(الصفحة 482)
الاضطرار الحاصل من قبل الصلاة; لكونها مشروطة بستر العورة; إذ كان ذلك مفروض السؤال، فلا يحتاج إلى التكرار، فالمراد منه هو الاضطرار الطارئ مع قطع النظر عن اعتبار الستر في صحّة الصلاة.
وحينئذ فهذه الرواية تكون شاهدة للجمع بين الروايات التي رواها محمّد بن عليّ الحلبي، التي قد عرفت أنّها رواية واحدة، ولعلّ الوجه في إطلاق الحكم بوجوب الصلاة عارياً في روايته الاُولى هو: أنّ مفروض السؤال كون الرجل في فلاة من الأرض; ومن المعلوم أنّه لا يضطرّ الرجل حينئذ إلى لبس الثوب غالباً; لعدم وجود ناظر فيها كذلك.
فإذا ثبت الجمع بين الروايات التي رواها محمّد بن عليّ الحلبي بهذا النحو، فيظهر وجه الجمع بين سائر الروايات المتعارضة; إذ الظاهر أنّ موثّقة سماعة المتقدّمة التي حكم فيها بوجوب الصلاة عرياناً إنّما هي واردة فيما إذا كان الرجل في فلاة من الأرض، كبعض روايات الحلبي، وقد عرفت أنّه في هذه الصورة لا يتحقّق الاضطرار غالباً.
فانقدح أنّ طريق الجمع بين الروايات المتقدّمة المتعارضة بعد التأمّل فيها هو ما اختاره الشيخ في مقام رفع المعارضة بينها; من وجوب الصلاة عارياً فيما إذا لم يتحقّق الاضطرار إلى لبسه لبرد أو ناظر أو غيرهما، كما أنّه ممّا ذكرنا ـ من أنّ كثيراً من الروايات الواردة في هذا المقام ينتهي سندها إلى محمّد بن عليّ الحلبي، وذلك يدلّ على كونها رواية واحدة ـ ظهر أنّه لا مجال لدعوى التواتر أو الاستفاضة، والتقديم بسببه في إحدى الطائفتين، كما هو واضح.
ثمّ إنّه قد يستدلّ على وجوب الصلاة في الثوب النجس مطلقاً بوجه عقليّ،
(الصفحة 483)
وهو: أنّ الطهارة معتبرة فيما يكون ساتراً، وبعبارة اُخرى: يعتبر في صحّة الصلاة أمران: ستر العورة، وكون الساتر فاقداً للنجاسة، فشرطيّة الستر كالأصل بالنسبة إلى اعتبار الطهارة، فإذا تعذّر مراعاة وصف الساتر، فلا يترك لأجله أصل الستر على ما هو مقتضى حكم العقل في كلّ موصوف وصفة كانا مطلوبين وتعذّر مراعاة الوصف.
وجوابه يظهر ممّا قدّمنا ذكره من أنّ الطهارة معتبرة في الساتر لا بما هو ساتر، بل بما هو لباس للمصلّي. وبعبارة اُخرى: هي معتبرة فيما يلبسه المصلّي; سواء كان ساتراً أم لا، وقد عرفت أيضاً أنّ الطهارة أمر عدميّ لا معنى لأن تكون شرطاً للصلاة، بل النجاسة التي هي أمر وجوديّ تكون مانعة عن صحّتها، فالأمر دائر بين رعاية شرطيّة الستر، وبين رعاية مانعيّة النجاسة، بترك الصلاة في الثوب النجس.
ومن المعلوم أنّه ليس للعقل سبيل إلى ترجيح أحد الطرفين والحكم بتعيّنه، فلابدّ من التوقّف حتى يعلم ما هو المقدّم في نظر الشارع، وقد عرفت أنّ مقتضى الجمع بين الأخبار الواردة عن الأئـمّة(عليهم السلام) هو الحكم بوجوب الصلاة عارياً إلاّ فيما إذا اضطرّ إلى لبس الثوب.
ثمّ إنّه قد يقال بعدم إمكان حمل رواية عليّ بن جعفر المتقدّمة ـ الدالّة على وجوب الصلاة في الثوب الذي نصفه أو كلّه دم، والنهي عن الصلاة عرياناً ـ على صورة الاضطرار إلى لبس ذلك الثوب لبرد أو وجود ناظر، كما حملها الشيخ على ذلك، ووجهه: أنّ موردها ما إذا كان الرجل عرياناً فوجد ثوباً بذلك الوصف، وظاهرها عدم كونه مضطرّاً إلى لبسه، والمفروض أنّه قد حكم فيه بوجوب
(الصفحة 484)
الصلاة في الثوب النجس، فلا مجال للحمل على صورة الاضطرار.
ولكن فيه: ـ مضافاً إلى أنّ هذا الإشكال كما ينافي الحمل على صورة الاضطرار، والقول بالتفصيل بينها، وبين غيرها كما اختاره الشيخ(1)، كذلك ينافي ما استحسنه المحقّق في المعتبر من الحمل على التخيير(2); لما عرفت من اشتمالها على النهي عن الصلاة عرياناً. نعم، يناسب القول المستحدث في القرون الأخيرة، الذي اختاره كاشف اللّثام(3)، وتبعه جماعة ممّن تأخّر عنه(4)، وهو وجوب الصلاة في الثوب النجس مطلقاً، فيصير مضمون الرواية معرضاً عنه غير معمول به ظاهراً ـ أنّ هذا المعنى لا يوجب صراحة الرواية ونصوصيّتها في غير صورة الاضطرار، فلا تكون آبية عن حمل الشيخ; وإن كان حملها على ذلك أبعد من حمل سائر الروايات الدالّة على وجوب الصلاة في الثوب النجس، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه لو فرضنا عدم إمكان الجمع بين تلك الأخبار المتعارضة، بنحو يخرجها عن التعارض، فاللازم الرجوع إلى المرجّحات المذكورة في أخبار الترجيح(5)، وقد قرّرنا في محلّه أنّ أوّلها هي الشهرة في الفتوى(6)، ولا ريب في أنّها موافقة للروايات الدالّة على وجوب الصلاة عرياناً، كما يدلّ عليه فتوى الشيخ ومن بعده إلى زمان المحقّق على طبقها، فالواجب بناءً عليه
- (1 ، 2) تقدّم تخريجهما في ص477.
- (3) وكذا اختاره قبله صاحب المدارك والمعالم، كما تقدّم في ص477.
- (4) كصاحب مفتاح الكرامة 2: 196; والعروة الوثقى 1: 69، مسألة 280; وص404، مسألة 1306.
- (5) وسائل الشيعة 27: 106ـ124، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، ب9.
- (6) نهاية الاُصول: 541ـ554.
(الصفحة 485)
الأخذ بها أيضاً.
والحكم بوجوب الصلاة عارياً، وكيفيّة صلاة العاري من حيث القيام أو القعود، ومن حيث الإيماء أو الركوع والسجود ما عرفت سابقاً، فراجع.
مسألة: لو كان له ثوبان يعلم بنجاسة أحدهما لا على التعيين، ولم يتمكّن من غسل أحدهما، فمقتضى القاعدة وجوب الصلاة في كليهما; لأنّه يتمكّن من مراعاة الستر والطهارة المعتبرة في الثوب، بالصلاة في كلّ منهما مرّة.
غاية الأمر أنّه لا يتمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي فيسقط، ولا يجب عليه حينئذ أزيد من الامتثال العلمي الاجمالي، كما هو الشأن في جميع موارد العلم الاجمالي، ويدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى أنّه مقتضى القاعدة ـ كما عرفت ما رواه الصدوق في الصحيح عن صفوان بن يحيى أنّه كتب إلى أبي الحسن(عليه السلام)يسأله عن الرجل معه ثوبان، فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيّهما هو، وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء، كيف يصنع؟ قال: يصلّي فيهما جميعاً(1).
هذا، وصرّح الحلّي في محكيّ السرائر بوجوب الصلاة عارياً على طريقة صلاة العاري، وزعم أنّه مقتضى الاحتياط، وسيجيء نقل عبارته، ويظهر من الشيخ في الخلاف وجود القائل بهذا القول في عصره وقبله(2); كما أنّه يظهر من مبسوطه وجود رواية على هذا المضمون، ولكنّه(قدس سره) أفتى فيهما بوجوب الصلاة فيهما جميعاً(3).
- (1) الفقيه 1: 161، ح757; تهذيب الأحكام 2: 225، ح887; وعنهما وسائل الشيعة 3: 505، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب64، ح1.
- (2) الخلاف 1: 481.
- (3) المبسوط 1: 91.
(الصفحة 486)
قال الحلّي في السرائر: وإذا حصل معه ثوبان: أحدهما نجس، والآخر طاهر، ولم يتميّز له الطاهر، ولا يتمكّن من غسل أحدهما، قال بعض أصحابنا: يصلّي في كلّ واحد منهما على الانفراد وجوباً، وقال بعض منهم: ينزعهما ويصلّي عرياناً، وهذا الذي يقوى في نفسي وبه اُفتي; لأنّ المسألة بين أصحابنا فيها خلاف، ودليل الإجماع منفيّ، فإذا كان كذلك فالاحتياط يوجب ما قلناه.
فإن قال قائل: بل الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد; لأنّه إذا صلّى فيهما جميعاً، تبيّن وتيقّن بعد فراغه من الصلاتين معاً أنّه قد صلّى في ثوب طاهر.
قلنا: المؤثّرات في وجوه الأفعال تجب أن تكون مقارنة لها لا متأخّرة عنها، والواجب عليه عند افتتاح كلّ فريضة أن يقطع على ثوبه بالطهارة، وهذا يجوّز عند افتتاح كلّ صلاة من الصلاتين أنّه نجس، ولا يعلم أنّه طاهر عند افتتاح كلّ صلاة، فلا يجوز أن يدخل في الصلاة إلاّ بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه; لأنّه لا يجوز أن يستفتح الصلاة، وهو شاكّ في طهارة ثوبه، ولا يجز أن تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد، وأيضاً كون الصلاة واجبة على وجه تقع عليه الصلاة، فكيف يؤثّر في هذا الوجه ما يأتي بعده، ومن شأن المؤثّر في وجوه الأفعال أن يكون مقارناً لها لا يتأخّر عنها على ما بيّناه(1)، انتهى موضع الحاجة من نقل كلامه(قدس سره).
ولا يخفى ما فيه. أمّا أولا: فلأنّ الظاهر من قوله: ودليل الاجماع منفيّ، أنّ الدليل المتصوّر منحصر بالإجماع، وهو غير موجود في المسألة، مع أنّ الواضح عدم اختصاص الدليل بالإجماع المفقود فيها; لما عرفت من دلالة الرواية