(الصفحة 489)
وإن قلنا بأنّه يجب عليه في تلك المسألة الصلاة عارياً، كما قوّيناه(1)تبعاً للشيخ أبي جعفر الطوسي(رحمه الله)، فالظاهر أنّ الواجب عليه في مسألتنا هذه أيضاً ذلك.
وتوهّم ثبوت الفرق بين المقامين; بأنّ الأمر هناك دائر بين الصلاة فاقداً للستر وللمانع، وبين الصلاة واجداً لهما معاً قطعاً; للعلم بنجاسة الثوب المنحصر، وهنا دائر بين الصلاة فاقداً للشرط قطعاً، وبينها واجداً للمانع احتمالا.
وبعبارة اُخرى: الأمر في المسألة السابقة كان دائراً بين المخالفة القطعيّة للأمر المنجّز المعلوم بترك ما هو شرط للمأمور به يقيناً، وبين المخالفة القطعيّة له بإتيانه واجداً للمانع كذلك، وهنا دائر بين المخالفة القطعيّة له بترك ما هو شرط له، وبين المخالفة الاحتماليّة بإيقاع الصلاة في الثوب الذي شكّ في طهارته، ولا ريب أنّ الترجيح مع الثاني، كما يحكم به العقل قطعاً.
مدفوع بأنّ الكلام إنّما هو في مقام تعلّق الأمر، وأنّه هل تعلّق أمر المولى فيما إذا لم يمكن مراعاة الشرط والمانع معاً بالصلاة مع رعاية الشرط، أو بها مع خلوّها عن المانع وإن كانت فاقدة للشرط؟ وقد دلّت الأخبار المتقدّمة في المسألة السابقة على ترجيح مانعيّة النجاسة; لقوّتها على شرطيّة الستر.
وحينئذ فلو قلنا بوجوب الصلاة في الثوب فيما نحن فيه، فمرجعه إلى اكتفاء المولى بمحتمل الصلاتيّة; إذ على تقدير نجاسة الثوب واقعاً لا تتحقّق الصلاة أصلا، فاللازم أن يقال بكفاية الشك في تحقّق الامتثال، مع عدم وجود ما يحرزه كما هو المفروض، وهو ممّا يحكم ببداهة خلافه العقل; إذ مرجعه إلى عدم كون
(الصفحة 490)
الصلاة مطلوبة للمولى، ومأموراً بها بالأمر المنجّز، كما هو واضح.
وبالجملة: فالصلاة في الثوب الذي شكّ في طهارته مع عدم إحرازها بالأصل; لفرض كونه من أطراف العلم الاجمالي كالصلاة فيما علم نجاسته، من حيث عدم تحقّق الامتثال المعتبر في سقوط الأمر، وحيث إنّه قد علم من الأخبار المتقدّمة ترجيح جانب المانع على جانب الشرط، فالواجب عليه هنا أيضاً الصلاة عارياً كما عرفت.
هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بلباس المصلّي.
(الصفحة 491)
المقدّمة الخامسة
في مكان المصلّي
إعلم أنّه لا يعتبر في مكان المصلّي شيء وجوديّ أو عدميّ، مثل ما يعتبر في لباسه من الأوصاف الوجوديّة والعدميّة، على ما عرفت تفصيله. نعم، يعتبر فيه أن يكون التصرّف فيه مباحاً للمصلّي، ولكنّه لم يرد فيه نصّ بخصوصه، بل الوجه في اعتباره هو ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه، بضميمة استحالة اجتماع الأمر والنهي.
ونحن وإن حقّقنا جوازه فيما هو محلّ النزاع في المسألة الاُصوليّة(1)، إلاّ أنّك عرفت أنّ ذلك لا ينافي القول ببطلان العبادة فيما إذا اتّحدت مع عنوان محرّم
- (1) نهاية الاُصول: 257ـ259.
(الصفحة 492)
في الخارج; لعدم صلاحيّة ما يكون مبغوضاً للمولى بالفعل للتقرّب به إليه. نعم، يختصّ ذلك بما إذا كانت الحرمة منجّزة على المكلّف.
وأمّا في غير هذه الصورة، فلا مانع من وقوع العبادة على وجهها; لعدم كونها مبغوضة فعلا. ثمّ إنّ التعبير بأنّه يعتبر أن لا يكون مكان المصلّي مغصوباً ـ كما في بعض الكلمات(1) ـ لا يشمل جميع صور المسألة; لما عرفت من أنّ الغصب يعتبر فيه الاستيلاء، ولو لم يتحقّق تصرّف أصلا، والملاك هو التصرّف في مال الغير بغير إذنه ولو لم يكن هنا استيلاء; إذ هو الذي يتّحد مع أكوان الصلاة، كما هو واضح.
ثمّ إنّه جرت عادتهم في هذا المقام على التعرّض لمسألتين، وإن كانتا غير مرتبطتين به، فنحن أيضاً نتعرّض لهما في هذا الباب تبعاً لهم، فنقول:
[ عدم جواز تقدّم المرأة على الرجل ومحاذاتها له ]
المسألة الاُولى: المشهور(2) بين قدماء الأصحاب أنّه لا يجوز تقدّم المرأة على الرجل في الصلاة، ولا صلاتها بحذائه; بأن تكون عن يمينه أو يساره، وهم بين مصرّح بأنّه لا يجوز ذلك(3)، الذي يظهر منه البطلان; لكون النواهي الواردة في بيان كيفيّات العبادات والمعاملات إرشادات إلى فساد العبادة والمعاملة، وبين من صرّح بالبطلان(4)، والمشهور بين المتأخّرين
- (1) مسائل الناصريّات: 205; منتهى المطلب 4: 297; قواعد الأحكام 1: 258; البيان: 128; جامع المقاصد 2: 116; كتاب الصلاة للمحقّق الحائري; 81.
- (2) الحدائق الناضرة 7: 177; وحكاه في مفتاح الكرامة 6: 148 عن تخليص التلخيص.
- (3) الكافي في الفقه: 120; المهذّب 1: 98; غنية النزوع: 82.
- (4) المقنعة: 152; الخلاف 1: 423، مسألة 171; النهاية: 100ـ101; المبسوط 1: 86; الوسيلة 89; وحكاه عن الجعفي في ذكرى الشيعة 3: 82.
(الصفحة 493)
هو القول بالكراهة(1).
ولا يخفى أنّ الأخبار الواردة في هذه المسألة كثيرة، والرواة من أصحاب الأئـمّة(عليهم السلام) ـ الذين سألوهم عن حكمها ـ أيضاً كثيرون، بحيث ربما يبلغ عددهم إلى ثلاثة عشر أو أربعة عشر، وهم بين من يروى عنه أزيد من رواية واحدة، وبين من له رواية واحدة فقط.
أمّا الطائفة الاُولى، فمنهم: جميل بن درّاج، وقد روي عنه ثلاث روايات:
منها: ما رواه الشيخ عن محمّد بن الحسين، عن ابن فضّال، عمّن أخبره، عن جميل، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الرجل يصلّي والمرأة بحذاه أو إلى جنبيه، قال: إذا كان سجودها مع ركوعه فلا بأس(2).
ومنها: ما رواه أيضاً عن يعقوب بن يزيد، عن ابن فضّال، عمّن أخبره، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الرجل يصلّي والمرأة تصلّي بحذاه، قال(عليه السلام): لا بأس(3).
والظاهر أنّهما رواية واحدة; بمعنى أنّ الراوي ـ وهو جميل ـ سأل الإمام(عليه السلام)عن حكم المسألة مرّة واحدة، وأجابه(عليه السلام) بجواب واحد، وهو الحكم بعدم البأس مطلقاً، أو مقيّداً بما إذا كان سجودها مع ركوعه، والظاهر هو الثاني; لأنّه إذا دار الأمر بين الزيادة السهويّة، والنقيصة السهويّة، يكون الترجيح مع الثاني
- (1) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 349; قواعد الأحكام 1: 258ـ259; تحرير الأحكام 1: 210; ذكرى الشيعة 3: 82; الدروس الشرعيّة 1: 153; البيان: 130; غاية المرام 1: 137; جامع المقاصد 2: 120; مدارك الأحكام 3: 221; الحدائق الناضرة 7: 177; مستند الشيعة 4: 411.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 379، ح1581; الاستبصار 1: 399، ح1524; وعنهما وسائل الشيعة 5: 127، أبواب مكان المصلّي، ب6، ح3.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 232، ح912; وعنه وسائل الشيعة 5: 125، أبواب مكان المصلّي، ب5، ح6.