(الصفحة 424)
ا لأمارة لايكون فعلياً واضحـة الفساد ، فإنّـه لايمكن أن لايكون الحكم فعلياً إلاّ إذا اُخذ في موضوعـه عدم قيام الأمارة على الخلاف ; بحيث يكون قيداً في ذلك ، ومعـه يعود محذور التصويب(1) .
ففيـه:
أنّ المراد با لحكم الإنشائي هو الحكم الذي ينشأه العقلاء المقنّنين للقوانين العرفيـة في اُمورهم الدنيويـة أيضاً ، ثمّ يخصّصونـه ببعض الأفراد ، أو يقيّدونـه ببعض القيود ; ضرورة أنّ العقلاء في جعل القوانين ليسوا بحيث يجعلون القانون بجميع خصوصياتـه ; من حيث القيود أو الشمول ، بل ينشأون الأحكام بنحو العموم أو الإطلاق ، ثمّ يخصّصونـه أو يقيّدونـه .
كيف ، ولو قلنا بأنّ الأحكام الواقعيـة كانت مجعولـة على موضوعاتها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط لم يبق وجـه للتمسّك بالإطلاق عند الشكّ في كون الحكم مقيّداً ، أو في تقيّده بقيد آخر ; إذ مع فرض كون المتكلّم في مقام البيان لابدّ لـه من بيان الحكم المتعلّق با لموضوع بجميع ما اعتبر فيـه ، وعند ذلك لايبقى شكّ في القيد ، ومعـه لايجوز التمسّك بالإطلاق ، كما لايخفى .
أجوبـة الأعلام عن المشكلـة ونقدها
ثمّ إنّـه تفصّى المحقّق المعاصر عن أصل الإشكال ـ على ما في التقريرات ـ بأنّ الموارد التي توهّم وقوع التضادّ بين الأحكام الظاهريـة والواقعيـة على أنحاء ثلاثـة :
أحدها : موارد قيام الطرق والأمارات .
ثانيها : موارد مخا لفـة الاُصول المحرزة .
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 103.
(الصفحة 425)
ثا لثها : موارد تخلّف الاُصول الغير المحرزة ، والتفصّي عن الإشكال يختلف في كلّ منها .
أمّا باب الطرق والأمارات:
فليس المجعول حكماً تكليفياً ، حتّى يتوهّم التضادّ بينـه وبين الحكم الواقعي ، بل المجعول فيها إنّما هو الحجّيـة والوسطيـة في الإثبات ، وهو أمر عقلائي ، وممّا تنا لـه يد الجعل . وحينئذ فليس حال الأمارة المخا لفـة إلاّ كحال العلم المخا لف ، فلايكون في البين إلاّ الحكم الواقعي فقط ; أصاب الطريق الواقع أو أخطأ ، فإنّـه عند الإصابـة يكون المؤدّى هو الحكم الواقعي ، كا لعلم الموافق ، ويوجب تنجيز الواقع ، وعند الخطأ يوجب المعذوريـة وعدم صحّـة المؤاخذة عليـه ، كا لعلم المخا لف ، من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول(1) ، انتهى ملخّصاً . هذا ما أفاده في التفصّي عن الإشكال في خصوص ا لأمارات .
ويرد عليـه أوّلاً:
أنّـه ليس في باب الأمارات والطرق العقلائيـة الإمضائيـة حكم مجعول أصلاً ، لا الحجّيـة ولا الوسطيـة في الإثبات ، ولا الحكم التعبّد بـه ; ضرورة أنّـه ليس فيها إلاّ مجرّد بناء العقلاء عملاً على طبقها ، والمعاملـة معها معاملـة العلم ، من دون أن يكون هنا جعل في البين ، والشارع أيضاً لم يتصرّف فيها ، بل عمل بها ، كما يعمل العقلاء في اُمورهم .
وثانياً:
فلو سلّم الجعل الشرعي فا لمجعول فيها ليس إلاّ إيجاب العمل بالأمارات تعبّداً ، كما يظهر بملاحظـة الروايات الواردة في ذلك ، مثل قولـه(عليه السلام) :
«إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس»(2) ، مشيراً إلى زرارة ، وقولـه(عليه السلام) : «وأمّا
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 105.
- 2 ـ اختيار معرفـة الرجال 1: 347 / 216، وسائل الشيعـة 27: 143، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 19.
(الصفحة 426)
الحوادث الواقعـة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا»(1) ، وقولـه(عليه السلام) :
«عليك بالأسدي»(2) ; يعني أبا بصير ، فإنّـه لو استفيد منها الجعل الشرعي ، واُغمض عن كون جميعها إرشاداً إلى الارتكاز العقلائي فظاهرها وجوب العمل على قول العادل ، لا جعل الحجّيـة والوسطيـة ، كما لايخفى .
وثالثاً
ـ وهو العمدة ـ : أنّـه مع الغمض عن الإيرادين الأوّلين نقول : إنّ ما أفاد من كون المجعول هو الوسطيـة في الإثبات لايجدي في دفع الإشكال ; لما تقدّم في توجيهـه من أنّ مرجع الإشكال إلى استحا لـة اجتماع الإرادة الحتميـة المتعلّقـة بإيجاد شيء ، والإرادة الجائيـة من قبل الحجّيـة الراجعـة إلى الترخيص في المخا لفـة فيما لو أخطأت الأمارة ، وهذا لايندفع بما ذكره ، ولم يكن الإشكال منحصراً بالاجتماع في خصوص الحكمين ، حتّى يندفع بما ذكره من عدم كون المجعول في باب الأمارات هو الحكم .
هذا، وأمّا ما أفاده في باب الاُصول المحرزة فملخّصـه:
أنّ المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّـه الواقع ، وإ لغاء الطرف الآخر ، وجعلـه كا لعدم ، فا لمجعول في الاُصول التنزيليـة ليس أمراً مغايراً للواقع ، بل الجعل الشرعي إنّما تعلّق با لجري العملي على المؤدّى ، على أنّـه هو الواقع ، كما يرشد إليـه قولـه(عليه السلام) في بعض أخبار قاعدة التجاوز
«بلى قد ركعت»(3) ، فإن كان
- 1 ـ إكمال الدين: 484 / 4، وسائل الشيعـة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
- 2 ـ اختيار معرفـة الرجال 1: 400 / 291، وسائل الشيعـة 27: 142، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.
- 3 ـ تهذيب الأحكام 2: 151 / 592، وسائل الشيعـة 6: 317، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 3.
(الصفحة 427)
ا لمؤدّى هو الواقع فهو ، وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محلّـه ، من دون أن يكون قد تعلّق با لمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليـه . وبا لجملـة : المجعول في باب الاُصول هو الهوهويـة العمليـة التي بنى عليها الشيخ في باب الأمارات(1) ، انتهى .
ويرد عليـه أوّلا:
أنّ الجري والبناء العملي والهوهويـة العمليـة ليس أمراً قابلاً للجعل الشرعي ; لأنّـه من الاُمور التكوينيـة الغير القابلـة للجعل ; ضرورة أنّـه فعل للمكلّف ، فإنّـه هو الذي يعمل بمؤدّاها بما أنّـه الواقع . وأمّا قولـه(عليه السلام) :
«بلى قد ركع» فهو يرشد إلى ما ذكرنا من رفع اليد عن الحكم الفعلي ، والاكتفاء بخلوّ المأمور بـه عن بعض الأجزاء .
وثانياً:
أنّـه على تقدير تسليم إمكان تعلّق الجعل الشرعي با لجري العملي فنقول : مَن الذي أوجب على المكلّف ، وأجاز لـه البناء على أنّ المؤدّى هو الواقع ؟ فلا محا لـة يقال في الجواب : إنّ الجاعل والباعث لـه على ذلك هو الشارع المرخّص في العمل على طبق الاُصول ، وحينئذ فيعود الإشكال بأنّـه كيف يجتمع ذلك مع الإرادة الحتميـة المتعلّقـة بفعل المأمور بـه بجميع أجزائـه وشرائطـه ، كما لايخفى .
هذا، وذكر في مقام التفصّي عن الإشكال في الاُصول الغير المحرزة
ـ بعد التفصيل في متمّمات الجعل ـ ما ملخّصـه : أنّ للشكّ في الحكم الواقعي اعتبارين :
أحدهما : كونـه من الحالات والطوارئ اللاحقـة للحكم الواقعي أو موضوعـه ، كحا لتي العلم والظن ، وهو بهذا الاعتبار لايمكن أخذه موضوعاً لحكم يضادّ الحكم الواقعي ; لانحفاظ الحكم الواقعي عنده .
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 110 ـ 111.
(الصفحة 428)
ثانيهما : اعتبار كونـه موجباً للحيرة في الواقع ، وعدم كونـه موصلاً إليـه ومنجّزاً لـه ، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمّماً للجعل ومنجّزاً للواقع ، كما أنّـه يمكن أخذه موضوعاً لما يكون مؤمّناً عن الواقع حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمريـة . فلو كانت مصلحـة الواقع مهمّـة في نظر الشارع كان عليـه جعل المتمّم ، لمصلحـة احترام المؤمن وحفظ نفسـه ، فإنّـه لمّا كان حفظ نفس المؤمن أولى با لرعايـة وأهمّ في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر اقتضى ذلك تشريع حكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشكّ ; حفظاً لدمـه .
وهذا الحكم إنّما يكون في طول الحكم للواقع ، نشأ عن أهمّيـة المصلحـة الواقعيـة ; ولذا كان الخطاب بالاحتياط خطاباً نفسياً ناشئاً عن أهمّيـة مصلحـة الواقع ، فهو واجب نفسي للغير ، لا واجب با لغير ; ولذا كان العقاب على مخا لفـة التكليف بالاحتياط عند تركـه وأدائـه إلى مخا لفـة الحكم الواقعي ، لا على مخا لفـة الواقع ; لقبح العقاب عليـه مع الجهل .
إن قلت:
إنّ مقتضى ذلك صحّـة العقوبـة على مخا لفـة الاحتياط ، صادف الواقع أو خا لفـه ; لكونـه واجباً نفسياً ، وإن كان الغرض من وجوبـه هو الوصلـة إلى الأحكام الواقعيـة ، إلاّ أنّ تخلّف الغرض لايوجب سقوط العقاب . فلو خا لف الاحتياط ، وأقدم على قتل المشتبـه ، وصادف كونـه مهدور الدم كان اللازم استحقاقـه للعقوبـة .
قلت:
فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام ، والذي لايضرّ تخلّفـه هو الأوّل ; لأنّها تكون حكمـة تشريع الأحكام ، وأمّا علّـة الحكم فا لحكم يدور مدارها ، ولايمكن أن يتخلّف عنها ، ولا إشكال أنّ الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علّـة للحكم بالاحتياط ; لأنّ أهمّيـة ذلك أوجب الاحتياط .