(الصفحة 60)
قيل: يا رسول الله وما معنى خفيفتين؟ قال: يقرأ فيهما الحمد وحدها. قيل: يارسول الله فمتى اُصلّيها؟ قال: ما بين المغرب والعشاء(1).
وعن الصدوق في الفقيه، عن الباقر(عليه السلام): إنّ إبليس يبثّ جنود الليل من حين تغيب الشمس إلى مغيب الشفق، ويبثّ جنود النهار من حين يطلع الفجر إلى مطلع الشمس. وذكر أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان يقول: أكثروا ذكر الله ـ عزّ وجلّ ـ في هاتين الساعتين، وتعوّذوا بالله ـ عزّ وجلّ ـ من شرّ إبليس وجنوده، وعوّذوا صغاركم في هاتين الساعتين; فإنّهما ساعتا غفلة(2)، انتهى.
وروى الشيخ في المصباح عن الصادق، عن آبائه(عليهم السلام)، عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)قال: أُوصيكم بركعتين بين العشاءين، يقرأ في الاُولى الحمد وإذا زلزلت الأرض ثلاث عشرة مرّة، وفي الثانية الحمد مرّة وقل هو الله أحد خمس عشرة مرّة; فإنّه من فعل ذلك في كلّ شهر كان من الموقنين، فإن فعل ذلك في كلّ سنة كان من المحسنين، فإن فعل ذلك في كلّ جمعة مرّة كان من المخلصين، فإن فعل ذلك مرّة كلّ ليلة زاحمني في الجنّة، ولم يحص ثوابه إلاّ الله تعالى(3).
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يقع الكلام هنا في جهتين: إحداهما: اتّحادالتنفّل المأمور به في ساعة الغفلة مع صلاة الغفيلة التي تضمّنتها رواية هشام بن سالم المتقدّمة، وكذا مع صلاة الوصيّة التي تدلّ عليها الرواية الأخيرة وعدمه، والاُخرى: اتّحاد صلاة الغفيلة أو الوصيّة مع نافلة المغرب وعدمه.
- (1) فلاح السائل: 430، ح294، وص434، ح301; وعنه مستدرك الوسائل 6: 302ـ303، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، ب15، ح6874.
- (2) الفقيه 1: 318، ح1444; وعنه وسائل الشيعة 6: 496، أبواب التعقيب، ب36، ح5.
- (3) مصباح المتهجّد: 107; وعنه وسائل الشيعة 8: 118، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة، ب17، ح1.
(الصفحة 61)
فنقول: أمّا الكلام في الجهة الاُولى، فملخّصه: أنّ الظاهر هو التعدّد وإن جاز التداخل في مقام الامتثال; لوضوح أنّ الرواية الدالّة على مطلوبيّة مطلق التنفّل في ساعة الغفلة، إنّما تدلّ على أنّ المطلوب هو عدم خلوّ هذا الزمان الذي هو زمان الغفلة من التنفّل الذي يكون حقيقته التوجّه إلى المعبود، والتخضّع والتخشّع لديه، فالمطلوب فيه أمر عامّ ينطبق على القليل والكثير، ولا دلالة لها على كيفيّة مخصوصة ونحو خاصّ.
والرواية الاُخرى تدلّ على استحباب ركعتين بالكيفيّة الخاصّة، وهو عنوان آخر يغاير العنوان المأخوذ في تلك الروايات من حيث المفهوم، ولكن لا يأبى من الاجتماع معه في الخارج ومقام الامتثال; فهذان العنوانان في عالم تعلّق الطلب والأمر متغايران، ولذا يجوز تعلّق أمر مستقلّ بكلّ منهما، وفي عالم الامتثال والوجود الخارجي يمكن تصادقهما على أمر واحد.
وبعبارة أُخرى: لـمّا كان من سيرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) التفريق بين المغرب والعشاء، والإتيان بكلّ منهما في وقت فضيلته، فكان يأتي بالعشاء بعد ذهاب الشفق، كما هو المتداول الآن بين المسلمين من أهل السنّة، فلذا يفصل بين الصلاتين زمان قهراً، وكان الناس في ذلك المقدار من الزمان مجتمعين على ذكر الاُمور الباطلة، والاشتغال باللغو والغيبة، ولا أقلّ من الاُمور الدنيويّة، فلذا وقع الحثّ والتحريض على صرف هذا الزمان في ذكر الله الذي هو عبارة عن الصلاة التي حقيقتها التوجّه إلى الخالق المعبود بنحو الخضوع والخشوع، فالمطلوب هو مطلق التنفّل المانع عن الاشتغال بالاُمور الدنيويّة.
ومن الواضح: تحقّق هذا المطلوب بالإتيان بصلاة الغفيلة بكيفيّتها المخصوصة; لوجود الأعمّ في ضمن الأخصّ، وهذا لا ينافي تعلّق أمر مستقلّ بكلّ منهما; لأنّ
(الصفحة 62)
ملاك تعدّد الأمر هو تغاير المتعلّقين في عالم المفهوميّة; سواء كانت النسبة بينهما التساوي، أو التباين، أو العموم المطلق، أو العموم من وجه، غاية الأمر أنّه لا يمكن التداخل في صورة التباين. وأمّا في غيرها من الصور الثلاثة، فيتحقّق التداخل في مقام الامتثال وإن لم يقصد العنوانين معاً.
نعم، لو كان العنوانان من العناوين القصديّة التي قوامها بالقصد، بحيث لا تتحقّق بدونه، لا يمكن التداخل ما لم يقصد كلاهما. فانقدح ممّا ذكرنا أنّ صلاة الغفيلة وكذا الوصيّة تغاير النافلة المأمور بها في ساعة الغفلة في مقام تعلّق الأمر، غاية الأمر أنّه يتحقّق التداخل بينهما في مقام الامتثال إذا أتى بها بصورة الغفيلة أو الوصيّة. وأمّا إذا لم يأت بها بشيء من الصورتين، يتحقّق الامتثال بالنسبة إلى الأمر المتعلّق بمطلق التنفّل، دون الأمر المتعلّق بالغفيلة أو الوصيّة.
وأمّا الكلام في الجهة الثانية، فملخّصه: أنّ فيه وجوهاً ثلاثة، مقتضى الوجه الأوّل منها اتّحاد الغفلية أو الوصيّة مع نافلة المغرب ذاتاً وعنواناً، فتتحدان في مقام الصدق قهراً كما هو واضح. ومقتضى الوجه الثاني عكس ذلك، فهما متغايرتان عنواناً وكذا صدقاً، فلا تجتمعان على وجود واحد. ومقتضى الوجه الثالث التفصيل بين مقام الذات وعالم الصدق، بتحقّق الاختلاف بينهما بحسب الذات، وإمكان التصادق بحسب الخارج ومقام الامتثال.
أمّا الوجوه: فالوجه الأوّل أن يقال: إنّه لـمّا كان الإتيان بنافلة المغرب بين العشاءين متداولا بين المسلمين، بحيث لم يكونوا يتركونه في مقام العمل، فكان قوله(عليه السلام): «من صلّى بين العشاءين ركعتين يقرأ في الاُولى الحمد»، الحديث بياناً لكيفيّة خاصّة للركعتين من النافلة المعهودة بينهم، المعروفة عندهم، وأنّه يترتّب عليها أثر مخصوص مع الإتيان بها بهذه الكيفيّة، زائداً على الأثر المترتّب عليها مع
(الصفحة 63)
الإتيان بها بدون هذه الكيفيّة، فليس في البين أمر آخر متعلّق بعنوان صلاة الغفيلة أو الوصيّة، في مقابل الأمر المتعلّق بنافلة المغرب المركّبة من أربع ركعات، بل الغرض هو جواز الإتيان بركعتين من نافلة المغرب بهذه الكيفيّة لترتّب آثار مخصوصة عليهما.
وحينئذ، فلو أتى بأربع ركعات بعنوان نافلة المغرب من دون هذه الكيفيّة، لا يشرع له الإتيان بصلاة الغفيلة أو الوصيّة; لعدم تعلّق أمر مستقلّ بعنوانهما.
والوجه الثاني أن يقال: إنّ المسلمين حيث استقرّت سيرتهم على الإتيان بنافلة المغرب بعد فريضته، صار في ارتكازهم أنّ نافلة المغرب من توابعه المتصلة به، وحينئذ فلا يفهمون من كلام الإمام الصادق(عليه السلام)في الرواية المتقدّمة الواردة في صلاة الغفيلة: «من صلّى بين العشاءين ركعتين يقرأ في الاُولى الحمد إلخ»، إلاّ الإتيان بالركعتين بين المغرب ونافلته، وبين العشاء.
وحينئذ، فالمقصود بيان استحباب ركعتين أُخريين عدا نافلة المغرب، وحينئذ فهما ـ أي صلاة الغفيلة أو الوصيّة، ونافلة المغرب ـ متبائنتان لا يمكن تصادقهما على فرد واحد، فلو أتى بنافلة المغرب بصورة الغفيلة لا يسقط الأمر الاستحبابي المتعلّق بصلاة الغفيلة، كما أنّه لا يتحقّق امتثال الأمر المتعلّق بنافلة المغرب إذا ضمّ إلى صلاة الغفيلة ركعتين أُخريين; وهكذا بالنسبة إلى صلاة الوصيّة.
والوجه الثالث أن يقال: ليس الأمر كما ذكر في الوجه الأوّل، ولا كما ذكر في الوجه الثاني، بل الظاهر أنّ النافلة المعنونة بعنوان نافلة المغرب تعلّق بها أمر مستقلّ، وصلاة الغفيلة أو الوصيّة تعلّق بها أمر استحبابيّ آخر، ولا بأس بتعلّق أمرين بعد تغاير المتعلّقين من حيث المفهوم والعنوان.
(الصفحة 64)
نعم، يمكن تصادقهما في الخارج وفي مقام الامتثال; لأنّ نافلة المغرب لا تكون
مشروطة بصورة خاصّة، وكيفيّة مخصوصة مغايرة لصورة الغفيلة، والغفيلة أيضاً لا تكون مشروطة بالإتيان بها بعد نافلة المغرب أو قبلها حتّى لا يمكن تصادقهما، بل نافلة المغرب مطلقة من حيث الكيفيّة، والغفيلة مطلقة من حيث الوقت بالإضافة إلى نافلة المغرب، فلا إشكال حينئذ في الإتيان بركعتين بصورة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب أيضاً، ويتحقّق الامتثال بالنسبة إلى كلا الأمرين.
نعم، بناءً على ما ذكرنا سابقاً من أنّ نافلة المغرب نافلة واحدة مركّبة من صلاتين مرتبطتين، تكون الركعتان منها المأتيّ بهما بعنوان صلاة الغفيلة أيضاً مأموراً بهما بالأمر الاستقلالي، بالنظر إلى كونهما صلاة الغفيلة، وبالأمر الضمني من جهة كونهما جزءاً من نافلة المغرب التي تعلّق بمجموعها أمر واحد; فالركعتان امتثال للأمر الاستقلالي والضمني معاً، فبالاعتبار الأوّل يكون تامّاً، وبالاعتبار الثاني يكون غير تامّ.
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّه بناءً على الوجه الأوّل ليس هناك إلاّ مستحبّ واحد، وعلى الوجه الثاني هناك مستحبّان متبائنان لا يمكن تداخلهما، وعلى الوجه الثالث مستحبّان يمكن تداخلهما.
واعلم أنّه حيث كان التفريق بين العشاءين وتأخير العشاء الآخرة إلى ذهاب الشفق، ممّا استقرّت عليه سيرة المسلمين في الصدر الأوّل، فلذا يكون المتبادر من قوله(عليه السلام): «من صلّى بين العشاءين ركعتين» هو الصلاة بين الوقتين اللّذين يصلّى فيهما الفريضتان; أعني من ذهاب الحمرة إلى زوال الشفق، وحينئذ فالمتبادر كون وقت الغفيلة هو ما بين المغرب والعشاء المأتيّ بهما في وقت فضيلتهما، لا ما بينهما وإن أخّر العشاء إلى نصف الليل، كما لا يخفى.