(الصفحة 381)
أحدهما: أن يكون المراد من الحلّية والحرمة، الحلّية والحرمة التكليفيّة، كما هو الظاهر من إطلاقهما وجريانه في المقام، مع أنّ الشك فيه إنّما هو في الحلّية، والحرمة الوضعيّة; بأن يقال: إنّ الشك في صحّة الصلاة فيما لم يعلم كونه من أجزاء غير المأكول مسبّب عن الشك في حلّية لحم الحيوان المأخوذ منه ذلك اللباس وحرمته، فإذا حكمنا بحلّيته لأصالتها تترتّب عليها صحّة الصلاة في الثوب المأخوذ منه.
ويرد عليه أولا: أنّ ما ذكر من جريان الأصل في لحم الحيوان وترتّب صحّة الصلاة عليه إنّما هو فيما إذا كان الحيوان المأخوذ منه هذا اللّباس مشتبه الحكم بالشبهة الحكميّة; بأن كان الشك في صحّة الصلاة مسبّباً عن اشتباه حكمه الشرعي، وهذا الفرض مع أنّه من الفروض النادرة لم يثبت اعتبار هذا الأصل فيه; لما عرفت من أنّ جريانه في الشبهة الحكميّة غير مسلّم.
وأمّا فيما إذا كان الشك في صحّة الصلاة مسبّباً عن أنّه هل يكون الحيوان المأخوذ منه هذا اللباس من أفراد ما يحلّ أكل لحمه شرعاً، أو من مصاديق ما يحرم؟ فجريانه محلّ نظر بل منع; لأنّه ربما لا يكون اللحم الذي هو مورد الأصل مشكوك الحكم، بل يعلم بكونه من الحيوان المحلّل أو المحرّم.
فالشكّ في الحلّية إنّما هو لعدم الابتلاء بلحم ذلك الحيوان، بل مورد الابتلاء هي الصلاة في الثوب المأخوذ منه، وبعبارة اُخرى: ليس في البين حيوان شكّ في حلّية لحمه لتردّده بين كونه من أفراد ما يحلّ أكله أو يحرم، فلا مجال لجريان أصالة الحلّية كما هو واضح.
وثانياً: أنّ ظاهر الأدلّة أنّ بطلان الصلاة وفسادها في أجزاء غير المأكول مترتّب على الحيوان المحرّم بعنوانه الأوّلي، كالأسد والأرنب والثعلب وغيرها،
(الصفحة 382)
لا على الحيوان بوصف كونه محرّم الأكل، والتعبير عن ذلك العنوان بهذا الوصف في بعض الأخبار إنّما هو للإشارة إلى ذات الموصوف مع قطع النظر عن وصفه.
ويؤيّده ما في بعض الأخبار من أنّ الصلاة في الثعالب والأرانب فاسدة(1)، فعبّر عن موضوع الحكم بنفس ذلك العنوان الأوّلي من دون أخذ قيد التحريم فيه أصلا.
وبالجملة: فبطلان الصلاة في أجزاء الحيوانات المحرّمة ليس حكماً مترتّباً على تحريمها بحيث لو لم يجعل التحريم لكان جعل هذا الحكم لغواً، بل إنّما هو حكم في عرض الحكم بالتحريم من دون ترتّب وطوليّة بينهما أصلا.
وحينئذ، فلا مجال لإثبات أحد الآثار المشكوكة بالأصل الجاري في الأثر الآخر، فلا تثبت صحّة الصلاة في الثوب المشكوك بجريان الأصل في اللحم، وإثبات حلّيته ظاهراً، إلاّ على القول بالاُصول المثبتة، وهو خلاف التحقيق.
وثالثاً: سلّمنا ذلك; أي كون الحلّية أو الحرمة واسطة في ثبوت البطلان أو الصحّة للصلاة في أجزاء الحيوان، فيترتّب على إثبات الحلّية صحّة الصلاة، وعلى إثبات الحرمة بطلانها، لكن نقول: إنّ المراد من الحلّية والحرمة المأخوذتين في موضوعهما ليست الحرمة والحلّية الفعليّتين، وإلاّ لزم جواز الصلاة في أجزاء ما يحلّ أكله فعلا للاضطرار أو غيره ولو كان محرّماً ذاتاً، وهو ممّا لا يلتزم به أحد.
بل المراد منهما هي الحرمة والحلّية المتعلّقتان بذوات الحيوانات مع قطع النظر عن حدوث ما يوجب تغيير الحكم المتعلّق به أوّلاً، كالاضطرار أو غيره،
- (1) وسائل الشيعة 4: 355ـ358، أبواب لباس المصلّي، ب7.
(الصفحة 383)
ومن المعلوم أنّ جريان الأصل في المقام لا يجدي في إثبات الحلّية الواقعيّة، كما هو الشأن في غيره من الاُصول الشرعيّة.
ودعوى أنّه لم يثبت ظهور الأدلّة فيما ذكر، مدفوعة بأنّه يكفي عدم ثبوت الظهور في خلافه، كما لا يخفى.
ثانيهما: ما يظهر من المحقّق القمّي(قدس سره) من أنّ المراد من الحلّية والحرمة في قوله(عليه السلام)في رواية ابن سنان: كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال، إلخ(1)، ليس خصوص الحلّية والحرمة التكليفيّتين; أي ما يكون مبغوضاً بنفسه لأجل المفسدة الملزمة الباعثة على الزجر عنه لنفسه، أو غير مبغوض كذلك، بل يعمّ الحلّية والحرمة الوضعيّتين; أي ما يكون مبغوضاً لكونه مانعاً مثلا عن حصول مطلوب المولى، أو غير مبغوض كذلك.
فكما أنّه إذا تردّد مائع بين كونه خمراً أو ماءً، يكون مقتضى الرواية جواز شربه وعدم وجوب الاجتناب عنه، فكذا إذا تردّد أمر الثوب بين صحّة الصلاة الواقعة فيه; لعدم كونه من أجزاء غير المأكول، وبين بطلانها فيه لكونه من أجزائه، يكون مدلول الرواية حلّية الصلاة فيه; لكون الثوب أيضاً شيئاً فيه حلال باعتبار عدم كونه مانعاً عنها، وحرام باعتبار كونه مانعاً، فالصلاة فيه حلال إلى أن تعرف الحرام منه بعينه(2).
هذا، ولا يخفى أنّه لا يبعد الاعتماد على هذا الوجه في الاستدلال بأصالة الحلّية مع تتميمه; بأن يقال: إنّ التتبّع والاستقراء في كلمات العرب واستعمالاتهم لفظي الحلال والحرام في النثر والنظم، يقضي بأنّ هذه المادّة ـ أي مادّة «حرم» ـ
- (1) تقدّمت في ص376.
- (2) قوانين الاُصول 2: 18ـ19; جامع الشتات 2: 776ـ777.
(الصفحة 384)
في ضمن أيّة صيغة كانت يراد منها الممنوعيّة والمحدوديّة الثابتة للشيء بتمام الجهات أو بعضها، كما يظهر بالتدبّر في قولهم: «حرم الرجل»، أو «حريم البيت»، أو القرية، أو البلد، أو المسجد الحرام، أو الشهر الحرام، أو محروميّة الرجل في مقابل مرزوقيّته مثلا، أو كونه محترماً وصالحاً للاحترام، أو الرجل المحرم.
وكما في قوله(صلى الله عليه وآله): المسلم محرّم على المسلم(1)، وكما في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ)(2); فإنّ المراد في جميع هذه الموارد هو نحو من الممنوعيّة والمحدوديّة الثابتة له ببعض الجهات، كصحّته وإمضائه في الأخير، أو غير ذلك من الأقوال والأفعال، كما في غيره من الأمثلة.
وفي مقابله الحلال، والحلّ، والمحلّ، وأشباهها ممّا قد اُخذت فيه مادّة هذه الصيغ; فإنّ معناها هو عدم المحدوديّة والإطلاق الثابت له، كما لا يخفى.
ويؤيّد ما ذكرنا الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة الدالّة على حرمة الصلاة في الحرير(3)، أو فيما لا يؤكل لحمه(4)، أو في غيرهما من الموانع(5)، كما سيأتي ذكر بعضها.
وحينئذ فلا يبعد التمسّك بقوله(عليه السلام): «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» إلخ(6); إذ اللباس أيضاً شيء فيه حلال باعتبار عدم محدوديّته وإطلاقه بالنسبة إلى الصلاة فيه، وحرام باعتبار خلافه، فهو أي المشكوك منه يكون كالمائع المردّد بين الخمر والخلّ، كما عرفت في كلام المحقّق القمّي(رحمه الله)، فلا يبعد
- (1) المسند لابن حنبل 7: 238، ح20057; سنن النسائي 5: 84، ح2564; المعجم الكبير للطبراني 19: 407، ح969، وفيها: «كلّ مسلم على مسلم محرّم».
- (2) سورة البقرة 2: 275.
- (3 ـ 5) وسائل الشيعة 4: 367ـ371، أبواب لباس المصلّي، ب11; وص345ـ347، ب2; وص412ـ416، ب30.
- (6) تقدّم في ص376.
(الصفحة 385)
القول بالصحّة لهذا الوجه.
هذا، ولكن يمكن أن يورد عليه بأنّ إطلاق الحرام والحلال على الثوب باعتبار صحّة الصلاة فيه وبطلانها خلاف المتعارف; إذ إطلاقهما على اللباس ينصرف إلى جواز لبسه وعدمه، ولا يفهم منه جواز الصلاة فيه وعدمه، وليس ذلك كإطلاق الحرام على الخمر باعتبار حرمة شربه، وإطلاق الحلال على لحم الشاة باعتبار جواز أكله، وحينئذ فلا يجوز التمسّك بأصالة الحلّية للمقام.
ويمكن دفع هذا الإيراد، بأنّه وإن كان إطلاقهما على الثوب باعتبار وقوع الصلاة فيه خلاف المتعارف، ولكن نمنع اختصاص الحكم في تلك الأخبار بنفس موردها، بل المفهوم منها عند العرف أنّ المقصود إثبات الحلّية الظاهريّة فيما اشتبه ولم يعلم حرمته; سواء كان إطلاق الحرام والحلال على ذلك الشيء متعارفاً أم لم يكن كذلك، كما لا يخفى.
بقي الكلام فيما يظهر من بعض الأعلام في وجه التمسّك بأصالة الحلّية، حيث قال ما ملخّصه: إنّ الشرطيّة إنّما تنتزع من تقيّد المأمور به بوجود الشرط، كما أنّ المانعيّة تنتزع من تقيّده بعدم المانع، والتقيّد بوجود الأوّل وبعدم الثاني إنّما هو من أجزاء المأمور به.
فالصلاة مثلا مركّبة من الأفعال والأقوال المخصوصة، ومن التقيّد بوجودها حين وجدان الشرائط وفقدان الموانع، وحينئذ فبملاحظة ما قرّر في محلّه(1) من أنّ الأمر المتعلّق بالمركّبات الاعتباريّة ـ كالصلاة مثلا ـ مع كونه واحداً حقيقة، له أبعاض كثيرة يتعلّق كلّ بعض منه بجزء من متعلّقه، فيلزم تعلّق بعضه أيضاً بالتقيّد الذي هو جزء للمأمور به.