(الصفحة 70)
بمعنى أ نّـه لو منعـه المولى من الثواب بعد الإتيان بـه ، عدّ ظا لماً ومورداً لتقبيح العقلاء ، كمن يمنع من أداء حقّ الغير إليـه ، وهذا لا فرق فيـه بين الآتي با لواجب الغيري وتاركـه أصلاً ، فإنّـه كيف يستحقّ العبد على مولاه شيئاً بعدما فرض أ نّـه لم يأت بمطلوبـه النفسي أصلاً ، كما هو واضح .
نعم يكون بينهما فارق لا من حيث الاستحقاق الذي يكون مورد النزاع في المقام ، بل من حيث الممدوحيـة والمذموميّـة عند العقلاء ، فإنّ العبد الذي يأتي بمقدّمات الواجب يستحسنـه العقلاء لكونـه منقاداً للمولى مريداً للإتيان بمطلوباتـه وإطاعـة أوامره ، كما لايخفى .
ومن هنا يظهر:
أ نّـه لا فرق بين ما لو كان العمل متوقّفاً على مقدّمات كثيرة وبين ما لو لم يكن إلاّ متوقّفاً على بعض المقدّمات ، كا لحج با لنسبـة إلى الساكنين في البلاد البعيدة والقريبـة من حيث استحقاق المثوبـة على فعل المقدّمات وعدم الاستحقاق أصلاً .
نعم يمكن أن يقال بازدياد الثواب على نفس العمل فيما لو كان متوقّفاً على مقدّمات كثيرة لا ثبوتـه با لنسبـة إلى المقدّمات ، كما لايخفى .
التنبيـه الثاني: الإشكال في الطهارات الثلاث ودفعـه
ثمّ إنّـه ربّما يستشكل في الطهارات الثلاث بوجهين :
الأوّل:
أ نّـه لاريب في ترتّب الثواب عليها ، وفي كونها عبادةً مع أنّ الأمر الغيري لايكون إلاّ توصّليّاً ولايترتّب على امتثا لـه الثواب(1) .
ويردّه : أ نّـه لو كان المراد بترتّب الثواب عليها استحقاق المكلّف لـه
- 1 ـ مطارح الأنظار: 70 / السطر 18.
(الصفحة 71)
با لمعنى المتقدّم المتنازع فيـه ، فلا نسلّم ثبوتـه فيها بعدما عرفت من أنّ الأمر الغيري لايصلح للداعويّـة ولايكون لـه إطاعـة حتّى يترتّب عليـه الثواب ويستحقّ على تركـه العقاب .
وإن كان المراد بـه جعل الثواب على الطهارات الثلاث ، فلا إشكال فيـه ، ولا اختصاص لـه بها ، بل [لها] نظائر في التوصّليات أيضاً ، مثل ما جعل من الثواب على الذهاب إلى زيارة قبر الحسين(عليه السلام) لكلّ قدم كذا وكذا ، مع أ نّـه لا إشكال في كونـه توصّليّاً .
الثاني
ـ وهو العمدة ـ : أ نّـه لا إشكال في أنّ الطهارات الثلاث قد اعتبرت مقدّمةً للصلاة بنحو العبادية ، وليس حا لها كحال سائر المقدّمات ، كا لستر والاستقبال وغيرهما في أنّ مطلق وجودها في الخارج قد اعتبرت مقدّمـة لها ، وحينئذ فعباديتها مأخوذة في الرتبـة السابقـة على تعلّق الأمر الغيري بها ; إذ لايكاد يتعلّق إلاّ بما يكون مقدّمةً با لحمل الشائع ، والمفروض أنّ مقدّميّتها إنّما هو في حال كونها عبادةً ، وحينئذ فنقول : إن كان المصحّح لعباديتها هو تعلّق الأمر الغيري بها ، فيلزم الدور ; لأنّ تعلّقـه بها متوقّف على كونها مقدّمـة الراجعـة إلى كونها عبادةً ، فلو كانت عباديتها متوقّفـة على تعلّق الأمر الغيري بها يلزم توقّف الشيء على نفسـه ، كما هو واضح ، وإن كان المصحّح لعباديتها هو تعلّق الأمر النفسي بذواتها ، فهو فاسد ; لوجوه ثلاثـة :
الأوّل:
أ نّـه لايتمّ في خصوص التيمّم ; لعدم تعلّق الأمر الاستحبابي النفسي بـه قطعاً .
الثاني:
أ نّـه كيف يمكن اجتماع الأمر الغيري مع الأمر الاستحبابي النفسي على شيء واحد ؟ ! فمع ثبوت الأوّل ـ كما هو المفروض ـ لايبقى مجال للثاني ، كما لايخفى .
(الصفحة 72)
الثالث:
أ نّـه من الواضح أ نّـه يصحّ إتيان الطهارات الثلاث بقصد أمرها الغيري من دون التفات إلى رجحانها النفسي ، بل يكون مغفولاً عنـه با لنسبـة إلى أغلب الناس ، فكيف يكون هو المحقّق لعباديتها ؟ ! كما لايخفى .
وأجاب عن الإشكال بعض الأعاظم
ـ كما في تقريراتـه ـ بما ملخّصـه أ نّـه كما تكون الطهارات الثلاث بوصف عباديتها مقدّمـة للصلاة فكذلك تكون ذواتها مقدّمةً لها أيضاً بمعنى أنّ لها الدخل في إيجاد الصلاة .
وبعبارة اُخرى : الأمر الغيري المتعلّق بها متقرّباً بها إلى اللّـه تعا لى ينبسط على أجزاء متعلّقـه كانبساط الأمر النفسي على أجزاء الواجب ، فينحلّ إلى أوامر غيريـة ضمنيـة ، وحينئذ فتكون ذوات الأفعال في الطهارات الثلاث مأموراً بها بالأمر الضمني من ذلك الأمر الغيري ، وإذا أتى بها بداعي ذلك الأمر الضمني يتحقّق ما هو المقدّمـة ، أعني الأفعال الخارجيـة المتقرّب بها ، وبذلك يسقط الأمر الضمني المتوجّـه إلى القيد بعد فرض كونـه توصّليّاً ; لحصول متعلّقـه قهراً بامتثال الأمر الضمني المتعلّق بذات الفعل(1) . انتهى ملخّصاً .
أقول:
يرد عليـه : أ نّـه كيف يكون الأمر الغيري مصحّحاً للعباديـة ؟ ! بعدما عرفت من أ نّـه لايكون صا لحاً للداعويـة أصلاً ، فإنّـه لايكون الغرض منـه إلاّ مجرّد التوصّل إلى حصول ذي المقدّمـة ، فمتعلّقـه لايكون إلاّ واجباً توصّليّاً ، وعلى تقدير كونـه داعياً فهو إنّما يدعو إلى متعلّقـه ; لحصول المأمور بـه بالأمر النفسي ، ولايكفي ذلك في العباديّـة ، فإشكال لزوم الدور وإن كان يرتفع بما ذكر إلاّ أنّ ما هي العمدة في المقام من الإيراد ـ وهو أ نّـه كيف يكون الأمر الغيري مصحّحاً لعباديـة متعلّقـه ؟ !ـ يبقى على حا لـه .
- 1 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 379.
(الصفحة 73)
ومنـه يظهر بطلان ما ذكره المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات في مقام تصحيح عباديـة الطهارات الثلاث ـ من أنّ المصحّح لها ليس هو الأمر الغيري المتعلّق بها ، ولا الأمر النفسي المتعلّق بذواتها ، بل الأمر النفسي المتعلّق بذي المقدّمـة حيث إنّـه ينبسط على الأجزاء والشرائط ، فا لمصحّح لعباديـة الوضوء ، المشروطـة بـه الصلاة هو المحقّق لعباديـة الفاتحـة التي هي جزء لها(1) .
وجـه البطلان : ما ظهر ممّا تقدّم ، وهو أنّ الأمر الضمني المتعلّق با لجزء أو الشرط لايكفي في عباديتهما أصلاً لو سلّمنا ذلك بعدما كان المقصود منـه حصول المجموع أو المشروط ، كما لايخفى .
التنبيـه الثالث: في منشأ عباديّـة الطهارات
وا لحقّ في المقام أن يقال : إنّ عباديـة الطهارات الثلاث ليست لأجل الأمر الغيري المتعلّق بها ، بل إنّما هو من جهـة قابليتها وصلوحها للعبادة ، كما هو المسلّم من الشرع مع الإتيان بها للّـه وبداعي التقرّب إليـه .
توضيحـه : أ نّـه لايشترط في عباديـة الأشياء تعلّق الأمر النفسي بها ، ولا الأمر الغيري ، بل يكفي في صيرورة شيء عبادةً كونـه صا لحاً لها مع الإتيان بها بداعي التقرّب ، ومن هنا يقال بعدم الفرق بين التيمّم الذي لايكون مورداً لفتوى الأصحاب باستحبابـه النفسي وبين الوضوء والغسل المستحبّين ، كما أفتوا بـه ، فإنّ مجرّد كونـه منطبقاً عليـه بعض العناوين الحسنـة في حال الإتيان بـه مقدّمـة للصلاة يكفي في صلاحيتها للعبادة في ذلك الحال ، ولايشترط تعلّق الأمر بـه أصلاً ، وأمّا في غير ذلك الحال فعدم عباديتـه إمّا لأجل عدم انطباق تلك العناوين
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 228.
(الصفحة 74)
ا لحسنـة عليـه في غير ذلك الحال أو لمزاحمتها من بعض العناوين الغير الحسنـة المخرجـة لـه عن العباديـة ، كما لايخفى .
وا لدليل عليـه ما هو المرتكز في أذهان المتشرّعـة عند الإتيان با لطهارات الثلاث ، فإنّهم لايلتفتون إلى استحبابها النفسي أصلاً .
وما ذكره في الإشكال:
من كفايـة الإتيان بها بداعي الأمر الغيري المتعلّق بها إن اُريد الإتيان بها كا لستر والاستقبال للصلاة بمعنى أ نّـه كما يكفي تحصيل الستر لأجل الصلاة كذلك يكفي مجرّد الإتيان با لوضوء لأجل الصلاة .
ففيـه:
أ نّـه لايكون بينهما فرق حينئذ ، فيكون الوضوء باطلاً ، مضافاً إلى ما نراه من المتشرّعـة من اختلاف نحوي الإتيان با لوضوء وبا لستر عندهم ، فإنّ في حال الإتيان بالأوّل لهم حا لـة اُخرى لا توجد عند الإتيان با لثاني .
فظهر أنّ عباديـة الطهارات الثلاث إنّما هو لكونها صا لحةً للعبادة مع الإتيان بها بداعي القربـة من دون توقّف على الأمر النفسي ولا الغيري أصلاً ، ولذا نقول كما قا لوا : بعباديـة التيمّم في حال الإتيان بـه مقدّمـة للصلاة ، مع أ نّـه لايكون متعلّقاً لأمر نفسي ، كما ذهبوا إليـه ، ولا لأمر غيري ، كما سنحقّقـه من عدم وجوب المقدّمـة ، فانتظر .
ثمّ إنّ بما ذكرناه في تحقيق عباديـة الطهارات الثلاث يرتفع جميع المحذورات المتقدّمـة والإيرادات السابقـة ، فإنّـه لايبقى حينئذ مجال للإشكال في ترتّب الثواب عليها ، فإنّ ترتّبـه عليها ليس لأجل تعلّق الأمر الغيري بها ، بل لكونها مطلوبةً نفساً وعبادةً ذاتاً ، والكلام إنّما هو بعد الفراغ عن ترتّب الثواب على الواجبات النفسيـة ، فلا وجـه حينئذ للإشكال أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
وكذا يرتفع بـه محذور الدور ، فإنّ الأمر الغيري وإن تعلّق بما تكون عبادةً ، إلاّ أنّ عباديتها لا تتوقّف على الأمر الغيري أصلاً ، كما ظهر بما حقّقناه لك .