(الصفحة 37)
الأمر الرابع
في الواجب المطلق والمشروط
ينقسم الواجب ببعض الاعتبارات إلى واجب مطلق ومشروط ، ولايخفى أنّ الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيّان لا حقيقيّان ، فا لواجب با لنسبـة إلى كلّ قيد إمّا مشروط أو لا ، فا لثاني غير مشروط با لنسبـة إلى ذلك القيد ولو فرض كونـه مشروطاً بالإضافـة إلى غيره .
ثمّ إنّـه ربّما ينسب إلى الشيخ ـ كما في التقريرات المنسوبـة إليـه ـ نفي الواجب المشروط ، وأنّ الشرائط والقيود كلّها راجعـة إلى المادّة لا الهيئـة ; لامتناع تقييد الهيئـة(1) ، كما سيجيء وجهـه .
ولابدّ من التكلّم في مقامين :
الأوّل:
في أنّ القيود هل هي راجعـة في الواقع إلى الهيئـة أو إلى المادّة ؟ أو تكون على قسمين بعضها إلى الاُولى وبعضها إلى الثانيـة .
الثاني:
في أنّ القيود بحسب اللّفظ هل يرجع إلى المادّة أو الهيئـة ؟
في مقام الثبوت وتصوير الواجب المشروط
أمّا المقام الأوّل ، فنقول : إنّـه قد يتعلّق إرادة الإنسان بشيء من دون التقييد بشيء آخر لتماميّتـه في حصول الغرض الباعث على تعلّق الإرادة بها ، مثل العطشان المريد لرفع عطشـه ، فإنّـه لايريد إلاّ مجرّد ذلك من غير نظر إلى أن
- 1 ـ مطارح الأنظار: 46 / السطر 2.
(الصفحة 38)
يكون الماء واقعاً في ظرف كذا أو مع خصوصيـة كذا ، ولا إشكال في كون الإرادة المتعلّقـة بمراده إرادةً مطلقـة ، فلو أمر غلامـه بسقيـه ، يكون السقي واجباً مطلقاً من حيث خصوصيّات الماء أو الظرف الواقع فيـه ونظائرهما .
وقد يتعلّق إرادة الإنسان بشيء مقيّد بأمر كذا بحيث لايحصل غرضـه إلاّ بحصول الشيء مقيّداً ، كما إذا أراد السقي با لماء الخاصّ لترتّب الأثر المقصود عليـه مع الخصوصيـة ، فيأمر با لسقي بذلك الماء ، ولا إشكال أيضاً في كون الإرادة المتعلّقـة بما يحصل بـه غرضـه إرادةً مطلقـة غير مقيّدة بشيء ; إذ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بما يؤثّر في حصول غرضـه ، كيف ومن مقدّماتـه التصديق بفائدة الشيء المراد ، والمفروض أنّ الفائدة مترتّبـة على الشيء المقيّد بوصف كذا .
وقد يتعلّق إرادة الإنسان بشيء من دون التقييد بوصف ولكن لايتمكّن من الأمر بـه مطلقاً ; لمانع فيـه أو في المأمور ، كما إذا أشرف ولده على الغرق والهلاك ، فالإرادة المتعلّقـة بنجاة ولده إرادة مطلقـة غير مقيّدة بشيء ولكن لايمكن لـه الأمر بذلك مطلقاً ; لأنّـه ربّما يكون العبد عاجزاً عن الإتيان با لمأمور بـه ، وربّما يكون المانع من قِبَل نفسـه .
وقد يتعلّق إرادة الإنسان بشيء على فرض حصول شيء آخر ; لأنّ الغرض يترتّب عليـه على ذلك التقدير ، كما إذا أراد ضيافـة صديقـه على فرض مجيئـه إلى منزلـه ، فالإرادة المتعلّقـة با لضيافـة ليست إرادةً مطلقـة ، بل مقيّدة بحصول ذلك الشيء .
ومن جميع ما ذكرنا ظهر:
أنّ القيود بحسب الواقع واللبّ مع قطع النظر عن ظاهر الدليل على قسمين : قسم يتعلّق با لمادّة ، وهو الذي لـه دخل في حصول الغرض المطلوب ، كا لقسم الثاني من الأقسام المتقدّمـة ، وقسم يتعلّق با لهيئـة التي مفادها البعث والتحريك ، كا لقسمين الأخيرين .
(الصفحة 39)في مقام الإثبات وإمكان رجوع القيد إلى الهيئـة
وأمّا المقام الثاني فقد يقال : ـ كما قيل ـ بامتناع رجوع القيود إلى الهيئـة وإن كان بحسب ظاهر اللّفظ راجعاً إليها .
إمّا لأنّ الهيئـة من المعاني الحرفيـة ، وهي غير قابلـة للتقييد .
وإمّا لأنّ الوضع فيها على نحو الوضع العامّ والموضوع لـه الخاصّ ، ومن المعلوم امتناع تقييد الجزئيّات .
وإمّا للزوم التناقض بعد كون المنشأ أوّلاً هو الوجوب مطلقاً ، فتقييده بثبوتـه على تقدير وعدم ثبوتـه على تقدير اُخرى مناقض للمنشأ أوّلاً .
هذا ، ولايخفى ما في هذه الوجوه من النظر بل المنع .
أمّا الوجـه الأوّل:
فيرد عليـه أنّ التقييد أمر واقعي ، غايـة الأمر أنّ المتكلّم لابدّ لـه أن يأتي بالألفاظ طبقاً لـه ; لوضوح أن كلّ لفظ لايحكي إلاّ عن معناه الموضوع لـه ، وقد عرفت في وضع الحروف أنّ القضايا الخبريـة أكثرها يرجع إلى الإخبار عن المعاني الحرفيـة ، فإنّ المعنّى بقول : «زيد قائم» ليس إلاّ الإخبار عن انتساب القيام إليـه ، واتّحاد القائم معـه ، وهذا المعنى لا إشكال في كونـه معنىً حرفيّاً ، كما أنّ القيود الواقعـة في الكلام راجعـة إلى ذلك المعنى الحرفي ، فقولـه : ضربت زيداً يوم الجمعـة ، مثلاً يكون الظرف راجعاً إلى تحقّق الضرب عليـه الذي يكون من المعاني الحرفيـة .
وبا لجملـة فالإخبارات والتقييدات أكثرها مرتبطـة با لمعاني الحرفيـة وراجعـة إليـه ، وقد عرفت أنّ التقييد أمر واقعي لا ارتباط لـه با للّفظ حتّى يحتاج تقييد المعاني الحرفيـة إلى لحاظها ثانياً بالاستقلال ، فيلزم في الجملـة المشتملـة على تقييدات عديدة لحاظ تلك المعاني بقدر القيود ، بل يكون في المثال تحقّق
(الصفحة 40)
ا لضرب في يوم الجمعـة واقعاً ، والمتكلّم لابدّ أن يأتي بالألفاظ على طبق المعاني الواقعيـة ، لا أن يكون لفظ الضرب المأتي بـه أوّلاً مطلقاً ، فيلاحظ تقييده ثانياً ، كما لايخفى .
وأمّا الوجـه الثاني:
فلأنّ التحقيق في وضع الحروف وإن كان ما ذكر إلاّ أ نّـه لا امتناع في تقييد الجزئي أصلاً باعتبار الحالات والعوارض الطارئـة لـه أليس التقييد في قولـه : «أكرم زيداً إن جاءك» راجعاً إلى زيد الذي هو فرد جزئي بناء على ما ذكره من رجوع القيد إلى المادّة دون الهيئـة .
وأمّا الوجـه الثالث:
فبطلانـه أظهر من أن يخفى .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أوّلاً أنّ القيود بحسب الواقع على قسمين ، وثانياً إمكان رجوعها إلى الهيئـة ، فلا وجـه لرفع اليد عمّا هو ظاهر القضيّـة الشرطيـة من توقّف التا لي على المقدّم ، كما لايخفى .
نقل وتحصيل: في ضابط قيود الهيئـة والمادة
ثمّ إنّـه ذكر بعض الأعاظم(قدس سره) في مقام بيان الفرق بين شروط الأمر والوجوب وبين شروط المأمور بـه والواجب أنّ القيود على نحوين :
أحدهما:
ما يتوقّف اتّصاف الفعل بكونـه ذا مصلحـة على حصولـه في الخارج ، كا لزوال والاستطاعـة با لنسبـة إلى الصلاة والحجّ ، فإنّ الصلاة لاتكون ذات مصلحـة إلاّ بعد تحقّق الزوال ، وكذلك الحج بالإضافـة إلى الاستطاعـة ، وأمّا قبل تحقّق هذين القيدين فلايرى المولى مصلحـة في الصلاة والحجّ ، ولهذا يأمر بهما معلّقاً أمره على تحقّق هذين القيدين في الخارج .
ثانيهما:
القيود التي تتوقّف فعليـة المصلحـة وحصولها في الخارج على تحقّقها ، فلا تكاد تحصل تلك المصلحـة في الخارج إلاّ إذا اقترن الفعل بتلك القيود
(الصفحة 41)
وا لشروط ، كا لطهارة والستر والاستقبال ونحوها بالإضافـة إلى الصلاة .
ثمّ قال:
وبلحاظ هذا الفرق بين النحوين من القيود صحّ أن يقال للنحو الأوّل : شروط الأمر والوجوب ، وللنحو الثاني : شروط المأمور بـه والواجب .
ثمّ قال:
ويمكن تقريب كلا النحوين من القيود الشرعيـة ببعض الاُمور الطبيعيّـة العرفيـة .
مثلاً : شرب المسهل قبل أن يعتري الإنسان مرض يستدعيـه لا مصلحـة فيـه تدعو الإنسان إليـه أو الطبيب إلى الأمر بـه مطلقاً . نعم يمكن أن يأمر بـه معلّقاً على الابتلاء با لمرض ، فيقول للإنسان : إذا مرضت با لحمى مثلاً فاشرب المسهل ، فا لمرض يكون شرطاً لتحقّق المصلحـة في شرب المسهل ، وأمّا المنضج فهو شرط فعليـة أثر المسهل ومصلحتـه ، ولهذا يترشّح عليـه أمر غيري من الأمر النفسي المتعلّق با لمسهل ، فيقول الطبيب للمريض : اشرب المنضج أوّلاً ثمّ اشرب المسهل(1) . انتهى كلامـه على ما في التقريرات المنسوبـة إليـه(قدس سره) .
وأنت خبير بأنّ ما ذكره:
من المناط في شرائط الوجوب وشرائط الواجب لايتمّ ، بل مورد للنقض طرداً وعكساً ، فإنّ ما يتوقّف عليـه اتّصاف الفعل بكونـه ذا مصلحـة يمكن أن لايكون قيداً للأمر ، بل للمأمور بـه ، فإنّـه يمكن أن يأمر المولى با لحج عقيب الاستطاعـة ، لا أن يكون أمره مشروطاً بتحقّقها ، غايـة الأمر أ نّـه يلزم أن يكون تحصيلها واجباً ; لأنّ المصلحـة متوقّفـة عليـه ، ولا منافاة بين توقّف المصلحـة على شيء وعدم كون الأمر معلّقاً عليـه ، كما أ نّـه يمكن أن لايكون للقيد دخل في حصول المصلحـة ، ولكن كان الأمر معلّقاً على وجوده ، كما فيما ذكرناه من المثال المتقدّم في القسم الأخير من الأقسام الأربعـة المتقدّمـة ، فإنّ
- 1 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 335 ـ 336.