(الصفحة 166)
ومنـه انقدح فساد ما في الكفايـة من كون المطلوب في باب النواهي هو العدم لا الكفّ(1) ; إذ ليس وجـه استحا لـة تعلّق الطلب بـه كونـه خارجاً عن تحت القدرة والاختيار حتّى يرد بما ذكر فيها ، بل الوجـه فيها أ نّـه ليس بشيء ولا حقيقـة لـه حتّى صار لسببها مطلوباً ومراداً .
في منشأ الفرق بين مُرادَي الأمر والنهي
ثمّ إنّـه لا إشكال عند العقلاء في ثبوت الفرق بين الأوامر والنواهي بكفايـة الإتيان بفرد من الطبيعـة المأمور بها في تحقّق امتثال الأمر المتعلّق بـه وسقوطـه ; لحصول الغرض ، وهو تحقّقها بإيجاد فرد منها في الخارج ، وأ نّـه لايحصل الغرض بتمامـه إلاّ بترك جميع أفراد الطبيعـة المنهي عنها في باب النواهي ، إنّما الإشكال في وجـه الفرق ، فقد يقال بأنّ الحاكم بـه إنّما هو العقل ; نظراً إلى أنّ وجود الطبيعـة إنّما هو بوجود فرد واحد ، وعدمها لايكاد يتحقّق إلاّ بعد انعدام جميع الأفراد(2) .
هذا، ولكن لايخفى:
أنّ هذا الكلام بمعزل عن التحقيق ; فإنّ معنى تحقّق الطبيعـة بوجود فرد ما كون كلّ واحد من الأفراد هو تمام تلك الطبيعـة ، ولاينقص عنها أصلاً ; إذ لو كانت الطبيعـة متحصّصـة بحصص عديدة حسب تعدّد الأفراد ، لكان وجودها في الخارج متوقّفاً على وجود جميع الأفراد ; لكي يتحصّل جميع الحصص ، فوجودها بوجود فرد واحد مساوق لكون كلّ فرد تمام طبيعتـه ، فزيد تمام الإنسان ، وكذا عمرو ، وبكر ، فإذا كان وجود زيد كافياً في وجود حقيقـة
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 182.
- 2 ـ نفس المصدر: 182 ـ 183.
(الصفحة 167)
ا لإنسان فكيف يعقل أن لايكون عدمـه كافياً في عدمها ، وهل هذا إلاّ المناقضـة في القول من غير التفات ؟
وتوهّم أنّ لازم ما ذكر كون طبيعـة واحدة موجودةً ومعدومةً معاً فيما إذا وجد زيد وعدم عمرو ، مع أنّ ذلك غير معقول ، يدفعـه أنّ الطبيعـة إنّما تتكثّر حسب تكثّر الأفراد ، فزيد وعمرو إنسانان لا إنسان واحد ، وحينئذ فلابأس باتّصافها با لوجود من ناحيـة وجود بعض الأفراد وبا لعدم من قِبَل انعدام بعضها الآخر ، كما أ نّـه يتّصف با لبياض والسواد ، وبا لطول والقصر ، وبا لحركـة والسكون ، وبا لقيام والقعود في آن واحد ، وليس ذلك إلاّ لكونـه متكثّراً ومتعدّداً حسب تكثّر الوجودات وتعدّد الأفراد .
فالإنصاف:
أ نّـه لا فرق بين وجود الطبيعـة وعدمها من هذه الحيثيـة في نظر العقل أصلاً ، وكما أنّ وجود بعض الأفراد يكفي في تحصّل الطبيعـة فكذلك عدمـه كاف في انعدامها ، فاستناد الفرق بين الأوامر والنواهي إلى حكم العقل ممّا لا مجال لـه أصلاً ، كما لايخفى ، كما أنّ دعوى كون ذلك مستنداً إلى فهم العرف من الألفاظ بحسب معانيها اللغويـة وحقائقها التي وُضعت تلك الألفاظ بإزائها ممّا لم يعرف لـه وجـه ، كما هو واضح ، فانحصر أن يكون منشأ ذلك حكم العقلاء بذلك من غير ارتباط لـه بباب الألفاظ .
ثمّ إنّ دلالـة النهي على الزجر بعد المخا لفـة أيضاً إنّما هو لكون مدلولـه هو الزجر عن الطبيعـة المتعلّقـة لـه ، لا العدم حتّى يقال بأ نّـه متى تحقّقت المخا لفـة فقد انتقض إلى الوجود ، ولا مجال لبقائـه بعد تحقّق عصيانـه ، بل النهي لأجل كونـه دالاّ على الزجر عن جميع وجودات الطبيعـة ، لا مجال لسقوطـه بمجرّد تحقّق بعض وجوداتـه ، ولا دليل على كون المخا لفـة والعصيان مسقطاً .
نعم لو كان متعلّق النهي هو أوّل الطبيعـة ، فبمجرّد تحقّقـه يسقط ، لا لكون
(الصفحة 168)
ا لمخا لفـة من حيث هي مسقطاً ، بل لأجل أ نّـه لايمكن امتثا لـه فيما بعد أصلاً ; لأنّ المفروض أنّ المبغوض إنّما هو أوّل وجود الطبيعـة ، وقد حصل ، وحينئذ فلو فرض عدم تقييده بذلك ـ كما في أكثر النواهي ـ إذ المتعلّق فيها الطبيعـة بجميع وجوداتها ، فلاوجـه لسقوطـه بعد تحقّقها ببعض وجوداتها ، فا لنهي مع أ نّـه تكليف واحد وحكم فارد لـه عصيانات متعدّدة وإطاعات متكثّرة ، كما لايخفى .
ثمّ إنّـه قد تصدّى بعض من المحقّقين لإثبات بقاء النهي بكون مدلولـه على نحو العموم الاستغراقي ، كما في تقريرات المحقّق النائيني(1) ، أو بكون المجعول هي الملازمـة بين طبيعي الطلب وطبيعي المتعلّق ، كما في حاشيـة بعض المحقّقين في محشّي الكفايـة(2) .
ولكن كلّ ذلك ممّا لا دليل عليـه ، لو لم نقل بثبوت الدليل على خلافـه .
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 395.
- 2 ـ نهايـة الدرايـة 2: 290 ـ 291.
(الصفحة 169)الفصل الثاني
في اجتماع الأمر والنهي
وقبل الخوض في ذكر أدلّـة الطرفين وبيان أدلّـة المختار لابدّ من تقديم اُمور :
الأمر الأوّل: في عنوان المسألـة وتحرير مصبّ النزاع
قد يقال ـ كما قيل ـ بأنّ مورد النزاع في هذا الباب هو اجتماع الأمر والنهي في واحد ، وأنّ المراد با لواحد ليس خصوص الواحد الشخصي بل كلّ ما يكون لـه جهتان ومندرجاً تحت عنوانين ولو كان واحداً جنسياً أو نوعياً ، كا لحركـة الصلاتيـة الكلّيـة المتّحدة مع الحركـة الكلّيـة الغصبيـة .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ الواحد الشخصي لايعقل أن يتعلّق تكليف واحد بـه فضلاً عن تكليفين ; لأنّ الخارج ظرف لسقوط التكليف لا ثبوتـه ، كما هو واضح .
وأمّا الواحد الجنسي أو النوعي : فما كان منـه مثل السجود للّـه والسجود للصنم ، فلاينبغي الارتياب في جواز تعلّق الأمر والنهي بـه ، وما كان منـه مثل الحركـة والسكون الكلّيتين المعنونين بعنوان الصلاتيـة والغصبيـة ، فمع قطع
(الصفحة 170)
ا لنظر عن اتّحادهما في الخارج وتصادقهما على شيء فلاينبغي أيضاً الإشكال في جوازه لأنّ الحركـة ليست جنساً للصلاة أو الغصب ، وأمّا مع ملاحظـة التصادق على وجود واحد والانطباق على الخارج فيرجع الكلام إلى الواحد الشخصي ، كما لايخفى .
وممّا ذكرنا ظهر فساد ما في الكفايـة
(1)، فراجع .
وا لأولى أن يعبّر عن محلّ النزاع بأ نّـه هل يجوز تعلّق الأمر والنهي با لعنوانين المتصادقين على واحد شخصي أو لا ; إذ ـ مضافاً إلى أ نّـه لايرد عليـه شيء ممّا تقدّم ـ يندفع بـه الإشكال المعروف ، وهو أ نّـه يكون البحث في المقام صغرويّاً ، ولازم التعبير بما عبّروه كونـه كبرويّاً ، مع أ نّـه لا إشكال فيـه ولا نزاع ; إذ تضادّ الأحكام الخمسـة بأسرها ممّا لم يناقش فيـه أحد .
وجـه الاندفاع : أ نّـه بناء على هذا التعبير الذي ذكرنا لا إشكال في كون البحث كبرويّاً أصلاً ، كما هو واضح .
الأمر الثاني: في الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي عن العبادة
ا لفرق بين هذه المسأ لـة ومسأ لـة النهي عن العبادة ـ التي سيجيء إن شاء اللّـه تعا لى ـ ذاتي لا خفاء فيـه أصلاً ; لعدم اتّحاد المسأ لتين لا في الموضوع ولا في المحمول ، كما لايخفى .
وكذا لاينبغي الإشكال في كون المسأ لـة اُصوليـة ; إذ هي مندرجـة تحت ضابطـة مسائل علم الاُصول .
وما ذكره في الكفايـة من إمكان كونهما من مسائل علم الكلام أو من
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 183 ـ 184.