها ملحفة تضمّها عليها(2)، وغيرها; لأنّها تدلّ على أنّهما أقلّ ما يكفي للمرأة من الثياب.
ومن المعلوم أنّ الدروع في هذه الأزمنة تستر الكفّين أيضاً، ومع الشك في أنّه هل كانت الدروع في زمان النبيّ والأئـمّة(عليهم السلام) ساترة لهما أم لا؟ يرجع إلى أصالة عدم التغيير(3).
وفيه: أنّه مع فرض كون الدروع في زمانهم(عليهم السلام) ساترة للكفّين أيضاً، لا دليل على شرطيّة سترهما; لأنّك عرفت أنّ الرواية إنّما تدلّ على عدم وجوب ستر ما هو خارج عن الدرع والخمار، ولا يكون مستوراً بهما، ولا تدلّ على وجوب ستر كلّ ما هو داخل فيهما ومستور بهما.
هذا، مضافاً إلى أنّ الأصحاب من عصر الإمام(عليه السلام) إلى عصر العلاّمة
- (1) الخلاف 1: 393ـ394، مسألة 144; المعتبر 2: 101; منتهى المطلب 4: 272; تذكرة الفقهاء 2: 446، مسألة 108; مختلف الشيعة 2: 98; روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 582; كشف اللثام 3: 234; الحدائق الناضرة 7: 7; المغني لابن قدامة 1: 637; بداية المجتهد 1: 117، المسألة الثالثة.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 218، ح860; الاستبصار 1: 39، ح1484; وعنهما وسائل الشيعة 4: 407، أبواب لباس المصلّي، ب28، ح11.
- (3) الحدائق الناضرة 7: 9ـ12.
(الصفحة 302)
والشهيدين وغيرهم، قد أفتوا بعدم شرطيّة سترهما(1)، واستدلّوا على ذلك بتلك الرواية، فيعلم منه أنّ الدروع في زمانهم لم تكن تستر الكفّين، وإلاّ فلا يكون وجه للاستدلال بها، كما لا يخفى، ولا أقلّ من كون الدروع في زمانهم على قسمين: قسم كان ساتراً لهما، وقسم آخر لم يكن كذلك، فاستدلّوا بإطلاق الحكم على عدم الوجوب، حيث إنّ مدلول الرواية كفاية الدرع مطلقاً; إذ لا يكون فيها تقييد بما كان منها ساتراً، كما هو واضح.
هذا، ويؤيّد عدم كون الدروع ساترة للكفّين في الأزمنة السابقة ما حكي عن ابن عبّاس في تفسير قوله ـ تعالى ـ : (إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا)(2); من أنّ الزينة الظاهرة هو الوجه والكفّان(3)، حيث إنّه يدلّ على عدم كونهما مستورين في زمانه، ولم يعترض عليه أحد من تلامذته، فلا يبعد الحكم بعدم شرطيّة سترهما; للروايات مع انضمام الفتاوى إليها.
هذا، مع أنّه لو شك في خروجهما عن الدرع فالواجب هو الرجوع إلى أصالة البراءة العقليّة والنقليّة، بناءً على ما هو الحقّ من جريان أصل البراءة مطلقاً في الشك في الجزئيّة والشرطيّة، هذا في الكفّين.
وأمّا القدمان، فالمشهور بين الخاصّة أيضاً عدم وجوب سترهما
- (1) المبسوط 1: 87; السرائر 1: 260; المعتبر 2: 101; الجامع للشرائع: 65; تذكرة الفقهاء 2: 446، مسألة 108; قواعد الأحكام 1: 257; الدروس الشرعيّة 1: 147; ذكرى الشيعة 3: 7; جامع المقاصد 2: 96ـ97; مسالك الأفهام 1: 166; الروضة البهيّة 1: 203; مجمع الفائدة والبرهان 2: 104; مدارك الأحكام 3: 188; كشف اللثام 3: 234.
- (2) سورة النور 24: 31.
- (3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) 18: 150; الدرّ المنثور 6: 166; المحلّى 3: 221; تذكرة الفقهاء 2: 447، مسألة 108.