(الصفحة 318)
ثبوته لأجل قيام السيرة المستمرّة عليه، وتوافق الفتاوى على ثبوته، كذلك لا يجوز الرجوع إليها لنفي بعض أفراده.
إذ لا فرق في نظر العقل الراجع إليه جميع الأدلّة الدالّة على اعتبار تلك الاُصول بين ما كان دليل الحكم لفظاً صادراً عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) والأئـمّة(عليهم السلام)واصلا إلينا بعين ألفاظه، وبين ما إذا كان لأجل كثرة الابتلاء به واشتهاره بين الناس بحيث لا يحتمل الخلاف، لم ينقله الرواة بعين ألفاظه حتّى يصل إلينا ذلك اللفظ الصادر منهم(عليهم السلام)، ففي كليهما لا يجوز عند العقل الرجوع إلى البراءة، ولا يحكم بعدم وجود البيان في البين.
فما اشتهر بينهم ـ من أنّ حجّية الدليل اللبّي كالإجماع وغيره ثابتة بالنسبة إلى القدر المتيقّن، وفي غيره يجوز التمسّك بالبراءة وغيرها ـ ممّا لا وجه له، بل نقول: إنّ عدم جواز الرجوع إلى البراءة في القسم الثاني أولى من القسم الأوّل; لأنّ الحكم فيه مقطوع به لأجل وضوحه عند المتشرّعة، وكون فتاوى العلماء منهم على طبقه بخلاف الأوّل، كما لا يخفى.
فالحجّة في الثاني أيضاً موجودة بالنسبة إلى جميع الأفراد والحالات من حيث العلم والجهل وغيرهما، وما نحن فيه من مسألة الستر وشرطيّته للصلاة يكون من هذا القبيل; إذ لم يدلّ دليل لفظيّ على أنّه شرط لها، وقد عرفت أنّ عدم وصوله إلينا إنّما هو لوضوحه عندهم من العوام والخواصّ.
ولذا ورد في الروايات السؤال عن بعض ما يتعلّق به من الفروع; مثل السؤال عن حكم من لا يكون له ساتر أصلا، ولم يقع في شيء منها السؤال عن أصل شرطيّة الستر، وحينئذ فلا يجوز الرجوع إلى البراءة إذا شككنا في أنّه شرط لها
(الصفحة 319)
مطلقاً، أو تختصّ شرطيّته بحال العلم والذكر، إلاّ إذا قام دليل على التخصيص ببعض الموارد، ففي غيره يجوز الرجوع إليها.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّه قد ادّعى بعض اختصاص شرطيّة الستر بغير صورة النسيان، واستدلّ عليه بحديث «لاتعاد»(1); إذ لا يكون الستر من الخمسة التي يقتضي الإخلال بها وجوب الإعادة، وبقوله(عليه السلام) في حديث الرفع: رفع عن اُمّتي تسعة... وما لا يعلمون ـ إلى قوله: ـ والخطأ والنسيان(2)، وبما رواه عليّ بن جعفر، عن أخيه(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل صلّى وفرجه خارج لا يعلم به، هل عليه إعادة أو ما حاله؟ قال(عليه السلام): لا إعادة عليه وقد تمّت صلاته(3)،(4). انتهى.
[ بحث حول حديث «لا تعاد...» ]
أقول: لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما يدلّ عليه حديث «لا تعاد» من المرام، لأجل الاختلاف بين الأعلام وإن كان قد اُشير إليه سابقاً لمناسبة المقام، فاعلم أنّه حكي عن بعض الأعاظم القول بعدم اختصاص مورد الحديث بما إذا نسي المصلّي بعض ما يعتبر في الصلاة، بل يعمّ صورة العمد مطلقاً ولو مع العلم(5)، وبعضهم اقتصر على شموله لغير صورة العلم(6).
- (1) الفقيه 1: 181، ح857; تهذيب الأحكام 2: 152، ح597; وعنهما وسائل الشيعة 4: 312، أبواب القبلة، ب9، ح1.
- (2) تقدّم في ص267.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 216، ح851; مستطرفات السرائر 97: ذ ح 15; وعنهما وسائل الشيعة 4: 404، أبواب لباس المصلّي، ب27، ح1.
- (4) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 42ـ44.
- (5) نهاية الأفكار 3: 434.
- (6) فوائد الاُصول 3: 238ـ239; كتاب الصلاة للمحقّق الحائري(رحمه الله): 46; درر الفوائد: 494ـ495.
(الصفحة 320)
والتحقيق أن يقال باختصاص مورده بغير صورة العمد مطلقاً; لأنّ الظاهر أنّه مسوق لبيان حكم من كان قاصداً لامتثال التكليف المتوجّه إليه، وكان ذلك داعياً له إلى الاتيان، ومن المعلوم أنّ مثل هذا الشخص لا يترك ما يعتبر في الصلاة من الأجزاء والشرائط عمداً، ولا يوجد ما كان وجوده مضرّاً بصحّة الصلاة اختياراً.
نعم، قد يعرض له بعض الطوارئ الخارجيّة والعوارض القهريّة، فيوجب فقدان بعض ما له دخل في صحّتها، أو وجدان بعض ما كان وجوده مضرّاً بها; فإنّ مثل هذا ينبغي أن يحكم عليه بوجوب الإعادة أو عدمه، وإلاّ فالمكلّف الذي يترك ما له دخل فيها عن عمد واختيار لا يكون في الحقيقة قاصداً للامتثال، مريداً لتحصيل المأمور به، ولا يكون الداعي له إلى الإتيان بذلك هو أمر المولى، فلا يناسبه الحكم بوجوب الإعادة، بل المناسب هو الحكم عليه بوجوب الإتيان بأصل الصلاة فيما كان تاركاً له مع العلم بكيفيّتها وأجزائها وشرائطها، والحكم بوجوب التعلّم والإتيان بما هو معتبر فيها فيما كان جاهلا.
نعم، الجاهل الذي لا يكون متردّداً في صحّة ما يأتي به ولا يحتمل الخلاف، لا يبعد الحكم بدخوله في مورد الحديث، فلا تجب الإعادة عليه في غير الخمسة المذكورة فيه، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون جاهلا بالحكم أو الموضوع.
هذا، وبعد ذلك يقع الكلام في شمول الحديث لما إذا أوجد بعض الموانع نسياناً أو جهلا بالمعنى الذي مرّ آنفاً، من جهة أنّ المستثنى منه في الحديث غير مذكور، ويكون الاستثناء مفرّغاً، فيحتمل اختصاصه بالإخلال بما يعتبر وجوده في الصلاة شرطاً أو شطراً، وعدم شموله لما إذا أوجد بعض الموانع، خصوصاً بعد
(الصفحة 321)
كون المستثنى من قبيل الأوّل; إذ أمره دائر بين الشرائط والأجزاء.
وعليه: يقع الإشكال في حكم الزيادة السهويّة، وأنّه هل يمكن استفادته من حديث «لا تعاد» أم لا؟ إذ الظاهر أنّ زيادة الجزء من الموانع التي قام الدليل على كون وجودها مخلاًّ بصحّتها، ولا تكون الزيادة كالنقيصة; لأنّ الجزء بما هو جزء لا يقتضي إلاّ عدم تحقّق المركّب بفقدانه لا بزيادته، فكونها مخلّة يحتاج إلى دليل آخر غير ما يدلّ على الجزئيّة.
هذا، ولا يبعد أن يقال بعدم شموله للموانع والزيادة السهويّة، فيبقى ما يدلّ على أنّها توجب البطلان بوجودها على إطلاقه لصورة النسيان، إلاّ أن يتمسّك لخروجها بدليل آخر، كحديث الرفع وغيره.
بقي هنا شيء; وهو: أنّ حديث «لا تعاد» كما يدلّ على عدم وجوب الإعادة فيما إذا نسي بعض الأجزاء أو الشرائط غير الخمسة المذكورة فيها إلى أن فرغ من الصلاة، كذلك يدلّ على عدم وجوبها فيما إذا نسي شيئاً منهما في بعض أجزاء الصلاة، كما إذا كان ناسياً للستر مثلا، ثمّ التفت في الأثناء بعدما صار مستور العورة ولو بفعل الغير، للأولويّة القطعيّة كما هو واضح.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ للمسألة صوراً:
منها: ما إذا كان ناسياً للستر إلى أن فرغ من الصلاة، كما إذا كان فاقداً للساتر.
ومنها: ما إذا كان واجداً للساتر والتفت قبل الصلاة إلى أنّه لا يستر العورة لخرق ما يحاذيها ثمّ نسي وصلّى فالتفت.
ومنها: ما إذا كان واجداً للساتر ولم يلتفت إلى خروج العورة إلى أن فرغ منها.
ومنها: تلك الصورة ولكن مع الالتفات في الأثناء بعد أن صار مستور العورة
(الصفحة 322)
ولو بفعل الغير.
ومنها: تلك الصورة أيضاً ولكن مع الالتفات في حال كونه مكشوف العورة.
ومنها: ما إذا كان عالماً بأنّ عورته مكشوفة، وبأنّه يعتبر سترها في الصلاة، ولكن لأجل عدم الالتفات إلى أنّه يصلّي لم يسترها.
ومنها: ما إذا كان ثوبه ساتراً لعورته، ولكن لأجل الريح أو غيره صار مكشوف العورة في بعض الأزمنة، وهذه الصورة غير داخلة في السهو ولا في العمد.
والشائع من هذه الصور ما إذا كان واجداً للساتر ولم تكن عورته مستورة، ولذا وقع في صحيحة علي بن جعفر(عليه السلام) المتقدّمة(1) السؤال عنه. وعليه: فتشمل الصحيحة أكثر هذه الصور، بناءً على أنّ السؤال إنّما هو من فقدان ما هو شرط للصلاة من الستر في صورة النسيان، والتعبير ببعض أفراده إنّما هو لكونه شائعاً.
هذا، ولكن الصور التي تشملها الصحيحة جزماً إنّما هي الصورة الثانية والثالثة، كما أنّ مقتضى حديث «لا تعاد» عدم وجوب الإعادة في الصورة الاُولى أيضاً، ويستفاد منهما عدم وجوب الإعادة في الصورة الرابعة بالأولويّة القطعيّة، كما لا يخفى.
وفي شمولهما للصورة الخامسة تردّد وإشكال، والأظهر العدم; لأنّك عرفت أنّ موردهما ما إذا كان ناسياً لكونه مكشوف العورة، بحيث لا يكون عالماً وملتفتاً به في زمان من الأزمنة، والمفروض أنّه التفت في الأثناء في حال كونه مكشوف العورة.