(الصفحة 313)
وعليه: يشكل ما في هذه الرواية من الجمع بين صلاتهم جالساً، وبين كونها مع الركوع والسجود; لأنّه إن كان موردها صورة الأمن من المطّلع، فقد عرفت أنّ حكمها وجوب القيام، وأنّ الستر الشرطي لا يزاحمه، كما هو مقتضى رواية ابن مسكان المتقدمة. وإن كان موردها صورة عدم الأمن، فحكمها هو الإيماء بمقتضى هذه الرواية الدالّة على أنّ الإمام يجب عليه أن يومئ لئلاّ يبدو ما خلفه للمأمومين.
وقد عرفت أنّ ستر الدبر المتعلّق للوجوب النفسي يزاحم وجوب الركوع والسجود ويتقدّم عليه، فالجمع بين صلاتهم جالساً وكونها مع الركوع والسجود لا وجه له، كما عرفت.
قلت: الظاهر أنّ موردها صورة الأمن من المطّلع، ولكنّ الحكم بوجوب الجلوس إنّما هو لأجل أنّه مع القيام تكون قبلهم ظاهرة لأنفسهم، وقد عرفت أنّ ستر القبل لا يزاحمه وجوب القيام ويتقدّم عليه، فالحكم بوجوب الركوع والسجود عليهم لا ينافي وجوب الجلوس; لأنّ وجوبهما إنّما هو لعدم مزاحمة الستر الشرطي بالنسبة إلى الدبر لهما، ووجوبه لمزاحمة الستر المتعلّق للوجوب
النفسي بالنسبة إلى القبل لوجوب القيام وتقدّمه عليه، ووجوب الإيماء بدلهما على الإمام، لما عرفت من أنّ ستر الدبر الذي هو واجب خارجيّ نفسيّ لا يزاحمه وجوبهما.
وكيف كان، فقد عرفت ثبوت المعارضة بين ما يدلّ على الإيماء، ومرسلة أيّوب بن نوح ورواية إسحاق بن عمّار المتقدّمتين، لكنّ الاُولى مطروحة بالإرسال، والثانية وإن كانت معارضة لصحيحة عليّ بن جعفر(عليه السلام)وغيرها من حيث الدلالة، ولكن لا تقاومها من حيث السند; لأنّ الشيخ نقلها من كتاب
(الصفحة 314)
محمد بن عليّ بن محبوب، ولم يتابعه غيره فيه، مضافاً إلى غرابة نقل محمّد بن الحسين، عن عبدالله بن جبلة بدون واسطة(1)، وهي على فرضها هو ابن مبارك ولم يحرز وثاقته، فيجب الحكم بوجوب الإيماء مطلقاً; سواء صلّى جالساً أو قائماً، وبأنّ وجوب الركوع والسجود لا يزاحم الستر الشرطيّ بالنسبة إلى الدبر، كما عرفت.
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ التفصيل بين الستر الذي يكون واجباً نفسيّاً، والستر الشرطي ـ بأنّ الأوّل عامّ من حيث الساتر لكلّ شيء من الثوب والحشيش والطين وأجزاء البدن وغيرها، واختصاص الثاني بالأوّلين مع الترتيب أو بدونه كما ذهب إليه صاحب الجواهر(2) ـ لا وجه له; لأنّك عرفت أنّ الحكم بوجوب الإيماء جالساً أو قائماً إنّما هو لمراعاة الستر الشرطي بالنسبة إلى الدبر، وإلاّ فلا وجه له مع كون المصلّي آمناً من المطّلع.
ومن المعلوم أنّ ساتره حينئذ هو الإليتان، وهما من أجزاء البدن. نعم، مع فقد الثوب والحشيش لا يكون مكلّفاً بستر عورته بالطين; للزوم العسر كما لا يخفى. فالحقّ أنّ مع فقدهما لا يكون الستر الصلاتي متعذّراً بالنسبة إليه حتّى يحكم بسقوطه.
نعم، يقع الكلام في الترتيب بين أنواع الساتر كما ذهب إليه بعضهم، واستدلّ عليه برواية عليّ بن جعفر(عليه السلام) المتقدّمة(3)، والتحقيق أنّها لا تدلّ عليه; لأنّ الحكم بوجوب ستر العورة بالحشيش مع فقد الثوب ليس إلاّ لأجل عدم الاحتياج
- (1) تهذيب الأحكام 2: 365، ح1514.
- (2) جواهر الكلام 8: 319.
- (3) في ص309.
(الصفحة 315)
إلى الستر به مع وجدان الثوب; لأنّه معه لا أقل من كونه لابساً لثوب واحد ـ وهو القميص ـ لدفع البرودة أو غيره، وهو ساتر لعورته، فالستر بالحشيش غير مبتلى به غالباً، فلا تدلّ على عدم كفاية الستر به مع وجدان الثوب، كما هو واضح.
وكذا لا يستفاد منها الترتيب بين الحشيش وغيره; لأنّ قوله(عليه السلام): «وإن لم يصب شيئاً يستر به عورته» يدلّ على أنّ ذكر الحشيش كان من باب المثال، والمراد به كلّ ما هو ساتر للعورة غير الثوب من الطين وغيره. نعم، قد عرفت أنّه لا يجب الستر بالطين للزوم العسر، وهو لا يقتضي عدم الاجتزاء به.
فظهر أنّ الستر الصلاتي يكون كالستر المتعلّق للوجوب النفسي من حيث الساتر، فيكفي فيه كلّ شيء حتّى أجزاء البدن ولا ترتيب بين أنواعه، ولذا لو لم يكن الستر ببعض أجزاء البدن مستلزماً للقعود والإيماء بدل القيام والركوع والسجود، لقلنا بكفايته ولو مع وجدان غيره من أنواع الساتر.
فروع
الأوّل: لو كان المصلّي واجداً لما هو ساتر لإحدى عورتيه، فقد يكون ساتراً لإحداهما على التعيين، وقد يكون ساتراً لها لا على التعيين، فعلى الأوّل: إن كان ساتراً لقبله يجب عليه الصلاة قائماً إيماءً، وإن كان ساتراً لدبره يجب عليه الصلاة قاعداً مع الركوع والسجود على ما عرفت تفصيله.
وعلى الثاني: فقد ذكر لترجيح إحداهما على الاُخرى وجوه لا تصلح للمرجحيّة، كما يظهر لمن راجع وتأمّل، فلا يبعد الحكم بالتخيير بين سترهما والصلاة قائماً ايماءً، أو قاعداً مع الركوع والسجود.
الثاني: لو وجد الساتر في أثناء الصلاة، فقد يكون متمكّناً من الستر به
(الصفحة 316)
من غير فعل المنافي، وقد لا يكون كذلك، بل يتوقّف على فعل المنافي، وعلى التقديرين، فقد يكون الوقت متّسعاً بحيث يمكن مع قطع الصلاة تحصيل الستر وأداؤها معه ولو بركعة، وقد لا يكون كذلك، بل يكون قطع الصلاة وتحصيل الستر موجباً لخروج الوقت.
فإن لم يكن متمكّناً من الستر به بدون فعل المنافي، وكان الوقت ضيقاً بحيث لا يتمكّن مع قطع الصلاة من أدائها ولو بركعة، فلا إشكال في وجوب الإتمام عليه على نحو صلاة العاري ولا يجوز عليه قطعها، كما أنّه لو كان متمكّناً من الستر به من غير فعل المنافي، وكان الوقت ضيقاً، لا إشكال في أنّه يجب عليه الستر والإتيان بباقي الصلاة على نحو صلاة غير العاري من القيام والركوع والسجود، ولا دلالة للأخبار المتقدّمة الواردة في كيفيّة صلاة العاري على اختصاص تلك الكيفيّة بما إذا كان عارياً في جميع أحوال الصلاة، كما هو واضح.
وإن كان الوقت متّسعاً في هذه الصورة، وقلنا بأنّه يجوز له البدار بحمل ما ورد في التأخير على الاستحباب، فلا إشكال أيضاً في كفاية الإتيان بباقي أجزاء الصلاة مع الستر على نحو صلاة غير العاري من القيام والركوع والسجود، بناءً على ما عرفت من أنّ الستر له ماهيّة واحدة يتعلّق به الوجوب النفسي إذا كان معرضاً لنظر الغير والوجوب الشرطي للصلاة مطلقاً.
فكما أنّه يكفي في الأوّل ستر العورة بالطين أو بأجزاء البدن أو بغيرهما، فكذلك يكفي في الثاني سترها بكلّ ما هو ساتر لها; لأنّ متعلّق الوجوبين الستر بما هو ستر، ففي المقام لا يكون المصلّي مع فقدان الثوب وغيره فاقداً لجميع أنواع الساتر، بل هو مستور بأجزاء بدنه من الفخذين والأليتين.
(الصفحة 317)
وقد عرفت أنّ العدول من القيام إلى القعود ومن الركوع والسجود إلى الإيماء إنّما هو لمراعاة الستر; إذ لا يمكن حمل الأخبار الدالّة على ذلك على التعبّد كما لا يخفى، فمع كونه واجداً للستر الشرطي بالنسبة إلى الأجزاء المأتيّ بها، لا يكون وجه للقول ببطلان صلاته مع وجدان الثوب مثلا، فمعه يأتي ببقيّة الأجزاء مع الساتر وتصحّ صلاته.
والعدول في بعض الركعات من القيام إلى القعود ومن الركوع والسجود إلى الإيماء إنّما هو لمراعاة الأمر الاضطراري، وهو يرتفع مع الوجدان، فلم يتخلّل زمان يكون المصلّي فيه فاقداً لما هو شرط لها، فلم يبق وجه للحكم بالبطلان إلاّ القول بأنّ ظاهر الأدلّة الواردة في صلاة العاري هو كفاية الصلاة بتلك الكيفيّة المذكورة فيها إذا كان المصلّي عارياً من أوّل الصلاة إلى آخرها، ومن أوّل الوقت إلى آخرها، وقد عرفت منعه، وأنّ الظاهر هو الإطلاق، وممّا ذكرنا ظهر حكم ما بقي من الفروض، فتأمّل جيّداً.
الثالث: لو نسي المصلّي أن يستر عورته في الصلاة من أوّلها، أو كان ساتراً لها بثوبه أو غيره باعتقاده، ثمّ انكشف الخلاف في الأثناء وبنى على أن يسترها ثمّ نسي وأتمّ صلاته فانكشف الحال، أو انكشف الخلاف بعد الفراغ عنها، أو في الأثناء، ولكن بنى على سترها مع التمكّن منه بدون فعل المنافي، أو توقّفه عليه، ففي حكمه من حيث وجوب الإعادة وعدمه إشكال.
والتحقيق أن يقال: إنّه لا مجال فيما نحن فيه ونظائره ممّا لم يدلّ على الحكم دليل لفظيّ حتّى يتمسّك بعمومه للتشبّث بأصالة البراءة أو غيرها من الاُصول النافية للتكليف; إذ كما أنّه لا يجوز الرجوع إليها لنفي أصل التكليف الذي كان