(الصفحة 507)
كما أنّ مقتضى الحديث رفع الحكم فيما إذا لم يلزم من رفعـه ضرر على شخص آخر ; لأنّ ذلك ينافي الامتنان على الاُمّـة الظاهر في الامتنان على جميع الاُمّـة ، كما لايخفى . وحينئذ فالاضطرار مثلاً إلى أكل مال الغير لايوجب إلاّ سقوط التحريم المتعلّق بإتلاف مال الغير من دون إذن ، لا سقوط الضمان أيضاً ، بل يشكل سقوط الحكم التكليفي أيضاً في بعض الموارد ، كما إذا اضطرّ بالاضطرار العرفي الغير البا لغ حدّ الاضطرار الشرعي إلى أكل عين متعلّقـة با لغير ; بحيث كانت خصوصيتها أيضاً متعلّقـة لغرضـه ، ولايرضى بإتلافـه مع دفع القيمـة أصلاً ; لكون خصوصيتها مطلوبـة لـه أيضاً ، فإنّـه يشكل الحكم بجواز الإتلاف بمجرّد عروض اضطرار يمكن لـه التحمّل عقلاً ، وإن لم يكن ممّا يتحمّل عادة ، كما لايخفى .
الأمر الثالث: في شمول الحديث للاُمور العدميـة
ذكر المحقّق النائيني(قدس سره) ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ أنّ حديث الرفع إنّما يختصّ برفع الاُمور الوجوديـة ، فلو اُكره المكلّف على الترك أو اضطرّ إليـه أو نسي الفعل ففي شمول الحديث لـه إشكال ; لأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلـة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلـة الوجود ، فإنّ ذلك إنّما يكون وضعاً لا رفعاً ، فلو نذر أن يشرب من ماء دجلـة ، فاُكره على العدم أو اضطرّ إليـه أو نسي أن يشرب فمقتضى القاعدة وجوب الكفّارة عليـه ، لو لم تكن أدلّـة وجوب الكفّارة مختصّـة بصورة التعمّد ومخا لفـة النذر عن إرادة والتفات(1) .
هذا، وأجاب عن ذلك المحقّق العراقي
ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ بعدم
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 352 ـ 353.
(الصفحة 508)
ا لفرق بين رفع الفعل أو الترك ; إذ كما أنّ معنى رفع الوجود في عا لم التشريع عبارة عن رفع الأثر المترتّب عليـه ، وخلوّه عن الحكم في عا لم التشريع ، كذلك في رفع العدم ، فإنّ مرجع رفعـه إلى رفع الأثر المترتّب على هذا العدم الراجع إلى عدم أخذه موضوعاً للحكم با لفساد ، ووجوب الإعادة مثلاً بملاحظـة دخل نقيضـه ، وهو الوجود في الصحّـة .
وبا لجملـة : فرق واضح بين قلب الوجود بعدم ذاتـه وتنزيلـه منزلتـه ، وبا لعكس ، وبين قلب أخذه موضوعاً للحكم بعدم أخذه في مرحلـة تشريع الحكم ، وخلوّ خطاباتـه عنـه . والإشكال المزبور إنّما يرد على الأوّل دون الثاني(1) ، انتهى .
هذا، وأنت خبير بعدم تماميـة هذا الجواب;
إذ ليس معنى رفع هذه الاُمور هو رفعها عن موضوعيـة الحكم المترتّب عليها مطلقاً ، حتّى في ناحيـة رفع الفعل ، فإنّـه لو كان معنى رفع ما اضطرّوا إليـه مثلاً هو رفع شرب الخمر الذي حصل الاضطرار إليـه عن موضوعيـة الحكم با لحرمـة ، الظاهر في حرمتـه مطلقاً لما كان الكلام محتاجاً إلى ادعاء ومصحّح ، كما أتعبوا بـه أنفسهم ; إذ الرفع حينئذ يصير رفعاً حقيقياً ، لا ادعائياً .
فالإشكال إنّما هو بناءً على ظاهر الحديث من كون المرفوع هي ذوات هذه الأشياء ، وجعلها بمنزلـة العدم ، والجواب لاينطبق عليـه ، كما هو واضح .
والتحقيق في الجواب أن يقال:
أمّا أوّلاً ; فلأنّ العدم المرفوع في الحديث هو العدم المضاف ، وهو يمكن اعتباره بنحو ثبت لـه الثبوت الإضافي ، وثانياً : أنّ تعلّق الرفع بـه يوجب تحقّقاً اعتبارياً لـه ، وبهذا الاعتبار يمكن أن يتعلّق بـه ،
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 219.
(الصفحة 509)
وثا لثاً : إذا فرض ترتّب حكم على الترك في الشريعـة فلابدّ من أن يكون لـه ثبوت اعتباري في عا لم التشريع ، وإلاّ فلايعقل أن يتعلّق بـه الحكم ، ويترتّب عليـه الأثر ، وحينئذ فا لحديث إنّما يرفع هذا الثابت با لثبوت الاعتباري ، والمصحّح لإسناد الرفع إليـه هو خلوّه في عا لم التشريع عن الحكم والأثر رأساً . وبا لجملـة : فلاينبغي الإشكال في شمول الحديث لرفع التروك أيضاً .
الأمر الرابع: في شمول الموصول للشبهات الموضوعيـة والحكميـة
إنّما الكلام في شمول الموصول في قولـه «ما لايعلمون» للشبهات الحكميـة وعدمــه ، فاعلم أنّـه قد يقال ـ كما قيل ـ باختصاصـه با لشبهات الموضوعيـة(1) : إمّا لأنّ المرفوع في الحديث هو خصوص المؤاخذة ، والمؤاخذة على نفس الحكم ممّا لايعقل .
وإمّا لأنّ وحدة السياق تقتضي ذلك ; لأنّ المراد من الموصول في «ما استكرهوا عليـه» وأخواتـه هو الموضوع ; إذ لايعقل الاستكراه ـ مثلاً ـ على الحكم . ومقتضى وحدة السياق أن يكون المراد با لموصول في «ما لايعلمون» أيضاً هو الموضوع الذي اشتبـه عنوانـه ، فلايعمّ الشبهات الحكميـة .
وإمّا لأنّ إسناد الرفع إلى الحكم إسناد إلى ما هو لـه ، وإسناده إلى الفعل إسناد إلى غير ما هو لـه ، ولا جامع بينهما حتّى يمكن أن يراد من الموصول ، وحينئذ فمع قطع النظر عن وحدة السياق ينبغي تخصيص الحديث با لشبهات الحكميـة ; لأنّ إسناد الرفع فيها إسناد حقيقي ، إلاّ أنّ وحدة السياق اقتضت الحمل
- 1 ـ فرائد الاُصول 1: 320 ـ 321، كفايـة الاُصول: 387، دررالفوائد، المحقّق الخراساني: 190.
(الصفحة 510)
على خصوص الشبهات الموضوعيـة .
هذا، وأنت خبير بفساد جميع هذه الوجوه:
أمّا الوجـه الأوّل فلأنّـه مبني على أن يكون المرفوع هو خصوص المؤاخذة ، وقد عرفت أنّ مقتضى التحقيق هو كون المرفوع هي نفس تلك العناوين ادعاءً ، بلحاظ خلوّها عن الحكم رأساً .
وأمّا الوجـه الثاني فلمنع اقتضاء وحدة السياق ذلك ، بل نقول : إنّ وحدة السياق تقتضي خلافـه ، كما أفاده في «ا لدرر»(1) ; لأنّ عدم تحقّق الاضطرار في ا لأحكام ، وكذا الإكراه لايوجب تخصيص «ما لايعلمون» ، بل مقتضى السياق إرادة العموم من هذا الموصول ، كإرادتـه من أخواتـه . غايـة الأمر : أنّ عموم الموصول إنّما يكون بملاحظـة سعـة متعلّقـه وضيقـه . فقولـه(صلى الله عليه وآله وسلم) :
«ما اضطرّ إليـه» اُريد منـه كلّ ما اضطرّ إليـه في الخارج . غايـة الأمر : أنّـه لم يتحقّق الاضطرار با لنسبـة إلى الحكم .
فمقتضى اتحاد السياق أن يراد من قولـه(صلى الله عليه وآله وسلم) :
«ما لايعلمون» أيضاً كلّ فرد من أفراد هذا العنوان . ألا ترى أنّـه إذا قيل : «ما يؤكل» و «ما يرى» في قضيـة واحدة لايوجب انحصار أفراد الأوّل في الخارج ببعض الأشياء تخصيص الثاني أيضاً بذلك البعض ، كما هو واضح جدّاً .
هذا ، وذكر المحقّق العراقي ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ في بيان منع وحدة السياق المقتضيـة للحمل على خصوص الشبهات الموضوعيـة ما ملخّصـه : أنّ من الفقرات في الحديث الطيرة والحسد والوسوسـة ، ولايكون المراد منها الفعل ، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوع المشتبـه ، مع أنّ ذلك يقتضي ارتكاب خلاف ظاهر السياق من جهـة
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 441.
(الصفحة 511)
اُخرى ، فإنّ الظاهر من الموصول في «ما لايعلمون» هو ما كان بنفسـه معروض الوصف وعدم العلم ، كما في غيره من ا لعناوين .
فتخصيص الموصول با لشبهات الموضوعيـة ينافي هذا الظهور ; إذ لايكون الفعل فيها بنفسـه معروضاً للجهل ، وإنّما المعروض لـه هو عنوانـه . وحينئذ يدور الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهـة بحمل الموصول في «ما لايعلم» على الحكم المشتبـه ، وبين حفظـه من جهـة اُخرى ، بحملـه على إرادة الفعل ، ولاريب أنّ الترجيح مع الأوّل بنظر العرف(1) ، انتهى .
أقول:
لايخفى أنّ ذكر الحسد والطيرة والوسوسـة في الخلق لايوجب الاختلاف في الحديث بعد كونها أيضاً من الأفعال . غايـة الأمر : أنّها من الأفعال القلبيـة ، كما هو واضح .
وأمّا ما أفاده(2) من أنّ الحمل على الشبهات الموضوعيـة يقتضي ارتكاب خلاف الظاهر من جهـة اُخرى ففيـه أوّلاً : منع ذلك ; فإنّ الخمر إذا كان مجهولاً يكون اتصاف شربـه بشرب الخمر مجهولاً حقيقـة ، وليس نسبـة الجهل إليـه با لعرض والتبع ; ضرورة أنّـه مجهول حقيقـة ، وإن كان تعلّق الجهل با لخمر صار
- 1 ـ نهايـة الأفكار 3: 216.
- 2 ـ لايخفى عدم انطباق الجواب على كلامـه; لأنّ مراده ظهور فقرة «ما لايعلمون» في كون متعلّق الجهل هو نفس الفعل بما هو، لا عنوانـه الذي هو الخمر، فمراده ظهورها في تعلّق الجهل، لابعنوان الخمريـة، بل بنفس الفعل.
- ولكن يرد عليـه الغفلـة عن ظهور الموصول في كونـه متعلّقاً للحكم، ولابدّ من تعلّق الجهل بهذه الجهـة، ومن المعلوم أنّ متعلّق الحكم هو العنوان، فلابدّ من كون العنوان مجهولاً، ولا وجـه لدعوى الظهور في متعلّق الجهل بنفس الفعل، مع قطع النظر عن العنوان، كما لايخفى.