(الصفحة 500)
ا لآيـة فيـه ممنوعـة ، والذي يدفع الإشكال : أنّ ظاهر الآيـة ـ بقرينـة ما قبلها وما بعدها ـ ينافي الحمل على التكليف ، وكونها بمنزلـة كبرى كلّيـة لايوجب شمولها للتكليف ، بل الظاهر أنّ مفادها هو مفاد قولـه تعا لى :
(لا يُكَلِّفُ اللّـهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها)(1) ، فلامجال للاستدلال بها على المقام ، كما لايخفى .
الدليل الثاني: الأخبار
منها:
حديث الرفع(2) ; حيث عدّ فيـه
«ما لايعلمون» من جملـة التسعـة ا لمرفوعـة . وتحقيق الكلام في مفاد الحديث الشريف يتمّ برسم اُمور :
الأمر الأوّل: في معنى الرفع
فنقول : ذكر المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات ـ أنّ الرفع في الحديث بمعنى الدفع ، ولايلزم من ذلك مجاز ، ولايحتاج إلى عنايـة أصلاً ، قال في توضيحـه ما ملخّصـه : إنّ استعمال الرفع وكذا الدفع لايصحّ إلاّ بعد تحقّق مقتضى الوجود ; بحيث لو لم يرد الرفع وكذا الدفع على الشيء لكان موجوداً في وعائـه المناسب لـه ; لوضوح أنّ كلاّ منهما لايرد على ما يكون معدوماً في حدّ ذاتـه لا وجود لـه ولا اقتضاء الوجود ، ويفترق الرفع عن الدفع بأنّ استعمال الرفع إنّما يكون غا لباً في المورد الذي فرض وجوده في الزمان السابق أو في المرتبـة السابقـة ، والدفع يستعمل غا لباً في المورد الذي فرض ثبوت المقتضي بوجود
- 1 ـ البقرة (2): 286.
- 2 ـ التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
(الصفحة 501)
شيء قبل إشغا لـه لصفحـة الوجود ، فيكون الرفع مانعاً عن استمرار الوجود ، والدفع مانعاً عن تأثير المقتضي .
ولكن هذا المقدار من الفرق لايمنع عن صحّـة استعمال الرفع بدل الدفع على وجـه الحقيقـة ، فإنّ الرفع في الحقيقـة يدفع المقتضي عن التأثير في الزمان اللاحق أو في المرتبـة اللاحقـة ; لأنّ بقاء الشيء كحدوثـه يحتاج إلى علّـة البقاء . فا لرفع في مرتبـة وروده على الشيء إنّما يكون دفعاً حقيقـة باعتبار علّـة البقاء ، وإن كان رفعاً باعتبار الوجود السابق . فاستعمال الرفع في مقام الدفع لايحتاج إلى رعايـة علاقـة المجاز أصلاً(1) ، انتهى .
وأنت خبير بما فيـه;
لأنّ صدق عنوان الدفع على مورد الرفع باعتبار كونـه دافعاً عن تأثير المقتضى في الزمان اللاحق أو المرتبـة اللاحقـة لايوجب اتحاد الاعتبارين ووحدة العنوانين في عا لم المفهوميـة ، فإنّ اعتبار الرفع إنّما هو إزا لـة الشيء الموجود في زمان أو مرتبـة عن صفحـة الوجود ، واعتبار الدفع إنّما هو المنع عن تأثير العلّـة المبقيـة في الآن اللاحق ، وصدق عنوان الدفع على محلّ الرفع باعتباره لايوجب اتحاد الاعتبارين .
ألا ترى أنّ صدق عنوان الضاحك دائماً على مورد يصدق عليـه الإنسان لايقتضي اتحاد معنى الضاحك والإنسان ، وإن كان التصادق دائمياً ، فضلاً عن المقام الذي لايكون النسبـة إلاّ العموم والخصوص ، لا التساوي ، كما هو واضح .
وبالجملـة:
تصادق العنوانين في الوجود الخارجي ـ مطلقاً أو في الجملـة ـ أمر ، واتحادهما في عا لم المفهوميـة أمر آخر . وحينئذ فمع اعترافـه بتغاير الاعتبارين لا مجال لدعوى صحّـة استعمال أحدهما مكان الآخر بلا
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 336 ـ 337.
(الصفحة 502)
احتياج إلى رعايـة العلاقـة والعنايـة ، كما اعترف بذلك في مبحث الاشتغال ; حيث قال : إنّ استعمال الرفع مكان الدفع أو با لعكس إنّما هو بضرب من العنايـة والتجوّز(1) .
والتحقيق في المقام أن يقال:
إنّ الرفع في الحديث الشريف قد اُسند إلى نفس الأفعال التي يتعلّق بها التكليف ، ولم يكن مسنداً إلى نفس الحكم ، حتّى يحتاج إلى دعوى كون المراد من الرفع هو الدفع ، فإنّ الرفع قد اُسند إلى نفس الخطأ والنسيان ونظائرهما . نعم ، لا ننكر أنّ هذا الإسناد يحتاج إلى ادعاء أنّـه إذا كانت تلك الاُمور ممّا لايترتّب على فعلها المؤاخذة ، أو أظهر آثارها أو جميعها فكأنّها لاتكون متحقّقـة في صفحـة الوجود .
وبالجملـة:
فا لرفع قد استعمل في الحديث بمعناه الحقيقي ، وهي إزا لـة الشيء بعد وجوده ; لأنّـه قد نسب إلى العناوين المتحقّقـة في الخارج ، وهي موجودة ثابتـة ، وإسناد الرفع إليها إنّما هو بأحد الوجوه المحتملـة . هذا ، ولو قلنا بأنّ التقدير هو رفع الأحكام والآثار المترتّبـة على تلك العناوين فيمكن أن يقال بأنّ الرفع حينئذ أيضاً قد استعمل في معناه الحقيقي ، وهو إزا لـة الحكم بعد ثبوتـه ; لأنّ أدلّـة الأحكام شاملـة با لعموم أو الإطلاق صورة الخطأ والنسيان والاضطرار والإكراه والجهل ، فا لرفع إنّما يتعلّق بتلك الأحكام في خصوص تلك الصور ، فهو بمعنى إزا لـة الحكم الثابت بالإرادة الاستعما ليـة في تلك الموارد ، وإن كان بحسب الإرادة الجدّيـة دفعاً حقيقـة .
كما أنّ التخصيص إنّما يكون تخصيصاً با لنسبـة إلى الإرادة الاستعما ليـة الشاملـة لمورد التخصيص . وأمّا با لنظر إلى الإرادة الجدّيـة المقصورة على غيره
(الصفحة 503)
فيكون في الحقيقـة تخصّصاً ، كما أنّ النسخ إنّما يكون نسخاً باعتبار ظهور الحكم في الاستمرار ، وإلاّ ففي الحقيقـة لايكون نسخاً ; لأنّ مورده إنّما هو ما إذا انتهى أمد الحكم ، وإلاّ فلايجوز ، بل يستحيل .
وبالجملـة:
فاستعمال الرفع والتخصيص والنسخ إنّما هو باعتبار شمول الحكم المجعول قاعدة وقانوناً لموارد هذه الاُمور ، وإلاّ ففي الحقيقـة لايكون هنا رفع وتخصيص ونسخ ، بل دفع وتخصّص وانتهاء أمد . فظهر صحّـة استعمال الرفع في المقام على كلا التقديرين ; وهما تقدير إسناده إلى نفس العناوين ، كما هو الظاهر ، وتقدير إسناده إلى الأحكام المترتّبـة عليها ، كما لايخفى .
الأمر الثاني: في متعلّق الرفع
قد عرفت أنّ ظاهر الحديث إنّما هو إسناد الرفع إلى نفس تلك العناوين المذكورة فيـه ، ومن الواضح أنّ ذلك يحتاج إلى تقدير ; صوناً لكلام الحكيم من اللغويـة ; إذ لايمكن الحمل على ظاهره . وحينئذ فنقول : إنّـه قد وقع البحث في تعيين ما هو المقدّر ، فقيل : هي المؤاخذة ، وقيل : هو أظهر الآثار ، وقيل : هو جميع الآثار .
هذا، وذكر المحقّق النائيني
ـ على ما في التقريرات ـ أنّـه لا حاجـة إلى التقدير أصلاً ، فإنّ التقدير إنّما يحتاج إليـه إذا توقّف تصحيح الكلام عليـه ، كما إذا كان الكلام إخباراً عن أمر خارجي ، أو كان الرفع رفعاً تكوينياً ، وأمّا إذا كان الرفع رفعاً تشريعياً فا لكلام يصحّ بلا تقدير ، فإنّ الرفع التشريعي كا لنفي التشريعي ليس إخباراً عن أمر واقع ، بل إنشاء الحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع
(الصفحة 504)
وا لنفي(1) ، انتهى ملخّصاً .
وأنت خبير بما فيـه،
أمّا أوّلاً : فلأنّ ما ذكره من أنّ الرفع في الحديث إنّما هو رفع تشريعي ممنوع ، فإنّ الحديث يتضمّن إخبار النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عن مرفوعيـة تلك الاُمور في الواقع ; ضرورة أنّ التشريع لايكون إلاّ شأناً لـه ـ تبارك وتعا لى ـ ، والنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكذا الأئمّـة (عليهم السلام) إنّما يخبرون با لحكم الذي شرع في الواقع ، كا لمفتي الذي يفتي بالأحكام . غايـة الأمر أنّهم عا لمون بالأحكام الواقعيـة ، بخلاف المفتي . وبا لجملـة : فا لحديث لايدلّ على الرفع التشريعي أصلاً .
وأمّا ثانياً : فلأنّ الفرق بين الرفع التشريعي وغيره ; من حيث عدم احتياج الأوّل إلى التقدير ، دون الثاني ممّا لايصحّ ، فإنّ كليهما يحتاج إلى تصحيح وادعاء ; لعدم صحّـة إسناده إلى نفس العناوين ، لا تشريعاً ولا تكويناً بلا ادعاء ، كما لايخفى .
والتحقيق أن يقال:
إنّ المصحّح لإسناد الرفع إلى نفس العناوين المذكورة في الحديث إنّما هو كونها بلا أثر أصلاً ; لأنّ تقدير أظهر الآثار ، أو خصوص المؤاخذة يحتاج إلى ادعائين : أحدهما ادعاء كون ذلك الأثر بمنزلـة جميع الآثار المترتّبـة على ذلك الشيء ، ثانيهما ادعاء كون الشيء الذي لم يكن لـه أثر أصلاً ، فهو معدوم ومرفوع . وهذا بخلاف كون المراد رفع جميع الآثار ، فإنّـه لايحتاج إلاّ إلى ادعاء واحد . ومنـه يظهر ترجيحـه على الاحتما لين الأوّلين .
هذا ، ويدلّ على أنّ المراد رفع جميع الآثار روايـة صفوان بن يحيى والبزنطي جميعاً عن أبي الحسن(عليه السلام) في الرجل يستحلف على اليمين ، فحلف با لطلاق والعتاق وصدقـة ما يملك ، أيلزمـه ذلك ؟
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 342 ـ 343.