(الصفحة 391)
إذا أراد القاطع الجمع بينهما ; لأنّ نظره الاستقلالي إلى الواقع المقطوع بـه ، ونظره إلى نفس القطع آليّ ، ولايمكن لـه أن ينظر إليـه في هذا اللحاظ با للحاظ الاستقلالي ، بل يحتاج إلى لحاظ آخر .
وأمّا غير القاطع فيمكنـه أن يلاحظ استقلالاً القطع الذي يكون نظر القاطع إليـه آلياً محضاً ، فهو ينظر استقلالاً إلى القطع الذي يكون طريقاً لقاطعـه ، ولايلزم محال أصلاً . وعلى تقدير لزومـه فلا اختصاص لـه بما إذا اُخذ بنحو تمام الموضوع ; لعدم الفرق بينـه وبين ما إذا اُخذ جزءً لـه .
أخذ القطع بحكم موضوعاً لمثل ذلك الحكم
ثمّ
إنّـه لابأس في أن يؤخذ القطع بحكم موضوعاً تامّاً لمثل ذلك الحكم ، كما إذا قيل : «إذا قطعت بحرمـة شيء فهو ـ أي مقطوع الحرمـة ـ يكون لك حراماً» ، وكذا في أن يؤخذ القطع بموضوع ذي حكم موضوعاً تامّاً لمثل ذلك الحكم ، كما إذا قيل : «مقطوع الخمريـة حرام» ، مع كون الخمر أيضاً بنفسـه حراماً .
وذلك لثبوت التغاير بين متعلّقي الحكمين بنحو العموم من وجـه ; ضرورة أنّ مقطوع الخمريـة قد لايكون خمراً بحسب الواقع ، وكذلك الخمر قد لايتعلّق بـه القطع ، حتّى يصير مقطوعاً . وقد عرفت في مبحث اجتماع الأمر والنهي أنّ الجواز هو مقتضى التحقيق ، ومجرّد الاجتماع في الخارج دائماً بنظر القاطع لايوجب اتحاد المفهومين اللذين هما متعلّقا الأحكام ، لا مصاديقهما ; لأنّ الخارج ظرف سقوط التكليف لا ثبوتـه . ومن هنا يظهر جواز أخذه موضوعاً لنقيض الحكم المقطوع أو حكم المقطوع بـه .
نعم ، لايجوز ذلك إذا اُخذ القطع بنحو الجزئيـة للموضوع ، كما إذا قيل مثلاً :
(الصفحة 392)
«ا لخمر المقطوع حرام» فإنّـه لايجتمع مع ثبوت الحرمـة لنفس الخمر ; لكون التغاير بين المتعلّقين بنحو العموم والخصوص مطلقاً . وقد حقّقنا سابقاً أنّـه لايجوز تعلّق حكمين : أحدهما با لمطلق ، والآخر با لمقيّد ، فراجع .
أخذ القطع بحكم موضوعاً لنفس ذلك الحكم
ثمّ إنّـه لايمكن أن يؤخذ القطع با لحكم موضوعاً با لنسبـة إلى نفس الحكم الذي تعلّق العلم بـه ; للزوم الدور ، كما هو واضح .
وفي تقريرات بحث بعض محقّقي العصر إمكانـه بنحو نتيجـة التقييد ، قال في توضيحـه ما ملخّصـه : إنّ العلم با لحكم لمّا كان من الانقسامات اللاحقـة للحكم فلايمكن فيـه الإطلاق والتقييد اللحاظي ; لاستلزامـه الدور ، كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقـة للمتعلّق باعتبار تعلّق الحكم بـه ، كقصد التعبّد ، أمّا استحا لـة تقييد اللحاظي فواضح ، وأمّا استحا لـة الإطلاق فلأنّـه إذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضاً ; لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكـة .
ولكن الإهمال الثبوتي أيضاً لايعقل ، بل لابدّ إمّا من نتيجـة الإطلاق أو نتيجـة التقييد ، فإنّ الملاك الذي اقتضى تشريع الحكم إمّا أن يكون محفوظاً في كلتي حا لتي الوجود والعدم فلابدّ من نتيجـة الإطلاق ، وإمّا أن يكون محفوظاً في حا لـة العلم فقط فلابدّ من نتيجـة التقييد ، وحيث لم يمكن أن يكون الجعل الأوّلي متكفّلاً لبيان ذلك فلابدّ من جعل آخر يستفاد منـه أحدهما ، وهو المصطلح عليـه بمتمّم الجعل . فاستكشاف كلّ منهما يكون من دليل آخر .
(الصفحة 393)
وقد ادّعى تواتر الأدلّـة على اشتراك الأحكام في حقّ الجاهل والعا لم(1) ، ونحن وإن لم نعثر على تلك الأدلّـة ، سوى بعض أخبار الآحاد التي ذكرها صاحب «ا لحدائق» في مقدّمات كتابــه(2) ، إلاّ أنّ الظاهر قيام الإجماع ، بل الضرورة على ذلك ، ومن هنا كان الجاهل المقصّر معاقباً إجماعاً .
ولكن تلك الأدلّـة قابلـة للتخصيص ، كما قد خصّصت في غير مورد ، كما في مورد الجهر والإخفات والقصر والإتمام ; حيث قام الدليل على اختصاص الحكم با لعا لم . وكما يصحّ أخذ العلم با لحكم شرطاً في ثبوتـه كذلك يصحّ أخذ العلم با لحكم من وجـه خاصّ وسبب خاصّ ، مانعاً عن ثبوت الحكم ، كما في باب القياس ; حيث إنّـه قام الدليل على أنّـه لا عبرة با لعلم با لحكم الحاصل من طريق القياس ، كما في روايـة أبان في مسألـة ديـة أصابع المرأة(3) ، وليس هذا نهي عن العمل با لعلم ، حتّى يقال : إنّ ذلك لايعقل ، بل مرجعـه إلى التصرّف في المعلوم والواقع الذي أمره بيد الشارع .
وبذلك يمكن أن توجّـه مقا لـة الأخباريـين من أنّـه لا عبرة با لعلم الحاصل من غير الكتاب والسنّـة(4) ، بل شيخنا الاُستاذ نفى البعد عن كون الأحكام مقيّدة بما إذا لم يكن المؤدّى إليها مثـل الجفـر والرمل والمنام وغير ذلك من الطرق الغير المتعارفـة(5) ، انتهى .
- 1 ـ فرائد الاُصول 1: 44.
- 2 ـ الحدائق الناضرة 1: 77.
- 3 ـ الكافي 7: 299 / 6، وسائل الشيعـة 29: 352، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء، الباب 44، الحديث 1.
- 4 ـ الفوائد المدنيّـة: 128.
- 5 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 11 ـ 14.
(الصفحة 394)
وفيـه أوّلاً:
أنّ بعض الانقسامات اللاحقـة ممّا لايمكن تقييد الأدلّـة بـه ، ولايمكن فيـه نتيجـة التقييد مثل المقام ، فإنّ أخذ القطع موضوعاً با لنسبـة إلى نفس الحكم الذي تعلّق بـه مستحيل بأيّ وجـه كان .
وكيف يمكن أن يكون الحكم مختصّاً با لعا لم بـه ، مع كونـه من الدور الواضح ؟ فإنّ العلم با لحكم يتوقّف على ثبوتـه با لضرورة ، فلو فرض اختصاصـه با لعا لم ـ ولو بنتيجـة التقييد ـ يصير الحكم متوقّفاً على العلم بـه . وبا لجملـة فلايرتفع إشكال الدور بذلك .
نعم ، يمكن تقييد الأدلّـة ببعض الانقسامات اللاحقـة بدليل آخر ، كقصد التقرّب في العبادات ، بناءً على عدم إمكان التقييد اللحاظي ، ولكنّك عرفت في مبحث التعبّدي والتوصّلي إمكانـه ، فضلاً عن التقييد بدليل آخر .
وأمّا باب الجهر والإخفات ، والقصر والإتمام فلايكون من باب الاختصاص ، فإنّـه يمكن أن يكون عدم وجوب القضاء والإعادة من باب التخفيف والتقبّل ، لا من باب صحّـة العمل ومطابقـة المأتيّ بـه مع المأمور بـه ، كما نفينا البعد عنـه في مثل حديث لا تعاد ، بناءً على عدم اختصاصـه با لسهو(1) .
وثانياً:
أنّ التقييد اللحاظي ـ الذي حكم بأنّـه إذا امتنع امتنع الإطلاق ; لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكـة ـ هل هو مقابل للإطلاق اللحاظي ، أو أنّـه يقابل نفس الإطلاق ، من دون اتصافـه بذلك .
فعلى الأوّل يرد عليـه ـ مضافاً إلى أنّ معنى الإطلاق ، كما حقّقناه في موضعـه هو عبارة عن مجرّد عدم لحاظ التقييد ، ولايحتاج إلى اللحاظ أصلاً(2)ـ
- 1 ـ الفقيـه 1: 225 / 991، وسائل الشيعـة 6: 91، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب29، الحديث 5.
- 2 ـ مناهج الوصول 2: 315.
(الصفحة 395)
أنّ اللحاظين أمران وجوديان ، والتقابل بينهما حينئذ يكون من قبيل تقابل الضدّين ، لا العدم والملكـة .
وعلى الثاني يرد عليـه منع الملازمـة بين امتناع التقييد وامتناع الإطلاق ; لأنّ التقابل بينهما حينئذ وإن كان من قبيل تقابل العدم والملكـة إلاّ أنّ ذلك لايقتضي ثبوت الملازمـة .
وتوضيحـه : أنّ المتعلّق قد لايمكن تقييده ; لقصور فيـه ; بحيث لايكون لـه شأنيـة التقييد أصلاً ، وقد لايمكن ذلك ، لا لقصوره وعدم الشأنيـة ، بل لمنع خارجي ، كلزوم الدور ونحوه . ففي الأوّل لايمكن الإطلاق ; لأنّ ذلك مقتضى تقابل العدم والملكـة في جميع الموارد ، فإنّـه لايقال للجدار أعمى ، ولايقال زيد مطلق بالإطلاق الأفرادي ، وهذا بخلاف الثاني ، كما في المقام ، فإنّ امتناع التقييد ليس لعدم القابليـة لـه ، بل لمنع خارجي ; وهو استلزامـه للدور ، وفي مثلـه يمكن الإطلاق . وحينئذ فلابأس بأن يقال : إنّ دليل اشتراك الأحكام بين العا لم والجاهل هو إطلاقات الكتاب والسنّـة ، ولا احتياج إلى التماس دليل آخر ; ولذا تراهم يتمسّكون بها في كثير من الموارد ، كما لايخفى .
وثالثاً:
أنّ ما ذكره في القياس ممّا لايتمّ ، فإنّ من راجع الأدلّـة الناهيـة عن العمل با لقياس يعرف أنّ المنع عنـه إنّما هو لأجل قصور العقول البشريـة ، وبعدها عن الوصول إلى أحكام اللّـه تعا لى من قبل نفسـه ، وعدم حصول العلم منـه غا لباً ، لا لأجل الفرق بين العلم الحاصل منـه والقطع الحاصل من غيره ، فراجع الأخبار الواردة في هذا الباب ، المذكورة في كتاب القضاء من «ا لوسائل»(1) .
ثمّ
إنّـه حكى عن صاحب «ا لمقالات» أنّـه ذهب إلى إمكان أخذ القطع
- 1 ـ وسائل الشيعـة 27: 35، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6.