(الصفحة 386)
غاية الأمر أنّه جزء اعتباريّ، فكما أنّ الركوع مثلا تعلّق به بعض الأمر المتعلّق بالمجموع، فكذلك التقيّد بوجود الشرائط وبعدم الموانع يكون متعلّقاً لذلك الأمر ومعروضاً لبعضه، وحيث إنّه لا وجود للتقيّد إلاّ بوجود القيد بل هو عينه، فيكون نفس الشرط وعدم المانع معروضاً لذلك البعض.
فظهر أنّ عدم المانع الذي هو محلّ البحث والكلام في هذا المقام، يكون كسائر الأجزاء متعلّقاً لبعض الأمر المتعلّق بالصلاة، وحيث إنّ النهي ليس إلاّ طلب الترك، فيكون وجود المانع منهيّاً عنه; لأنّ المفروض كون عدمه متعلّقاً للطلب.
غاية الأمر أنّ النهي المتعلّق بوجود المانع نهي ضمنيّ لا استقلاليّ، وحينئذ فاللباس له فردان: فرد حلال حقيقة، وفرد حرام كذلك، فلا إشكال حينئذ في التمسّك بقوله(عليه السلام): «كلّ شيء فيه حلال وحرام» إلخ، ولا حاجة إلى تجشّم دعوى التعميم للحلّية والحرمة الوضعيّة، كما ذكره المحقّق القمّي(قدس سره).
ودعوى أنّ الظاهر منه لزوم كون المنع المشكوك حكماً مستقلاًّ ناشئاً عن المبغوضيّة الذاتيّة، فيختصّ اعتبار هذا الأصل بالشبهات التحريميّة النفسيّة، واضحة الفساد; إذ لا دليل على صرف لفظ الحلال والحرام إلى بعض أفرادهما، ويشهد لذلك ـ أي لعموميّة لفظ الحلال والحرام، وعدم اختصاصهما بالحلال والحرام النفسيّين ـ الاستعمالات الواردة في موارد كثيرة في لسان الرواة، وجواب الأئـمّة(عليهم السلام):
منها: ما رواه الشيخ باسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن محمّد بن عبدالجبّار قال: كتبت إلى أبي محمّد(عليه السلام) أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها
(الصفحة 387)
وبر ما لا يؤكل لحمه، أو تكّة حرير محض، أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب(عليه السلام): لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض، وإن كان الوبر ذكيّاً حلّت الصلاة فيه إن شاء الله(1).
ومنها: ما عن الخصال بإسناده عن جابر الجعفي قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام)يقول: ليس على النساء أذان ـ إلى أن قال: ـ ويجوز أن تتختّم بالذهب وتصلّي فيه، وحرم ذلك على الرجال(2).
ومنها: ما عن الشيخ بإسناده عن موسى بن أكيل النميري، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: وجعل الله الذهب في الدنيا زينة النساء، فحرّم على الرجال لبسه والصلاة فيه، الحديث(3).
وغير ذلك من الروايات الكثيرة التي يستفاد منها عموميّة لفظ الحلال والحرام، وعدم اختصاصهما بالنفسي منهما، كما لا يخفى على من راجعها(4). انتهى ملخّص كلامه(قدس سره).
وأنت خبير بأنّه لا مجال لادّعاء ثبوت النهي في المقام; لما عرفت من أنّ معنى النهي ليس طلب الترك، بل معناه هو الزجر عن إيجاد الفعل المنهيّ عنه، كما أنّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به، وحينئذ فلا يلزم من تعلّق بعض الأمر إلى التقيّد بعدم المانع، تحقّق النهي متعلّقاً بوجود المانع، بل هو كالشرط، فكما أنّ تعلّق بعض الأمر بوجوده لا يستلزم النهي عن عدمه، فكذلك
- (1) تقدّمت في ص352.
- (2) الخصال: 588، ح12; وعنه وسائل الشيعة 4: 380، أبواب لباس المصلّي، ب16، ح6.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 227، ح894; وعنه وسائل الشيعة 4: 414، أبواب لباس المصلّي، ب30، ح5.
- (4) كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 240 وما بعدها; رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 315ـ374.
(الصفحة 388)
تعلّق الأمر بعدم المانع لا يستلزم النهي عن وجوده.
هذا، مضافاً إلى أنّه لو فرض الإتيان بالأجزاء مع كونها واجدة لجميع الشرائط، وفاقدة لجميع الموانع، سوى أنّه كان ثوبه من أجزاء غير المأكول مثلا، وكان الوقت مضيّقاً، يحصل العصيان بسبب إيجاد ذلك المانع، ولكنّه يكون عصياناً للأمر المتعلّق بالصلاة، لا للنهي الضمنيّ المتوهّم، المتعلّق بوجود المانع; لأنّه لا يزيد حكمه عمّن ترك الصلاة رأساً، أو أتى بالأجزاء مع فقدان الشروط كلاًّ أو بعضاً، فكما أنّه لا يتحقّق هناك إلاّ عصيان واحد; وهو عصيان الأمر بالصلاة، فكذلك لا يكون هنا إلاّ عصيان ذلك الأمر.
وبالجملة: فلا يكون هنا نهي متعلّق بوجود الموانع حتى يكون إيجاد واحد منها عصياناً لذلك النهي كما عرفت. وأمّا إطلاق لفظ الحرام والحلال على مثل المقام، فهو وإن كان بحسب أصل اللغة صحيحاً; إذ لا اختصاص لهما بالحلال والحرام النفسيّين، بل يعمّ غيرهما، ولكنّ المنصرف إليه والمتبادر منه عند عرف المتشرّعة هو الحلال والحرام النفسيّان، كما لا يخفى.
وبالجملة: لا يكون إطلاقهما ظاهراً في التعميم بحيث تطمئنّ به النفس، وتثق به في مقام الإفتاء، وتجعله دليلا معتمداً في مقابل قاعدة الاحتياط الجارية في المسألة، ونظائرها ممّا يرجع الشك فيه إلى الشك في المحصّل، كما عرفت تحقيقه.
فالإنصاف أنّ المسألة غير صافية عن الإشكال، فلا يجوز ترك الاحتياط فيها بالتجنّب عن الصلاة في الألبسة المشكوكة. نعم، فيما اُخذت من يد المسلم، وأخبر بأنّها مأخوذة من الحيوان المأكول، أو من غير الحيوان، لا يبعد القول
(الصفحة 389)
بجواز الاعتماد على إخباره، وكذا فيما إذا أخبر بخلافه; فإنّه لا يبعد القول بوجوب الاعتماد على قوله، وعدم جواز الصلاة فيه، لبناء العقلاء على الاعتماد على قول ذي اليد فيما يتعلّق بما في يده من الطهارة والنجاسة، والحلّية والحرمة، والقلّة والكثرة، وغير ذلك من الاُمور المتعلّقة به.
ويؤيّد ذلك ما ورد في الأخبار من بيان حكم الصلاة في وبر الأرانب والثعالب والفنك ونحوها; فإنّ من المعلوم أنّ أكثر أهل العرف لا يميّزون وبر الأرانب مثلا عن غيره إلاّ بإخبار صاحبه، فالعمدة في تشخيصه هو قول ذي اليد، فيجب ترتيب الآثار عليه.
وكذا لا يبعد أيضاً القول بجواز الصلاة في الثوب الذي يحتمل وقوع شعرات غير المأكول أو رطوباته عليه; لاستقرار السيرة على الصلاة في مثله من دون تفحّص وتتبّع عن وجودها. نعم، لا تجوز الصلاة في الثوب الذي علم بوجود الشعر فيه، ولكن لا يعلم كونه من المأكول، بل يحتمل أن يكون من غيره; لأنّ القدر المتيقّن من تحقّق السيرة الصورة الاُولى، فيجب الرجوع في غيرها إلى مقتضى قاعدة الاحتياط، والله العالم.
[ حكم الصلاة في جلد الخزّ ]
مسألة: قد استثني عن عموم الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول اُمور، ولكن مورد تطابق الفتاوى والنصوص هو وبر الخزّ الخالص(1);
- (1) المقنعة: 150; النهاية: 97; المبسوط 1: 82; المهذّب 1: 74ـ75; السرائر 1: 261; المعتبر 2: 84; منتهى المطلب 4: 236; تذكرة الفقهاء 2: 468، مسألة 122; نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 374; ذكرى الشيعة 3: 35; جامع المقاصد 2: 78; حاشية إرشاد الأذهان، المطبوع ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره 9: 67; المقاصد العلّية: 484; بحار الأنوار 83: 219; مفتاح الكرامة 5: 432ـ433.
(الصفحة 390)
فإنّه قد وردت فيه أخبار كثيرة تدلّ على جواز الصلاة فيه(1)، مضافاً إلى عدم الخلاف فيه(2).
وأمّا جلد الخزّ فجواز الصلاة فيه محلّ خلاف وإشكال، فالمحكيّ عن ابن إدريس والعلاّمة في بعض كتبه هو القول بالمنع(3)، وربما نسب إلى المشهور القول بالجواز(4)، ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار، ولابدّ قبل نقلها من بيان الموضوع وتنقيح معنى الخزّ; لكثرة الاختلاف في ذلك بين الفقهاء رضوان الله عليهم، ومنشؤه اختلاف ما ذكره أهل اللغة، فالمهمّ نقل كلماتهم ليظهر الحقّ عن غيره، فنقول:
قال في لسان العرب: الخُزز ولد الأرانب، وقيل: هو الذكر من الأرانب، والجمع أخِزَّة، وخِزّان، مثل صُرد وصِردان، وأرض مخَزَّة: كثيرة الخِزّان، والخزّ: معروف من الثياب مشتقّ منه، عربيّ صحيح، وهو من الجواهر الموصوف بها، حكى سيبويه: مررت بسَرج خزّ، والجمع خُزُوز، ومنه قول بعضهم: فإذا أعرابيّ يرفُل في الخزوز، وبائعه خزّاز.
وفي حديث علي(عليه السلام): نهى عن ركوب الخزّ والجلوس عليه. قال ابن الأثير:
- (1) وسائل الشيعة 4: 359، أبواب لباس المصلّي، ب8.
- (2) التنقيح الرائع 1: 178; حاشية شرائع الإسلام، المطبوع ضمن حياة المحقّق الكركي وآثاره 10: 129; مجمع الفائدة والبرهان 2: 82; مفاتيح الشرائع 1: 109; الحدائق الناضرة 7: 60.
- (3) السرائر 1: 261ـ262; منتهى المطلب 4: 240; تحرير الأحكام 1: 198، الرقم 627.
- (4) الحدائق الناضرة 7: 60، المسألة الثانية; وحكاه في مفتاح الكرامة 5: 438 عن كشف الالتباس; وفي رياض المسائل 3: 164; ومستند الشيعة 4: 322، جواز الصلاة في جلده أيضاً عند الأكثر.