(الصفحة 396)
إذ دخل عليه رجل من الخزّازين فقال له: جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخزّ؟ فقال: لا بأس بالصلاة فيه، فقال له الرجل: جعلت فداك إنّه ميّت وهو علاجي وأنا أعرفه، فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): أنا أعرف به منك، فقال له الرجل: إنّه علاجي وليس أحد أعرف به منّي.
فتبسّم أبو عبدالله (عليه السلام) ثمّ قال له: أتقول: إنّه دابّة تخرج من الماء أو تصاد من الماء فتخرج، فإذا فقد الماء مات؟ فقال الرجل: صدقت جعلت فداك هكذا هو. فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): فإنّك تقول: إنّه دابّة تمشي على أربع وليس هو في حدّ الحيتان فتكون ذكاته خروجه من الماء، فقال الرجل: أي والله هكذا أقول، فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): فإنّ الله ـ تعالى ـ أحلّه وجعل ذكاته موته، كما أحلّ الحيتان وجعل ذكاتها موتها(1).
فإنّ الحكم بجواز الصلاة في الخزّ على نحو الإطلاق كما ورد في الجواب الأوّل وإن كان دالاًّ على جوازها في جلد الخزّ أيضاً، إلاّ أنّ اعتراض السائل على الإمام(عليه السلام)، حيث نفى البأس عن الصلاة فيه بأنّه لا وجه للحكم بذلك مع كونه ميتة، ربما يؤكّد أنّ المقصود في السؤال الأوّل إنّما هو الاستفتاء عن الصلاة في جلده، إذ لو كان المراد الصلاة في وبره لم يكن وجه للإشكال بذلك مع كون الوبر من الأجزاء التي لا تحلّها الحياة، فشمول الإطلاق للصلاة في جلده بل اختصاصه بذلك ممّا لا إشكال فيه، كما عرفت.
ثمّ لا يخفى أنّ المراد بقوله(عليه السلام) في ذيل الرواية: «فإنّ الله تعالى أحلّه» إلخ، ليس حلّية الأكل لأجل التشبيه بالحيتان كما توهّم، بل المراد هو حلّية استعمال
- (1) الكافي 3: 399، ح11; تهذيب الأحكام 2: 211، ح828; وعنهما وسائل الشيعة 4: 359، أبواب لباس المصلّي، ب8، ح4.
(الصفحة 397)
جلده ولبسه، كما هو واضح.
هذا، ولكن لا يخفى أنّ سند الرواية في غاية الضعف; لمجهوليّة بعض رواتها، وعدم وثاقة بعضها الآخر، وكون الثالث منهم مرميّاً بالغلوّ والضعف، مضافاً إلى عدم وجود رواية اُخرى في روايات العامّة والخاصّة بهذا السند; لأنّ النقل عن «قريب» منحصر بهذه الرواية، فلا يجوز الاعتماد عليها.
ولكنّه لا يخفى أنّ هذا الكلام الصادر من الإمام(عليه السلام) في مقام الجواب عن السؤال عن الصلاة في جلد الخزّ، منقول بسند صحيح موثوق به; وهو ما رواه الكليني عن أبي علي الأشعري، عن محمّد بن عبدالجبّار، عن صفوان بن يحيى، عن عبدالرحمن بن الحجاج قال: سأل أبا عبدالله(عليه السلام)رجل وأنا عنده عن جلود
الخزّ؟ فقال: ليس به بأس، فقال الرجل: جعلت فداك، إنّها علاجي وإنّما هي كلاب تخرج من الماء، فقال أبو عبدالله(عليه السلام): إذا خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء؟ فقال الرجل: لا، قال: ليس به بأس(1).
فإنّ الظاهر اتّحاد الروايتين; بمعنى صدور هذا الكلام من الإمام(عليه السلام)في جواب الخزّاز دفعة واحدة، غاية الأمر حضور جماعة، منهم: ابن أبي يعفور وابن الحجّاج في ذلك المجلس، واختلاف ألفاظ الروايتين ـ ككون السؤال في الرواية الاُولى عن الصلاة في الخزّ من دون ذكر الجلد، وفي الثانية عن جلود الخزّ من دون ذكر الصلاة فيه، وغيره من موارد الاختلاف ـ لا يوجب أن تكونا روايتين; لأنّ المعلوم أنّ الاختلاف إنّما نشأ من عدم تحفّظ الراوي، أو من اختلاف أغراضهم في نقل الرواية.
- (1) الكافي 6: 451، ح3; علل الشرائع: 357، ب71، ح1; وعنهما وسائل الشيعة 4: 362، أبواب لباس المصلّي، ب10، ح1.
(الصفحة 398)
هذا، ولا يخفى أنّه لو قيل بالمنع من كونهما رواية واحدة ـ والمفروض أنّ سند الاُولى مظلم لا يجوز الاعتماد عليه، فالاعتبار إنّما هو بالثانية، وقد عرفت أنّ السؤال فيها إنّما هو عن جلود الخزّ، لا عن الصلاة فيها، ومن المعلوم انصرافه إلى السؤال عن جواز استعمالها في اللبس، وهو لا يلازم جواز الصلاة فيها ـ لكان له وجه; لعدم دليل معتبر على الاتّحاد.
ومن هنا يظهر أنّه لا دلالة للخبر الرابع عشر من الباب العاشر على جواز الصلاة في جلود الخزّ، كما يظهر من صاحب الجواهر والمحقّق الهمداني(قدس سرهما)(1); وهو ما رواه الشيخ، عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن البرقي، عن سعد بن سعد، عن الرضا(عليه السلام) قال: سألته عن جلود الخزّ؟ فقال: هو ذا نحن نلبس، فقلت: ذاك الوبر جعلت فداك، قال: إذا حلّ وبره حلّ جلده(2).
حيث إنّ الظاهر أنّ السؤال إنّما هو عن لبس جلود الخزّ لا عن جواز الصلاة فيها، واعتراض الراوي عليه(عليه السلام) يشعر بأنّ الشبهة في جواز لبس جلوده إنّما يكون منشؤها احتمال كونه ميتة نجسة غير مذكّى، فالجواب بالملازمة بين حلّية الوبر وحلّية الجلد إنّما ينفي هذا الاحتمال.
وبالجملة: فالملازمة بين حلّية استعمال الوبر في اللبس، والانتفاع بالجلد كذلك، لا تدلّ على الملازمة بين جواز الصلاة في الوبر، وجوازها في الجلد، كما هو واضح، ويدلّ على أنّ السؤال إنّما هو عن جواز اللبس ـ مضافاً
- (1) جواهر الكلام 8: 143ـ149; مصباح الفقيه 10: 255.
- (2) الكافي 6: 452، ح7; تهذيب الأحكام 2: 372، ح1547; وعنهما وسائل الشيعة 4: 366، أبواب لباس المصلّي، ب10، ح14.
(الصفحة 399)
إلى ما ذكرنا ـ أنّ مورد الشبهة في أذهان الناس إنّما هو جواز لبسه، خصوصاً مع علمهم بما روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)من النهي عن ركوب الخزّ والجلوس عليه، كما تقدّم في محكيّ كلام ابن المنظور(1)، وخصوصاً مع كون ثوب الخزّ كثير القيمة شائع الاستعمال بين المترفين والمتنعّمين.
ويدلّ على ذلك ما روي من أنّ عليّ بن الحسين(عليهما السلام) كان بعدما اشترى جبّة الخزّ بخمسمائة درهم ومطرفه أيضاً بخمسين ديناراً يقول: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِى) إلخ(2)،(3); فإنّ استشهاده بهذه الآية يشعر بعدم كون جواز لبس الخزّ ممّا يعرفه الناس، بل كان مورداً لشكّهم.
وبالجملة: فالرواية أجنبيّة عن المقام.
نعم، قد يتوهّم دلالة الخبر الأوّل من الباب الثامن وأمثاله على جواز الصلاة في جلده أيضاً، وهو ما رواه الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري أنّه قال: رأيت الرضا(عليه السلام) يصلّي في جبّة خزّ(4)، وأنت خبير بأنّ هذه الرواية وأمثالها إنّما تكون حاكية للفعل، ومن الواضح: أنّ الفعل لا إطلاق له، فلعلّ ذلك الخزّ كان منسوجاً من الوبر، فلا دلالة لها على جواز الصلاة في جلده، كما لا يخفى.
ثمّ إنّ ظاهر عبارة القدماء من الأصحاب استثناء الخزّ الخالص دون
- (1) في ص390.
- (2) سورة الأعراف 7: 32.
- (3) قرب الإسناد: 357، ح1277; وعنه وسائل الشيعة 5: 7، أبواب أحكام الملابس، ب1، ح8; وبحار الأنوار 79: 298، ح2.
- (4) الفقيه 1: 170، ح802; تهذيب الأحكام 2: 212، ح832; وعنهما وسائل الشيعة 4: 359، أبواب لباس المصلّي، ب8، ح1.
(الصفحة 400)
المغشوش بوبر الأرانب والثعالب(1)، ولا يخفى أنّ ما يتصوّر فيه الخالصيّة والمغشوشية إنّما هو وبر الخزّ دون جلده، فيعلم أنّ المراد من المستثنى إنّما هو الوبر دون الجلد، فلا يستفاد من كلماتهم جواز الصلاة في جلد الخزّ، واحتمال أن يكون المستثنى شاملا للجلد أيضاً.
غاية الأمر أنّ التقييد بالخلوص إنّما يكون في الوبر فقط خلاف الظاهر. هذا، وعبارة المحقّق في الشرائع إنّما تكون كعبارة القدماء في عدم استفادة الجواز منها(2). وأمّا في المعتبر، فقد استقرب الجواز بعد أن تردّد في المسألة(3). وأمّا العلاّمة، فالمحكيّ عن كلامه في التحرير والمنتهى هو المنع، والتفصيل بين الوبر والجلد(4)، خلافاً لما يظهر من سائر كتبه من تعميم الجواز(5)، كما هو المعروف بين المتأخّرين(6).
ولا يخفى أنّ تحقيق المسألة وتقريب القول بالجواز أو العدم فيها مبنيّ على اُمور:
أحدها: أنّه هل يكون الخزّ من الحيوانات التي يحلّ أكل لحمها، أو ممّا يحرم؟ الظاهر هو الثاني; لقيام الإجماع على حرمة الحيوانات المائيّة عدا السمك الذي
- (1) الاستبصار 1: 387، ذ ح1471; تهذيب الأحكام 2: 211ـ213; غنية النزوع: 66; كشف اللثام 3: 190ـ195، ويراجع ص389.
- (2) شرائع الإسلام 1: 69.
- (3) المعتبر 2: 84ـ85.
- (4) تحرير الأحكام 1: 198; منتهى المطلب 4: 236ـ240; وكذا ابن ادريس في السرائر 1: 261ـ262.
- (5) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 374ـ375; تذكرة الفقهاء 2: 468ـ469، مسألة: 122; قواعد الأحكام 1: 255; مختلف الشيعة 2: 77.
- (6) جامع المقاصد 2: 78; ذكرى الشيعة 3: 36; مسالك الأفهام 1: 163; مجمع الفائدة والبرهان 2: 97; مدارك الأحكام 3: 168ـ169; جواهر الكلام 8: 141ـ148.