(الصفحة 309)
من المقارنات التي لايضرّ عدمها ، ولاينفع وجودها ، كما هو واضح ، فينحصر العلم المنجّز بما يكون معلومـه من أوّل الأمر مردّداً بين الأقلّ والأكثر ، وهو مجرى البراءة .
نعم ، في المثال الذي ذكره يجب الاحتياط ، لا لتعلّق العلم بذلك العنوان ; لوجوبـه في شبهاتـه البدويّـة أيضاً على ما ذكروه في مبحث البراءة من أنّ جريان الأصل في الشبهات الموضوعيـة مشروط بأن لايكون قادراً على إحراز الواقع بمجرّد أدنى تفحّص ، فإذا شكّ في أ نّـه مديون لزيد ، فلايجوز لـه إجراء البراءة بعد العلم بأ نّـه بمراجعـة الدفتر يظهر لـه الحال .
نعم عمّموا جريانها في بعض الشبهات الموضوعيـة ، كا لشبهـة من حيث النجاسـة ; لورود النصّ فيها .
وكيف كان فما ذكره من وجوب الاحتياط في القسم الثاني من جهـة العلم الإجما لي ممّا لايتمّ أصلاً ، كما عرفت ، فبقي الإشكال على حا لـه .
نعم ، ما ذكره جواباً على ذيل الإشكال الراجع إلى منع كون دائرة العلم أوسع ممّا بأيدينا من الكتب والجوامع ، ممّا لايبعد الالتزام بـه ، كما أنّ صاحب المقالات أجاب عنـه بمثل ما ذكره حيث ذكر أنّ بعد الفحص وعدم الظفر با لمعارض يستكشف خروج هذا المورد عن دائرة العلم ; لأنّ أطرافـه هي المعارضات التي لو تفحّص عنها لظفر بـه ، فعدم الظفر يكشف عن خروجـه عن أطراف العلم .
جواب آخر عن انحلال العلم الإجمالي
وأمّا ما أجاب بـه عن الانحلال ممّا هذه عبارتـه : إنّ مقدار المعلوم كمّاً وإن كان بالأخرة معلوماً بحيث ينتهي الزائد منـه إلى الشكّ البدوي ، ولكن هذا المقدار
(الصفحة 310)
إذا كان مردّداً بين محتملات متبائنات منتشرات في أبواب الفقـه من أوّلـه إلى آخره ، يصير جميع الشكوك في تمام الأبواب طرف هذا العلم ، فيمنع عن الأخذ بـه قبل فحصـه ، وفي هذه الصورة لايفيد الظفر با لمعارض بمقدار المعلوم ; إذ مثل هذا العلم الحاصل جديداً بكون المعلوم بالإجمال في غير هذه الشكوك الباقيـة التي كانت ظرفاً من الأوّل للاحتمال في المتبائنات نظير العلوم الحاصلـة بعد العلم الإجما لي غير قابلـة للانحلال ، فقهراً الاحتمال القائم في المورد الموجب لكونـه من الأوّل طرفاً للعلم منجّز للواقع بمقدار استعداده ، فلا محيص أن يفحص كي يعدم ظفره با لمخصّص بكشف خروجـه عن دائرة العلم المزبور من الأوّل ، وهذه الجهـة هي النكتـة في أخذ هذا القيد في دائرة العلم ، وإلاّ فيلزم عدم الاكتفاء با لفحص ولو ظفرنا بمقدار المعلوم فضلاً عمّا لو لم نظفر كما هو ظاهر(1) . انتهى .
فيرد عليـه:
أ نّـه إذا ظفرنا بعد التفحّص با لمخصّصات المنتشرة في أبواب الفقـه بمقدار المعلوم يقيناً ، فلا وجـه لعدم انحلال العلم الإجما لي بسبب ذلك ; لأنّـه يصير كا لعلم تفصيلاً بنجاسـة أحد من الإناءين اللذين علم بنجاسـة أحدهما إجمالاً ; إذ بعده يصير الإناء الآخر مشكوك النجاسـة التي هي مجرى قاعدة الطهارة ; لكون الشكّ في نجاستـه شكّاً بدويّاً .
نعم لو علم تفصيلاً بنجاسـة حادثـة غير النجاسـة المعلومـة بالإجمال ، لايرتفع أثر العلم الإجما لي با لنسبـة إلى الطرف الآخر بذلك ، ولكنّ المقام من قبيل الصورة الاُولى كما هو واضح .
هذا ، وأمّا إذا ظفرنا بعد التفحّص بمقدار المعلوم إجمالاً في بعض الأبواب
- 1 ـ مقالات الاُصول 1: 455 ـ 456.
(الصفحة 311)
فقط ، فلا محا لـة يكشف ذلك إمّا عن بطلان العلم بالانتشار في جميع الأبواب الذي أوجب الفحص في الجميع ، وإمّا عن كون مقدار المعلوم بالإجمال أزيد ممّا ظفرنا بـه من المخصّصات ; إذ مع اجتماع العلم بالانتشار والعلم بذلك المقدار يمتنع الظفر بـه في خصوص بعض الأبواب ، فإذا بطل الأوّل ، فلايبقى مجال للفحص في الزائد عنـه ، وإذا بطل الثاني بحدوث علم آخر ، فيقع الإشكال في الزائد عن ذلك المقدار الذي لابدّ أن يكون مقداراً معيّناً ; إذ حينئذ يصير الشكّ في الزائد شكّاً بدويّاً ، فتدبّر جيّداً .
فالإنصاف أنّ هذا الجواب نظير سابقـه في الضعف .
ثمّ إنّ مقدار الفحص اللاّزم ـ بناء على الاستدلال عليـه بما ذكره في الكفايـة(1) واخترناه تبعاً لها ـ هو الفحص بمقدار يخرج معـه العامّ عن معرضيـة ا لتخصيص با ليأس عن الظفر بـه ، وأمّا بناء على الاستدلال با لعلم الإجما لي ، فا لمقدار اللازم منـه هو الذي خرج معـه المورد عن أطرافـه ، كما لايخفى .
(الصفحة 312)الفصل الرابع
في عموم الخطابات الشفاهيّـة لغير الحاضرين
هل الخطابات الشفاهيـة تختصّ با لموجودين في زمن الخطاب بل الحاضرين مجلس التخاطب ، أو يعمّ المعدومين فضلاً عن الغائبين عنـه ؟
ولايخفى عدم اختصاص النزاع بما يتضمّن خطاباً ، بل يجري في جميع الأحكام الموضوعـة على العناوين الكلّيـة ولو لم يكن بلسان الخطاب ، مثل قولـه تعا لى :
(وللّـه على الناس حجّ البيت من استطاع إليـه سبيلاً)(1) لجريان ا لملاك فيـه أيضاً ، كما سيأتي .
تقرير محلّ النزاع
ثمّ إنّـه لابدّ قبل الخوض في تحقيق المقام من بيان ما يمكن أن يكون محلاّ للبحث بين الأعلام ، فنقول : ذكر في الكفايـة أ نّـه يمكن أن يكون النزاع في صحّـة تعلّق التكليف با لمعدومين أو في صحّـة المخاطبـة معهم أو في صيرورة
(الصفحة 313)
عموم المتعلّق قرينـة على التصرّف في أدوات الخطاب والعكس ، فا لنزاع على الأوّلين عقلي ، وعلى الأخير لغوي(1) .
أقول:
أمّا النزاع على الوجهين الأوّلين : فلايعقل وقوعـه بين الأعلام بعد وضوح استحا لـة بعث المعدوم أو زجره ، وكذا توجيـه الخطاب إليـه .
وأمّا
النزاع على الوجـه الأخير الذي يرجع إلى أمر لغوي ، فهو مستبعد جدّاً ; لأنّ الظاهر كون النزاع بينهم إنّما هو في أمر عقلي .
والحقّ أن يقال:
إنّ النزاع إنّما هو(2) في أنّ شمول الخطابات القرآنيّـة وا لأحكام المتعلّقـة با لعناوين الكلّيـة الواردة فيها للمعدومين هل يستلزم تعلّق التكليف بهم والمخاطبـة معهم الممتنع عقلاً بداهةً ، أو لايستلزم ذلك الأمر المستحيل ؟ فا لنزاع إنّما هو في الملازمـة بين الأمرين التي هي أمر عقلي .
وا لتحقيق عدم الاستلزام ; لأنّ تلك الأحكام موضوعـة على المكلّفين بنحو
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 266.
- 2 لايخفى أنّ المراد من هذه العبارة هو عدم اختصاص تلك الخطابات والأحكام بالموجودين حال التخاطب، لاشمولها للمعدومين في حال العدم أيضاً، كما أنّ جعل النزاع في هذا المعنى إنّما هو بملاحظـة أنّ ما يمكن أن يكون نزاعاً معقولا في هذا المقام وينبغي البحث فيـه هو ما ذكرنا وإلاّ فظاهر بعض الاستدلالات هو كون النزاع في صحـة تكليف المعدوم ومخاطبتـه في حال العدم، كما حكاه في الفصول(أ) عن بعض الحنابلـة من القول بذلك، استدلالا بقولـه تعالى: (إنّما أمرهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ لهُ كُنْ فيكون) (ب) فإنّ ظاهره الخطاب إلى المعدوم، وأمره بالكون، فيستفاد منـه الجواز مطلقاً.
أ ـ الفصول الغرويّـة: 179 / السطر 38.
ب ـ يس (36): 82.