(الصفحة 236)المقام الأوّل
في دلالة القضيـة الشرطيـة على المفهوم وعدمها
وطريق إثباتها وجهان :
الوجـه الأوّل: ما هو المنسوب إلى القدماء
وهو لايختصّ با لشرط ، بل يجري في جميع القيود المأخوذة في الكلام شرطاً كانت أو وصفاً أو غيرهما .
وغايـة تقريبـه:
أن يقال : إنّ الكلام الصادر من المتكلّم العاقل المختار من حيث إنّـه فعل من الأفعال الاختياريـة لـه يحكم العقل بأ نّـه لم يصدر منـه لغواً ، نظير سائر أفعا لـه ، وكذلك يحكم بأنّ صدوره إنّما هو لغرض التفهيم لا للأغراض الاُخر التي قد يترتّب على التكلّم ، وذلك لأنّها أغراض نادرة لا تقاوم غرض التفهيم الذي وضع الألفاظ إنّما هو لأجل سهولتـه ، كما لايخفى .
وحينئذ فكما أنّ العقل يحكم بأنّ أصل الكلام الصادر من المتكلّم لم يصدر منـه لغواً بل صدر لغرض الإفهام كذلك يحكم بأنّ القيود التي يأخذها في موضوع كلامـه لم يأخذها جزافاً ومن غير أثر مترتّب عليـه ، بل لأنّها لها دخل في موضوع
(الصفحة 237)
ا لحكم ، فمن ذكر تلك القيود يستكشف أنّ الموضوع لحكمـه المجعول أو المخبر بـه إنّما هو ذات الموضوع مقيّداً بها لا معرّى عنها ، ومن عدم ذكر قيد آخر يستكشف عدم مدخليـة شيء آخر أصلاً ، بل المذكور هو تمام الموضوع ، ومن المعلوم أنّ الحكم يدور مدار موضوعـه ، فبوجوده يوجد ، وبعدمـه ينعدم .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ مجرّد إثبات كون المذكور تمام الموضوع لحكمـه المجعول إنّما يفيد دوران ذلك الحكم مداره وجوداً وعدماً ، وهو لايثبت المفهوم ; لأنّـه عبارة عن انتفاء سنخ ذلك الحكم عند انتفاء موضوعـه بمعنى أنّ المولى لم يجعل مثل هذا الحكم على موضوع آخر مغاير لهذا الموضوع من حيث القيود ، فمعنى كون بلوغ الماء قدر الكرّ تمام الموضوع لعدم التنجّس هو أنّ تحقّق ذلك الحكم لايتوقّف على شيء آخر ما عدا ذلك ، وأمّا أنّ كونـه موضوعاً منحصراً لعدم التنجّس بمعنى أ نّـه لم يجعل مثل ذلك الحكم على موضوع آخر ـ كا لجاري وماء المطر ـ فلايستفاد أصلاً حتّى يقع التعارض بين دليل الكرّ وأدلّـة عاصميـة الجاري وماء المطر .
وبا لجملـة ، فهنا شكّان : أحدهما : الشكّ في كون الموضوع المذكور هو تمام الموضوع لحكمـه المجعول ، والآخر الشكّ في كونـه موضوعاً منحصراً لمثل ذلك الحكم بحيث لايقوم مقامـه شيء آخر ، ولاينوب منابـه أمر ، وغايـة الدليل المذكور إنّما هو رفع الشكّ الأوّل ، وإثبات تماميـة الموضوع المذكور للموضوعيّـة للحكم المجعول ، وما يجدي في إثبات المفهوم هو رفع الشكّ الثاني ، ولايرفع بذلك الدليل ، كما هو واضح .
ولعلّـه إلى هذا المعنى ينظر كلام السيّد في باب المفهوم(1) فراجع .
- 1 ـ اُنظر مناهج الوصول 2: 179، الذريعـة إلى اُصول الشريعـة 1: 406.
(الصفحة 238)الوجـه الثاني: ما هو المعروف بين المتأخّرين
وقد استدلّ لإثباتها بوجوه :
الأوّل:
دعوى تبادر العلّيـة المنحصرة من كلمـة «إن» وأخواتها ، ولايخفى أنّ إثبات ذلك موقوف على إثبات دلالـة القضيـة الشرطيـة على الارتباط بين الشرط والجزاء ، ثمّ كون ذلك الارتباط بنحو اللزوم ، ثمّ كون اللزوم بنحو الترتّب ، أي ترتّب الجزاء على الشرط لا العكس ، ولا مجرّد الملازمـة من دون ترتّب ، كما في المعلولين لعلّـة واحدة ، ثمّ كون الترتّب بنحو ترتّب المعلوم على علّتـه ، ثمّ كون تلك العلّـة علّةً مستقلّة ، ثمّ كونها مع الاستقلال منحصرة ، ومن الواضح أنّ إثبات جميع هذه الاُمور في غايـة الإشكال ، بل نقول : إنّ المقدار الذي يصحّح استعمال كلمـة الشرطيـة هو مجرّد الارتباط بين الشرط والجزاء ولو لم يكن ذلك بنحو اللزوم .
ألا ترى أ نّـه يصحّ أن يقال : إذا جاء زيد فمعـه عمرو ، فيما لو كان مصاحباً لـه نوعاً من دون رعايـة علاقـة أصلاً ، كما أ نّـه يستعمل كثيراً في موارد اللزوم وفي المراتب التي بعده .
وكيف كان فالإنصاف أنّ دعوى ذلك خلاف الوجدان .
الثاني:
الانصراف ، وممّا ذكرنا في التبادر يظهر أنّ دعواه أيضاً ممّا لا دليل على إثباتـه .
الثالث:
التمسّك بإطلاق كلمـة «إن» وأخواتها الموضوعـة للّزوم بتقريب أنّ مقدّمات الحكمـة تقتضي الحمل على الفرد الذي لايحتاج إلى مؤونـة التقييد ، وهو هنا اللزوم بنحو العلّيـة المنحصرة ، كما أنّ قضيّـة إطلاق صيغـة الأمر هو الوجوب النفسي .
(الصفحة 239)
ولكن لايخفى أ نّـه لايكون الحكم في المقيس عليـه مسلّماً ، وقد ذكرنا ذلك في مبحث الأوامر .
وحاصلـه : أنّ انقسام الطبيعـة بالأقسام إنّما يتحقّق مع إضافـة القيود إليـه ، سواء كانت وجوديّـة أو عدميّـة ، فبإضافـة كلّ قيد يتحقّق قسم من الطبيعـة ، ولايعقل أن يكون بعض الأقسام عين المقسم ; إذ كونـه قسماً يساوق عدم اجتماعـه مع القسم الآخر أو الأقسام الاُخر ، وكونـه عين المقسم يساوق اتّحاده معها ; لأنّ الطبيعـة اللابشرط يجتمع مع ألف شرط ، ولايعقل اجتماع الوصفين المتناقضين عليـه ، كما هو واضح .
وحينئذ نقول:
إنّ معنى الإطلاق الثابت بمقدّمات الحكمـة هو كون المقصود هي الطبيعـة اللاّبشرط ، ولو فرض عدم إمكان كونها مقصودةً بل كان الغرض متعلّقاً ببعض أقسامها ، فا لحمل على بعض الأقسام دون البعض الآخر مع كونها في عرض واحد ترجيح من دون مرجّح .
نعم ، لو كان بعض الأقسام أقلّ مؤونـة من الآخر ، لوجب الحمل عليـه ، ولكنّـه لايكون في أمثال المقام كذلك ; ضرورة أنّ أقسام اللزوم في عرض واحد ولايعقل أن يكون بعضها عين المقسم ، فتأمّل جيّداً .
الرابع:
التمسّك بإطلاق الشرط بتقريب أ نّـه لو لم يكن بمنحصر ، يلزم تقييده ; ضرورة أ نّـه لو قارنـه أو سبقـه الآخر ، لما أثّر وحده ، ومقتضى إطلاقها أ نّـه يؤثّر كذلك مطلقاً .
وذكر في الكفايـة أ نّـه لايكاد ينكر الدلالـة على المفهوم مع إطلاقـه كذلك إلاّ أ نّـه من المعلوم ندرة تحقّقـه لو لم نقل بعدم اتّفاقـه(1) . انتهى .
(الصفحة 240)
ولكن يظهر جوابـه ممّا تقدّم في جواب إثبات المفهوم من الطريق المنسوب إلى القدماء .
وحاصلـه : أنّ مقتضى الإطلاق هو كون الموضوع المذكور تامّاً من حيث الموضوعيـة لحكمـه المجعول بمعنى أ نّـه لا مدخليـة لشيء آخر أصلاً ، وهذا لايدلّ على المفهوم ; لأنّـه لابدّ في إثباتـه من كون الموضوع المذكور منحصراً في الموضوعيـة ، ومجرّد تماميّتـه لايثبت الانحصار ، كما هو واضح .
الخامس:
التمسّك بإطلاق الشرط بتقريب آخر ، وهو أنّ مقتضى إطلاق الشرط : تعيّنـه ، كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر : تعيّن الوجوب .
ويظهر جوابـه ممّا تقدّم في الجواب عن الوجـه الثا لث .
وحاصلـه : أ نّا لا نسلّم ثبوت الحكم في المقيس عليـه ; لأنّـه لايعقل أن يكون الوجوب التعييني عين طبيعـة الوجوب ، التي هي مقسم لها وللوجوب التخييري ، بل كلّ واحد منهما لا محا لـة يشتمل على قيد وجودي أو عدمي زائد على أصل الطبيعـة ، والإطلاق لايثبت شيئاً منهما .
نعم ، قد ذكرنا في مبحث الأوامر أنّ للمولى الاحتجاج على العبد لو اعتذر باحتمال كونـه تخييريّاً ; لأنّ البعث الصادر منـه لابدّ لـه من الجواب بإتيان متعلّقـه ، ولكن هذا لايثبت التعيّنيـة ، كما تقدّم .
السادس:
التمسّك بإطلاق الجزاء .
وينبغي التنبيـه على اُمور :
الأمر الأوّل: في حقيقـة المفهوم
إنّ المراد من المفهوم إنّما هو انتفاء سنخ الحكم ونوعـه عند انتفاء الشرط ، لا انتفاء شخصـه المجعول مترتّباً على وجود الشرط ، فإنّـه ينتفي بانتفاء الشرط عقلاً .