(الصفحة 39)في مقام الإثبات وإمكان رجوع القيد إلى الهيئـة
وأمّا المقام الثاني فقد يقال : ـ كما قيل ـ بامتناع رجوع القيود إلى الهيئـة وإن كان بحسب ظاهر اللّفظ راجعاً إليها .
إمّا لأنّ الهيئـة من المعاني الحرفيـة ، وهي غير قابلـة للتقييد .
وإمّا لأنّ الوضع فيها على نحو الوضع العامّ والموضوع لـه الخاصّ ، ومن المعلوم امتناع تقييد الجزئيّات .
وإمّا للزوم التناقض بعد كون المنشأ أوّلاً هو الوجوب مطلقاً ، فتقييده بثبوتـه على تقدير وعدم ثبوتـه على تقدير اُخرى مناقض للمنشأ أوّلاً .
هذا ، ولايخفى ما في هذه الوجوه من النظر بل المنع .
أمّا الوجـه الأوّل:
فيرد عليـه أنّ التقييد أمر واقعي ، غايـة الأمر أنّ المتكلّم لابدّ لـه أن يأتي بالألفاظ طبقاً لـه ; لوضوح أن كلّ لفظ لايحكي إلاّ عن معناه الموضوع لـه ، وقد عرفت في وضع الحروف أنّ القضايا الخبريـة أكثرها يرجع إلى الإخبار عن المعاني الحرفيـة ، فإنّ المعنّى بقول : «زيد قائم» ليس إلاّ الإخبار عن انتساب القيام إليـه ، واتّحاد القائم معـه ، وهذا المعنى لا إشكال في كونـه معنىً حرفيّاً ، كما أنّ القيود الواقعـة في الكلام راجعـة إلى ذلك المعنى الحرفي ، فقولـه : ضربت زيداً يوم الجمعـة ، مثلاً يكون الظرف راجعاً إلى تحقّق الضرب عليـه الذي يكون من المعاني الحرفيـة .
وبا لجملـة فالإخبارات والتقييدات أكثرها مرتبطـة با لمعاني الحرفيـة وراجعـة إليـه ، وقد عرفت أنّ التقييد أمر واقعي لا ارتباط لـه با للّفظ حتّى يحتاج تقييد المعاني الحرفيـة إلى لحاظها ثانياً بالاستقلال ، فيلزم في الجملـة المشتملـة على تقييدات عديدة لحاظ تلك المعاني بقدر القيود ، بل يكون في المثال تحقّق
(الصفحة 40)
ا لضرب في يوم الجمعـة واقعاً ، والمتكلّم لابدّ أن يأتي بالألفاظ على طبق المعاني الواقعيـة ، لا أن يكون لفظ الضرب المأتي بـه أوّلاً مطلقاً ، فيلاحظ تقييده ثانياً ، كما لايخفى .
وأمّا الوجـه الثاني:
فلأنّ التحقيق في وضع الحروف وإن كان ما ذكر إلاّ أ نّـه لا امتناع في تقييد الجزئي أصلاً باعتبار الحالات والعوارض الطارئـة لـه أليس التقييد في قولـه : «أكرم زيداً إن جاءك» راجعاً إلى زيد الذي هو فرد جزئي بناء على ما ذكره من رجوع القيد إلى المادّة دون الهيئـة .
وأمّا الوجـه الثالث:
فبطلانـه أظهر من أن يخفى .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أوّلاً أنّ القيود بحسب الواقع على قسمين ، وثانياً إمكان رجوعها إلى الهيئـة ، فلا وجـه لرفع اليد عمّا هو ظاهر القضيّـة الشرطيـة من توقّف التا لي على المقدّم ، كما لايخفى .
نقل وتحصيل: في ضابط قيود الهيئـة والمادة
ثمّ إنّـه ذكر بعض الأعاظم(قدس سره) في مقام بيان الفرق بين شروط الأمر والوجوب وبين شروط المأمور بـه والواجب أنّ القيود على نحوين :
أحدهما:
ما يتوقّف اتّصاف الفعل بكونـه ذا مصلحـة على حصولـه في الخارج ، كا لزوال والاستطاعـة با لنسبـة إلى الصلاة والحجّ ، فإنّ الصلاة لاتكون ذات مصلحـة إلاّ بعد تحقّق الزوال ، وكذلك الحج بالإضافـة إلى الاستطاعـة ، وأمّا قبل تحقّق هذين القيدين فلايرى المولى مصلحـة في الصلاة والحجّ ، ولهذا يأمر بهما معلّقاً أمره على تحقّق هذين القيدين في الخارج .
ثانيهما:
القيود التي تتوقّف فعليـة المصلحـة وحصولها في الخارج على تحقّقها ، فلا تكاد تحصل تلك المصلحـة في الخارج إلاّ إذا اقترن الفعل بتلك القيود
(الصفحة 41)
وا لشروط ، كا لطهارة والستر والاستقبال ونحوها بالإضافـة إلى الصلاة .
ثمّ قال:
وبلحاظ هذا الفرق بين النحوين من القيود صحّ أن يقال للنحو الأوّل : شروط الأمر والوجوب ، وللنحو الثاني : شروط المأمور بـه والواجب .
ثمّ قال:
ويمكن تقريب كلا النحوين من القيود الشرعيـة ببعض الاُمور الطبيعيّـة العرفيـة .
مثلاً : شرب المسهل قبل أن يعتري الإنسان مرض يستدعيـه لا مصلحـة فيـه تدعو الإنسان إليـه أو الطبيب إلى الأمر بـه مطلقاً . نعم يمكن أن يأمر بـه معلّقاً على الابتلاء با لمرض ، فيقول للإنسان : إذا مرضت با لحمى مثلاً فاشرب المسهل ، فا لمرض يكون شرطاً لتحقّق المصلحـة في شرب المسهل ، وأمّا المنضج فهو شرط فعليـة أثر المسهل ومصلحتـه ، ولهذا يترشّح عليـه أمر غيري من الأمر النفسي المتعلّق با لمسهل ، فيقول الطبيب للمريض : اشرب المنضج أوّلاً ثمّ اشرب المسهل(1) . انتهى كلامـه على ما في التقريرات المنسوبـة إليـه(قدس سره) .
وأنت خبير بأنّ ما ذكره:
من المناط في شرائط الوجوب وشرائط الواجب لايتمّ ، بل مورد للنقض طرداً وعكساً ، فإنّ ما يتوقّف عليـه اتّصاف الفعل بكونـه ذا مصلحـة يمكن أن لايكون قيداً للأمر ، بل للمأمور بـه ، فإنّـه يمكن أن يأمر المولى با لحج عقيب الاستطاعـة ، لا أن يكون أمره مشروطاً بتحقّقها ، غايـة الأمر أ نّـه يلزم أن يكون تحصيلها واجباً ; لأنّ المصلحـة متوقّفـة عليـه ، ولا منافاة بين توقّف المصلحـة على شيء وعدم كون الأمر معلّقاً عليـه ، كما أ نّـه يمكن أن لايكون للقيد دخل في حصول المصلحـة ، ولكن كان الأمر معلّقاً على وجوده ، كما فيما ذكرناه من المثال المتقدّم في القسم الأخير من الأقسام الأربعـة المتقدّمـة ، فإنّ
- 1 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 335 ـ 336.
(الصفحة 42)
ترتّب المصلحـة على ضيافـة زيد مثلاً قد لايتوقّف على نزولـه في منزل المضيف ولكن يمكن أن يكون أمره معلّقاً عليـه .
وبا لجملـة فجعل هذا هو الملاك في شرائط الوجوب منقوض طرداً وعكساً ، كما عرفت ، ومنـه يظهر بطلان ما ذكره ملاكاً لشرائط الواجب ، كما لايخفى .
فالمناط فيهما هو ما ذكرناه:
من أنّ شرائط الوجوب عبارة عن القيود التي لايكون لها دخل في تحقّق المراد بمعنى عدم مدخليّتـه في تعلّق الإرادة بـه ، كما أنّ شرائط الواجب هي التي لها مدخليـة في حصول الغرض الباعث على تعلّق الإرادة .
في توقّف فعليّـة الوجوب على شرطـه
ثمّ إنّـه يقع الكلام بعد هذا في أ نّـه هل يكون الواجب المشروط متعلّقاً للإرادة عند حصول شرطـه بمعنى أ نّـه لا إرادة قبل تحقّقـه ، أو أنّ الإرادة تتعلّق بـه فعلاً ولكن على تقدير حصول أمر خاص ؟ ويكون الفرق حينئذ بينـه وبين الواجب المعلّق هو أنّ الوجوب المطلق يتعلّق بأمر خاص في الواجب المعلّق ، والوجوب الخاصّ يتعلّق بأمر مطلق في الواجب المشروط .
ربّما ينسب إلى المشهور الأوّل(1) ، واختار بعض الأعاظم ـ على ما في ا لتقريرات المنسوبـة إليـه ـ الثاني(2) .
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 121، بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 338 / السطر الأخير.
- 2 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 338 / السطر 19.
(الصفحة 43)
ولابدّ قبل الخوض في ذلك من بيان حقيقـة الحكم .
فنقول:
هل الحكم عبارة عن نفس الإرادة التشريعيـة الكامنـة في نفس الحاكم مطلقاً أو بشرط أن يظهرها المريد بأحد المظهرات من القول أو الفعل أو أ نّـه منتزع من البعث أو الزجر اللَّذين هما مفاد هيئـة الأمر والنهي ؟ وجوه ، والظاهر هو الثا لث ; لأنّ مجرّد تعلّق الإرادة التشريعيـة بشيء لايعدّ من باب تعلّق الحكم بـه وإن كانت ربّما يجب متابعتها ، فإنّ وجوب المتابعـة ليس متفرّعاً على خصوص حكم المولى ، بل لو اطّلع العبد على تعلّق إرادة المولى بإتيانـه شيئاً ، فا للازم ـ كما يحكم بـه العقل والعقلاء ـ متابعـة إرادتـه ، بل ربّما يجب تحصيل غرضـه وإن لم تنقدح إرادة متعلّقـة بـه في نفس المولى لغفلتـه أو نومـه أو غيرهما .
ألا ترى أ نّـه لو أشرف ولد المولى مثلاً على الغرق في البحر ولم يكن المولى مطّلعاً عليـه حتى يبعث العبد نحو خلاص ولده ، يكون على العبد ذلك وأن ينجي ولده من الهلاك .
وبا لجملـة ، فوجوب الإتيان عقلاً أعمّ من الحكم ، والذي يطابقـه الوجدان هو أنّ منشأ انتزاع الحكم هو نفس البعث والزجر المتوجّهين إلى العبد ، وحينئذ فلا إشكال في عدم تحقّق الحكم قبل حصول الشرط ; لعدم ثبوت البعث قبلـه ، كما هو واضح .
إذا عرفت ما ذكرنا:
فاعلم أنّ بعض الأعاظم بعد اختياره أنّ الحكم عبارة عن نفس الإرادة التشريعيّـة التي يظهرها المريد با لقول أو الفعل(1) ذهب إلى خلاف ما عليـه المشهور ، وأنّ الإرادة في الواجب المشروط موجودة قبل تحقّق
- 1 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 339 / السطر 2.