(الصفحة 110)الفصل الخامس
في اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه
وتنقيح البحث فيـه يستدعي تقديم اُمور :
الأمر الأوّل: هل هذه المسألـة اُصوليّـة أم لا؟
ذكر في التقريرات (ا لمحقّق النائيني) أ نّـه لا إشكال في كون المسأ لـة من المسائل الاُصوليّـة ; لأنّ نتيجتها تقع في طريق الاستنباط ، وكذا في عدم كونها من المباحث اللفظيـة ; لوضوح أنّ المراد من الأمر في العنوان الأعمّ من اللفظي واللبّي المستكشف من الإجماع ونحوه ، وذكر أيضاً أنّ المراد من الاقتضاء في العنوان الأعمّ من كونـه على نحو العينيّـة أو التضمّن أو الالتزام با لمعنى الأخصّ أو الأعمّ ، لأنّ لكلٍّ وجهاً بل قائلاً(1) .
أقول:
أمّا كون المسأ لـة من المسائل الاُصوليّـة : فقد ذكرنا في مسأ لـة دلالـة الأمر على الوجوب أو الاستحباب أنّ نظائر هذه المسأ لـة من المسائل
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 301.
(الصفحة 111)
ا للغويـة ، لأنّـه لا فرق بين النزاع في مدلول لفظ «ا لصعيد» الوارد في آيـة التيمّم(1) أ نّـه هل هو التراب الخا لص أو مطلق وجـه الأرض مثلاً ، وبين النزاع في مدلول الأمر مثلاً من حيث دلالتـه على الوجوب ، وكذا من حيث دلالتـه على النهي عن الضدّ ، كما لايخفى .
بل نقول : إنّ كثيراً من المسائل اللغويـة تكون من المسائل الاُصوليـة ، وذكر بعضها في الاُصول إنّما هو لشدّة الاحتياج بـه ، كما لايخفى .
وأمّا كونها من المباحث العقليـة : فلايخفى أنّ الجمع بينها وبين تفسير الاقتضاء بما يعمّ العينيّـة والجزئيّـة اللّتين هما من الدلالات اللفظيـة عندهم وإن كان يمكن المناقشـة في الثاني كا لجمع بين المتضادّين .
الأمر الثاني: معنى الاقتضاء في عنوان المسألـة
ثمّ تفسير الاقتضاء ـ الذي هو عبارة عن التأثير والسببيـة ـ بما يعمّهما تفسير بارد ، ولا مناسبـة بين معناه الحقيقي وبين هذا المعنى أصلاً .
فالأولى في التعبير عن عنوان النزاع ـ بعد إسقاط القول با لعينيـة وبا لجزئيـة لكونهما ممّا لا إشكال في بطلانهما ـ أن يقال : هل الأمر با لشيء يلازم النهي عن ضدّه أم لا ؟ غايـة الأمر أنّ عمدة النزاع في الملازمـة ينشأ من توقّف الشيء على ترك ضدّه بأن يكون ترك الضدّ مقدّمةً لفعل الضدّ الآخر ، فتصير المسأ لة من صغريات مبحث المقدّمـة ، كما لايخفى .
ثمّ إنّ المراد با لضدّ أعمّ من الضدّ الخاصّ ، فيشمل الضدّ العامّ الذي بمعنى النقيض أيضاً .
- 1 ـ النساء (4): 43، المائدة (5): 6.
(الصفحة 112)
إذا عرفت ذلك ، فنقول : هل الأمر با لشيء يستلزم النهي عن الضدّ مطلقاً ، أو لايستلزم كذلك ، أو يستلزم با لنسبـة إلى الضدّ العامّ دون الخاصّ ؟ وجوه بل أقوال .
الأمر الثالث: المهمّ من الأقوال في المسألـة
وحيث إنّ العمدة في استدلال القائلين بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ إنّما هو إثبات المقدّميـة بين ترك الضدّ ووجود الضدّ الآخر ، فلابأس بالإشارة إلى ما هو الحقّ في هذا الباب .
وليعلم أوّلاً أنّ إثبات الاقتضاء في الضدّ الخاصّ لايتوقّف على مجرّد إثبات المقدّميـة ، بل بعد ثبوت ذلك يتوقّف على القول با لملازمـة في مقدّمـة الواجب وإثبات كونها واجبةً بعد وجوب ذيها ، ثمّ بعد ذلك على إثبات أنّ وجوب الترك ملازم لحرمـة الفعل ، وهذا يرجع إلى إثبات الاقتضاء با لنسبـة إلى الضدّ العامّ أيضاً .
الاستدلال على الاقتضاء في الضدّ الخاصّ من طريق المقدّميّـة
فتحصّل أنّ القول بالاقتضاء في الضدّ الخاصّ يتوقّف على اُمور :
الأوّل:
كون ترك أحد الضدّين مقدّمةً لوجود الآخر .
الثاني:
القول با لملازمـة .
الثالث:
القول بالاقتضاء في الضدّ العامّ أيضاً .
ولايخفى أنّ هذه المقدّمات الثلاث كلّها محلّ منع ، أمّا الثانيـة : فقد عرفت ما هو الحقّ فيها في مسأ لـة مقدّمـة الواجب ، فراجع ، وأمّا الأخير : فسيجيء ، والعمدة هي الاُولى .
(الصفحة 113)
فنقول : حكي عن بعض : ثبوت المقدّميـة من الجانبين ، وعن بعض آخر : ثبوت المقدّميـة با لنسبـة إلى ترك الضدّ ، وعن ثا لث : عكس ذلك ، وعن رابع : التفصيل بين الضدّ الموجود ، فيتوقّف على رفعـه وجود الضدّ الآخر ، وبين الضدّ المعدوم ، فلايتوقّف عليـه وجود الضدّ الآخر ، وعن خامس : إنكار المقدّميـة مطلقاً(1) !
إنكار المحقّق الخراساني المقدّميّـة مطلقاً
ثمّ إنّ من القائلين با لقول الخامس المنكرين للمقدّميـة : المحقّق الخراساني في الكفايـة ، بل يظهر من بعض عباراتـه كون الشيء وترك ضدّه في رتبـة واحدة حيث قال في مقام الجواب عن توهّم المقدّميـة : إنّ المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلاّ عدم اجتماعهما في التحقّق ، وحيث لا منافاة أصلاً بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديلـه بل بينهما كمال الملائمـة ، كان أحد العينين مع ما هو نقيض الآخر وبديلـه في مرتبـة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر ، كما لايخفى(2) .
هذا ، وأنت خبير بأنّ مجرّد أن يكون بينهما كمال الملائمـة لايقتضي ثبوت التقارن ، كيف ومن الواضح أن يكون بين المعلول وعدم العلّـة كمال الملائمـة ، مع أنّ فرض التقارن بينهما يقتضي كون المعلول مع العلّـة أيضاً كذلك ; لأنّ النقيضين في رتبـة واحدة بلا إشكال ، كما صرّح بـه في الكفايـة بعد هذه العبارة .
ويمكن توجيـه هذا الكلام بأ نّـه كما يصدق على الضدّ ما يكون ذلك من
- 1 ـ اُنظر بدائع الأفكار، المحقّق الرشتي: 372 / السطر 17.
- 2 ـ كفايـة الاُصول: 161.
(الصفحة 114)
أفراده حقيقـة با لحمل الشائع الذاتي الذي مرجعـه إلى كون المصداق داخلاً في حقيقـة المحمول ، كذلك يصدق عليـه عدم الضدّ الآخر با لحمل الشائع العرضي الذي يرجع إلى ثبوت المحمول لـه با لعرض ، فا لشيء الواحد يكون مصداقاً لشيء با لذات ولشيء آخر با لعرض ، فيستلزم ذلك كون المتصادقين في رتبـة واحدة ; لأنّ المفروض كون المصداق لهما شيئاً واحداً ، كما هو واضح .
ولكن لايخفى أنّ حمل العدم على الوجود ليس حملاً حقيقيّاً راجعاً إلى كون ذلك الوجود واجداً لذلك العدم ، ككونـه واجداً للصفات الوجوديـة ، كيف ومعنى الواجديـة كون شيء مرتبطاً مع شيء آخر ، مع أنّ العدم مطلقاً ليس بشيء حتّى يكون شيء آخر واجداً لـه .
وتقسيم القضايا إلى قضيّـة موجبـة وسا لبـة محصّلـة وموجبـة سا لبـة المحمول وسا لبـة معدولـة لايدلّ على إمكان حمل السلب والعدم على شيء ; لأنّ ذلك إنّما هو على سبيل المسامحـة ، بل ما عدا الأوّل يرجع إلى نفي الربط بين الموضوع ، وذلك الحكم المسلوب ، لا إلى ثبوت الربط بينهما ، كيف والعدم ليس بشيء حتّى تحقّقت الرابطـة بينـه وبين موجود آخر ، وصدق القضايا السلبيـة ليس بمعنى مطابقتها للواقع حتّى يكون لها واقع يطابقـه ، بل صدقـه بمعنى خلوّ الواقع عن الارتباط ، وثبوت المحمول للموضوع ، كما لايخفى ، كما أنّ ما اشتهر من أنّ عدم العلّـة علّـة للعدم إنّما هو على نحو المسامحـة قياساً إلى الوجود وتشبيهاً بـه ، والتعبير عمّا من شأنـه أن يكون لـه وجود بعدم الملكـة ليس المراد منـه أنّ العدم فيـه الشأنيـة لكذا ، كيف وهي من الحيثيّات الثبوتيّـة الممتنعـة الاجتماع مع الحيثيّات السلبيـة .
وبا لجملـة ، فكون العدم مقابلاً للوجود خارجاً عن حيطـة الشيئيـة ممّا لاينبغي الارتياب فيـه ، فكلّ ما يوهم بظاهره الخلاف من ثبوتـه لشيء أو ثبوت