(الصفحة 420)
وبهذه المصلحـة السلوكيـة يتدارك ما فات على المكلّف من مصلحـة الواقع بسبب قيام الأمارة على خلافـه(1) ، انتهى ملخّصاً .
وفيـه أوّلاً:
أنّـه لا معنى لسلوك الأمارة وتطرّق الطريق إلاّ العمل على طبق مؤدّاها ، فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعـة مثلاً فسلوك هذه الأمارة وتطرّق الطريق ليس إلاّ الإتيان بصلاة الجمعـة ; إذ التصديق الغير العملي لايصدق عليـه السلوك على طبقها ، بل يتوقّف ذلك على جعل العمل مطابقاً لها ، الذي هو عبارة اُخرى عن الإتيان بمؤدّاها . ومن الواضح أنّ التغاير بين المؤدّى والإتيان بـه ليس إلاّ بالاعتبار ; لتغاير بين الإيجاد والوجود . وحينئذ فلم يبق فرق بين الوجـه الثا لث والوجـه الثاني الذي قامت الضرورة والإجماع على خلافـه .
وثانياً:
أنّ الأمارات الشرعيـة غا لبها ، بل جميعها أمارات عقلائيـة يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم ، ومن الواضح أنّ الأمارات العقلائيـة طرق محضـة ، لا مصلحـة في سلوكها أصلاً ; إذ ليس المقصود بها إلاّ مجرّد الوصول إلى الواقع ، من دون أن يكون في سلوكها مصلحـة ، كما هو واضح لايخفى .
هذا ما يتعلّق با لجواب عن محذور التفويت والإلقاء .
الجواب عن محذور اجتماع المثلين أو الضدّين
وأمّا اجتماع المثلين أو الضدّين أو النقيضين ، فلايخفى أنّـه يمكن توجيهـه بنحو لايرد عليـه ما حقّقناه في مبحث اجتماع الأمر والنهي ، من عدم ثبوت التضادّ بين الأحكام أصلاً ، بأنّـه كيف يجتمع الإرادة الحتميـة من المولى بفعل شيء أو تركـه ، مع جعلـه قول العادل حجّـة ، الراجع إلى الترخيص في الترك أو
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 95 ـ 96.
(الصفحة 421)
ا لفعل ، إذا قام على نفي الوجوب أو الحرمـة .
وبعبارة اُخرى:
معنى كون الشيء واجباً في الواقع أنّـه أراد المولى بالإرادة الحتميـة أن يوجده المكلّف في الخارج ، وبعثـه إليـه با لبعث الفعلي ، ومعنى حجّيـة قول العادل جواز تطبيق العمل على طبق إخباره ومتابعـة قولـه ، فإذا أخبر بعدم وجوب ما يكون واجباً في الواقع فمعنى حجّيـة قولـه يرجع إلى كون المكلّف مرخّصاً في تركـه ، وحينئذ فكيف يجتمع البعث الحتمي إلى الفعل والإرادة الحتميـة مع الترخيص في الترك .
ومن هذا التوجيـه يظهر:
أنّ أكثر الأجوبـة التي أوردها الأعاظم في كتبهم ممّا لايرتبط بالإشكال ; ضرورة أنّ دعوى عدم كون المقام مشتملاً على حكمين ; لأنّ الحجّيـة غير جعل الحكم ، أو دعوى كون الحكم المجعول هو الحكم الطريقي الغير المنافي للحكم الواقعي ، أو غيرهما من الأجوبـة التي سيأتي التعرّض لبعضها ممّا لايرتبط بالإشكال ; لأنّ بعد تسليم تلك الأجوبـة يبقى الإشكال بحا لـه ، كما لايخفى .
والتحقيق في الجواب أن يقال:
إنّـه لا إشكال في كون الأحكام الواقعيـة الفعليـة مجعولـة على جميع المكلّفين ، من دون أن يكون للعلم دخل في فعليتها ; لما عرفت في بعض المباحث السابقـة من أنّ المراد با لحكم الفعلي ليس إلاّ الأحكام التي اُعطيت بيد الإجراء ، وكان المقصود بها أن يأخذها الناس ، ويعملوا بها .
وهذا لا فرق فيـه بين أن يكون المكلّف عا لماً بها أو جاهلاً ، مضافاً إلى أنّ أخذ العلم با لحكم في موضوعـه مستحيل بداهـة .
فالأحكام الفعليـة ثابتـة با لنسبـة إلى جميع المكلّفين ، كما أنّها ثابتـة با لنسبـة إلى القادر والعاجز ، ولا اختصاص لها بخصوص القادر . نعم ، حيث
(الصفحة 422)
يكون الجهل والعجز من الأعذار العقليـة ; لعدم إمكان الانبعاث با لبعث مع الجهل بـه ، أو عدم القدرة على الإتيان با لمبعوث فلا محا لـة لايكون المكلّف معاقباً على المخا لفـة ومذموماً عليها ، وقد حقّقنا في مبحث الترتّب من مباحث الألفاظ أنّ التكليفين باقيان على فعليتهما في صورة التزاحم . غايـة الأمر : أنّ عجز المكلّف صار سبباً لكونـه معذوراً في مخا لفـة أحدهما ; لعدم قدرتـه على امتثا لهما .
نعم ، بينـه وبين المقام فرق ، وهو أنّ مخا لفـة المكلّف في المقام ـ إذا أخطأت الأمارة ـ لا تكون مستندة إلى عذر عقلي ; لأنّـه لو لم تكن الأمارة حجّـة من قبل الشارع لما وقع المكلّف في مخا لفـة الواقع ; لأنّـه كان يعمل بمقتضى الاحتياط الواجب بحكم العقل في موارد العلم الإجما لي . وحينئذ فتكون المخا لفـة مستندة إلى اعتبار الشارع قول العادل ، وأمثا لـه من الأمارات .
وحينئذ فيمكن أن يقال:
بمثل ما مرّ في الجواب عن محذور التفويت والإلقاء من أنّ جعل الشارع واعتباره للأمارات يمكن أن يكون بملاحظـة أنّـه لو لم تكن الأمارة حجّـة من قبل الشارع لكان مقتضى حكم العقل وجوب الاحتياط على الناس ، وحينئذ فيلزم الحرج الشديد ، والاختلال العظيم ، الموجب لرغبـة أكثر الناس عن الشريعـة ، وخروجها عن كونها سمحـة سهلـة ، وذلك يوجب انتفاء المصلحـة العظيمـة ; وهي مصلحـة بقاء الشريعـة .
فاعتبار قول العادل الراجع إلى الترخيص فيما لو أدّى على خلاف الواقع ، وقام على نفي وجوب الواجب الواقعي ليس إلاّ لملاحظـة حفظ الشرع الذي يكون ذا مصلحـة عظيمـة ، فيرخّص في ترك صلاة الجمعـة الواجبـة واقعاً القائمـة على نفي وجوبها الأمارة ، لا لعدم كونها ذا مصلحـة ملزمـة ، بل لرفع اليد عن مصلحتها في مقابل المصلحـة التي هي أقوى منها بمراتب .
فوجوب صلاة الجمعـة وإن كان حكماً فعلياً إلاّ أنّ الشارع يرفع اليد عن
(الصفحة 423)
مثلـه من بعض الأحكام الفعليـة لأجل مصلحـة هي أقوى المصا لح وأتمّها ، فهو نظير من يقطع يده لأجل حفظ نفسـه فيما لو توقّف عليـه ، فقطع اليد وإن لم يكن ذا مصلحـة ـ بل يكون عين المفسدة ـ إلاّ أنّ معارضتـه مع شيء آخر أقوى منـه أوجب الإقدام عليـه ، مع كونـه ذا مفسدة ، كما لايخفى .
ثمّ إنّ ما ذكرنا:
يجري في جميع الأمارات والاُصول ، ولا اختصاص لـه بالأوّل ، فإنّ اعتبار قاعدتي الفراغ والتجاوز ، وإ لغاء الشكّ بعد الوقت ، وعدم وجوب ترتيب الأثر عليـه ، مع أنّ ذلك قد يؤدّي إلى عدم الإتيان با لمأمور بـه ـ بعضاً أو كلاّـ يمكن أن يكون لملاحظـة أنّ تفويض الناس إلى ما يقتضيـه عقولهم من ثبوت الاشتغال إلى أن يعلم الفراغ ربّما يوجب تنفّر الناس وإعراضهم عن أصل الشريعـة ; لعدم تحقّق العلم لهم بإتيان التكا ليف واجدة لجميع ما يعتبر فيها ، إلاّ قليلاً ; ضرورة أنّ أكثرهم في شكّ من ذلك غا لباً . فهذه المصلحـة التي هو أقوى المصا لح أوجبت رفع اليد عن بعض المصا لح الضعيفـة ، وإن كان الحكم على طبقها حكماً فعلياً ، وكان الإتيان بها محبوباً للمولى في نفسها ، كما لايخفى .
فتلخّص من جميع ذلك:
أنّ الحكم الواقعي الفعلي عند قيام الأمارة على خلافـه يخرج عن الفعليـة ، بمعنى أنّ المولى لايريد إجرائـه ، فيصير كالأحكام الإنشائيـة التي لايكون المقصود بها عمل الناس على طبقها ، إلاّ في زمان ظهور دولـة الحقّ بقيام صاحب الأمر(عليه السلام) ، كا لحكم بنجاسـة العامّـة على ما في بعض الروايات .
وأمّا ما أفاده بعض محقّقي العصر
ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ : من أنّـه لايعقل الحكم الإنشائي ، بل الذي يكون في الواقع هو إنشاء الأحكام ، وهو عبارة عن تشريعها وجعلها على موضوعاتها المقدّرة وجودها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط على نهج القضايا الحقيقيـة . ودعوى أنّ الحكم الواقعي في مورد
(الصفحة 424)
ا لأمارة لايكون فعلياً واضحـة الفساد ، فإنّـه لايمكن أن لايكون الحكم فعلياً إلاّ إذا اُخذ في موضوعـه عدم قيام الأمارة على الخلاف ; بحيث يكون قيداً في ذلك ، ومعـه يعود محذور التصويب(1) .
ففيـه:
أنّ المراد با لحكم الإنشائي هو الحكم الذي ينشأه العقلاء المقنّنين للقوانين العرفيـة في اُمورهم الدنيويـة أيضاً ، ثمّ يخصّصونـه ببعض الأفراد ، أو يقيّدونـه ببعض القيود ; ضرورة أنّ العقلاء في جعل القوانين ليسوا بحيث يجعلون القانون بجميع خصوصياتـه ; من حيث القيود أو الشمول ، بل ينشأون الأحكام بنحو العموم أو الإطلاق ، ثمّ يخصّصونـه أو يقيّدونـه .
كيف ، ولو قلنا بأنّ الأحكام الواقعيـة كانت مجعولـة على موضوعاتها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط لم يبق وجـه للتمسّك بالإطلاق عند الشكّ في كون الحكم مقيّداً ، أو في تقيّده بقيد آخر ; إذ مع فرض كون المتكلّم في مقام البيان لابدّ لـه من بيان الحكم المتعلّق با لموضوع بجميع ما اعتبر فيـه ، وعند ذلك لايبقى شكّ في القيد ، ومعـه لايجوز التمسّك بالإطلاق ، كما لايخفى .
أجوبـة الأعلام عن المشكلـة ونقدها
ثمّ إنّـه تفصّى المحقّق المعاصر عن أصل الإشكال ـ على ما في التقريرات ـ بأنّ الموارد التي توهّم وقوع التضادّ بين الأحكام الظاهريـة والواقعيـة على أنحاء ثلاثـة :
أحدها : موارد قيام الطرق والأمارات .
ثانيها : موارد مخا لفـة الاُصول المحرزة .
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 103.