(الصفحة 48)
الأمر الخامس
في الواجب المعلّق والمنجز
ربّما يقسّم الواجب أيضاً ببعض الاعتبارات إلى معلّق ومنَجّز ، ويقال ـ كما في الفصول ـ : إنّ المراد با لمنجّز هو الذي يتعلّق وجوبـه با لمكلّف ، ولايتوقّف حصولـه على أمر غير مقدور لـه ، كا لمعرفـة وبا لمعلّق هو الذي يتعلّق وجوبـه با لمكلّف ويتوقّف حصولـه على أمر غير مقدور لـه كا لحجّ ، فإنّ وجوبـه يتعلّق با لمكلّف من أوّل زمن الاستطاعـة أو خروج الرفقـة ، ويتوقّف فعلـه على مجيء وقتـه ، وهو غيرمقدورلـه .
وا لفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو : أنّ التوقّف هناك للوجوب وهنا للفعل(1) .
ولايخفى:
أنّ الالتزام با لواجب المعلّق إنّما هو للتخلّص عمّا أورد على المشهور في الواجب المشروط من أ نّـه بناء على عدم تحقّق الإرادة قبل حصول الشرط كما هو مذهبـه لم يبق وجـه لسرايـة الإرادة إلى المقدّمات قبل حصولـه فإنّـه حيث تعسّر عليهم رفع هذا الإيراد مع ما رأوا في بعض الموارد من دلالـة بعض الأخبار على وجوب المقدّمات في بعض الواجبات المشروطـة قبل تحقّق شرطها فلذا تمسّكوا بذيل الواجب المعلّق والتزموا بثبوت الوجوب فيـه قبل حصول شرط الواجب بخلاف المشروط .
- 1 ـ الفصول الغرويّـة: 79 / السطر 35.
(الصفحة 49)ما أفاده بعض الأعلام في إنكار الواجب المعلّق
ثمّ إنّـه يظهر من بعضهم إنكار الواجب المعلّق مدّعياً استحا لـة كون الإرادة موجودة قبل المراد(1) .
وأطال الكلام في النقض والإبرام في هذا المقام بعض المحقّقين في تعليقتـه على الكفايـة .
وخلاصـة ما ذكره هناك:
أنّ النفس مع وحدتها ذات منازل ودرجات ، ففي مرتبـة القوّة العاقلـة مثلاً تدرك في الفعل فائدة عائدة إليها ، وفي مرتبـة القوّة الشوقيـة ينبعث لها شوق إلى ذلك الفعل ، فإذا لم يجد مزاحماً ومانعاً ، يخرج ذلك الشوق من حدّ النقصان إلى حدّ الكمال الذي يعبّر عنـه با لقصد والإرادة ، فينبعث من هذا الشوق البا لغ حدّ نصاب الباعثيـة هيجان في مرتبـة القوّة العاملـة المنبثّـة في العضلات ، ومن الواضح أنّ الشوق وإن أمكن تعلّقـه بأمر استقبا لي إلاّ أنّ الإرادة ليس نفس الشوق بأيّـة مرتبـة كان ، بل الشوق البا لغ حدّ النصاب بحيث صارت القوّة الباعثـة باعثةً للفعل ، وحينئذ فلايتخلّف عن انبعاث القوّة العاملة وهيجانها لتحريك العضلات غير ا لمنفكّ عن حركتها ، ولذا قا لوا : إنّ الإرادة هو الجزء الأخير من العلّـة التامّـة لحركـة العضلات(2) .
فمن يقول بإمكان تعلّقها بأمر استقبا لي إن أراد حصول الإرادة التي هي علّـة تامّـة لحركـة العضلات إلاّ أنّ معلولها حصول الحركـة في ظرف كذا ، فهو عين انفكاك العلّـة عن المعلول .
- 1 ـ تشريح الاُصول: 191 / السطر 21.
- 2 ـ شرح المنظومـة، قسم الحكمـة: 294، الحكمـة المتعاليـة 6: 323، الهامش 1.
(الصفحة 50)
وإن أراد أنّ ذات العلّـة ـ وهي الإرادة ـ موجودة من قبل إلاّ أنّ شرط تأثيرها ـ وهو حضور وقت المراد ـ حيث لم يكن موجوداً ما أثّرت العلّـة في حركـة العضلات .
ففيـه : أنّ حضور الوقت إن كان شرطاً في بلوغ الشوق إلى حدّ الكمال المعبّر عنـه بالإرادة ، فهو عين ما قلنا من أنّ حقيقـة الإرادة لا تنفكّ عن الانبعاث ، وإن كان شرطاً في تأثير الشوق البا لغ حدّ الإرادة الموجود من أوّل الأمر ، فهو غير معقول ; لأنّ عدم التأثير مع كون الشوق با لغاً إلى حدّ الباعثيـة لايعقل ; لعدم انفكاك البعث الفعلي عن الانبعاث ، فاجتماع البعث وعدم تحقّق الانبعاث ليس إلاّ كاجتماع المتناقضين .
وأمّا ما ذكر في المتن:
من لزوم تعلّق الإرادة بأمر استقبا لي إذا كان المراد ذا مقدّمات كثيرة ، فإنّ إرادة مقدّماتـه منبعثـة عن إرادة ذيها قطعاً(1) ، فتوضيح الحال فيـه أنّ الشوق إلى المقدّمـة لابدّ من انبعاثـه من الشوق إلى ذيها ، لكن الشوق إلى ذيها لمّا لم يمكن وصولـه إلى حدّ الباعثيـة لتوقّف المراد على مقدّمات ، فلا محا لـة يقف في مرتبتـه إلى أن يمكن الوصول ، وهو بعد طيّ المقدّمات ، فا لشوق با لمقدّمـة لا مانع من بلوغـه إلى حدّ الباعثيـة الفعليـة ، بخلاف الشوق إلى ذيها ، وما هو المسلّم في باب التبعيـة تبعيّـة الشوق للشوق لا تبعيـة الجزء الأخير من العلّـة ، فإنّـه محال ، وإلاّ لزم إمّا انفكاك العلّـة عن المعلول أو تقدّمـه عليها .
هذا كلّـه في الإرادة التكوينيـة .
وأمّا الإرادة التشريعيـة:
فهي عبارة عن إرادة فعل الغير منـه اختياراً وحيث إنّ المشتاق إليـه فعل الغير الصادر باختياره ، فلا محا لـة ليس بنفسـه تحت
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 128 ـ 129.
(الصفحة 51)
اختياره ، بل با لتسبيب إليـه بجعل الداعي إليـه ، وهو البعث نحوه ، فلا محا لـة ينبعث من الشوق إلى فعل الغير اختياراً الشوق إلى البعث نحوه ، فا لشوق المتعلّق بفعل الغير إذا بلغ مبلغاً ينبعث منـه الشوق نحو البعث الفعلي ، كان إرادةً تشريعيـة ، وإلاّ فلا ، ومعـه لايعقل البعث نحو أمر استقبا لي ; إذ لو فرض حصول جميع مقدّماتـه وانقياد المكلّف لأمر المولى ، لما أمكن انبعاثـه نحوه بهذا البعث ، فليس ما سمّيناه بعثاً في الحقيقـة بعثاً ولو إمكاناً .
ثمّ أورد على نفسـه ببعض الإيرادات مع الجواب عنها(1) لا مجال لنقلها .
ولايخفى أ نّـه يرد على ما ذكره في الإرادة التكوينيـة وجوه من الإيراد :
منها:
أنّ ما ذكره من أنّ الإرادة هي المرتبـة الكاملـة من الشوق ، محلّ نظر ، بل منع ; فإنّ الشوق نظير المحبّـة والعشق من الاُمور الانفعا ليـة للنفس والإرادة بمنزلـة القوّة الفاعليـة لها ، ولايعقل أن يبلغ ما يكون من الاُمور الانفعا ليـة إلى مرتبـة الاُمور الفاعليـة ولو بلغ من الكمال ما بلغ ، فإنّ الكمال البا لغ إليـه إنّما هو الكمال في مرتبتـه ، لا انقلاب حقيقتـه إلى حقيقـة اُخرى ، وهذا من الاُمور الواضحـة المحقّقـة في محلّها(2) .
منها
ـ وهي العمدة ـ : أنّ ما ذكره ـ بل اشتهر في الألسن وتكرّر في الكلمات ـ من أنّ الإرادة هي الجزء الأخير من العلّـة التامّـة ليس مبرهناً عليـه ، بل إنّما هو صرف ادّعاء لا دليل عليـه لو لم نقل بكون الوجدان شاهداً وقاضياً بخلافـه ، فإنّـه من الواضح أنّ الإرادة المتعلّقـة با لمراد فيما لو كان غير نفس تحريك العضلات ليست بعينها هي الإرادة المتعلّقـة بتحريك العضلات لأجل
- 1 ـ نهايـة الدرايـة 2: 72 ـ 80.
- 2 ـ الحكمـة المتعاليـة 1: 436 ـ 437، الطلب والإرادة، الإمام الخميني(قدس سره): 109، أنوار الهدايـة 1: 63.
(الصفحة 52)
تحقّق ذلك المراد ، فالإرادة المتعلّقـة بشرب الماء ليست هي نفس الإرادة المتعلّقـة بتحريك العضلات نحو الإناء الواقع فيـه الماء ; لما قد حقّق في محلّـه من عدم إمكان تعلّق إرادة واحدة بمرادين ، وكذا لايجوز تعلّق إرادتين بمراد واحد ; ضرورة أنّ تشخّص الإرادة إنّما هو با لمراد ، كما قرّر في محلّـه(1) .
فإذا ثبتت تعدّد الإرادة، فنقول:
إنّ الإرادة المتعلّقـة بتحريك العضلات هي التي تكون علّةً تامّة لحركتها ، لا لكون الإرادة علّةً لحصول كلّ مراد ، بل لأنّـه حيث تكون القوى مقهورةً للنفس محكومةً با لنسبة إليها ، فلا محا لة لا تتعصّى عن إطاعتها ، كما أ نّـه ربّما يعرض بعض تلك القوى ما يمنعـه عن الانقياد لها ، فربّما تريد تحريكها ومعـه لا تتحرّك لثبوت المزاحم .
وبا لجملـة فالإرادة لا تكون علّةً تامّة با لنسبة إلى كلّ مراد ، بل إنّما تكون كذلك فيما لو كان المراد تحريك قوى النفس مع كونها سليمةً عن الآفة وقابلةً للانقياد عنها ; لما عرفت من عدم التعصّي عنها ، وحينئذ فلو فرض أنّ النفس أراد تحريكها في الاستقبال فهل الانقياد لها يقتضي التحرّك في الحال أو في الاستقبال ؟
والحاصل:
أنّ منشأ الحكم بامتناع تعلّق الإرادة بأمر استقبا لي هو كون الإرادة علّةً تامّة ، وبعدما عرفت من عدم كونها كذلك في جميع الموارد وفي موارد ثبوتها لاينافي كون المراد أمراً استقبا لياً كما عرفت ، لم يبق وجـه لامتناع انفكاك الإرادة عن المراد بعد وضوح إمكان تعلّق الإرادة بما هو كذلك .
منها:
أنّ ما ذكره في مقام الجواب عن المتن من أ نّـه إذا كان المراد ذا مقدّمات كثيرة تكون المقدّمات تابعةً لذيها با لنسبة إلى الشوق لا الإرادة ، فيرد
- 1 ـ الحكمـة المتعاليـة 6: 423 ـ 424.