(الصفحة 124)
سلّم فإنّما هو بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي ، مع إمكان أن يقال بعدم استحا لـة خلوّها عن الحكم بحسب الواقع أيضاً ; فإنّ الإباحـة التي منشأها عدم تعلّق حكم شرعي بـه بمعنى أنّ جواز فعلـه لعدم تعلّق النهي التحريمي ولا التنزيهي بـه وجواز تركـه ; لعدم تعلّق الأمر الوجوبي ولا الاستحبابي بـه أيضاً في الحقيقـة ليست بحكم .
نعم الإباحـة التي منشأها خلوّ الفعل عن المصلحـة والمفسدة أو تساويهما الراجعـة إلى جعل الشارع إيّاها لذلك ، حكم من الأحكام الخمسـة ، بخلاف الإباحـة با لمعنى الأوّل ، كما لايخفى .
وأمّا بطلان الثا لثـة : فقد عرفت تفصيلـه ، وأنّ الأمر با لشيء لايقتضي النهي عن نقيضـه ، لابنحو العينيـة ، ولا على طريق الجزئيـة ، ولا على سبيل اللزوم ، فتأمّل جيّداً .
الأمر الرابع: في ثمرة المسألـة
اعلم أنّ المشهور ذكروا في ثمرة القول بالاقتضاء وعدمـه أنّ القول بالاقتضاء بضميمـة أنّ النهي في العبادات يوجب البطلان ينتج بطلان الضدّ لو كان عبادةً ، بخلاف القول با لعدم .
هذا ، ولكن لايخفى انتفاء الثمرة وصحّـة العبادة حتى على القول بالاقتضاء ، فإنّك عرفت أنّ منشأ القول بالاقتضاء إمّا توهّم مقدّميـة ترك الضدّ لفعل الضدّ الآخر ، وإمّا توهّم الملازمـة بينهما ، وعلى التقديرين لايثبت بطلان العبادة .
أمّا على تقدير المقدّميـة : فلأنّ النهي الناشئ من جهتها نهي مقدّمي غيري ، والنهي الذي يؤثّر في بطلان متعلّقـه إذا كان عبادةً هو النهي الذي كان عن ملاك
(الصفحة 125)
من المفسدة في المنهيّ عنـه .
وأمّا مجرّد تعلّق النهي بشيء لا لأجل اشتما لـه على مفسدة ملزمـة ، بل لغرض التوصّل إلى شيء آخر ، فلايكون مؤثّراً في البطلان ، فإنّ الوجـه فيـه هو امتناع أن يكون ما هو المبغوض الذي يوجب البُعد عن المولى مقرّباً للعبد منـه ، كما لايخفى ومن المعلوم أنّ هذا لايتحقّق في النهي الغيري ، فإنّ المنهيّ عنـه بهذا النهي لايكون مبغوضاً للمولى أصلاً ، وأداء فعلـه إلى ترك مطلوبـه لايوجب مبغوضيـة ذلك الفعل ، بل المبغوض هو ترك المطلوب لا ما يؤدّي إليـه ، كما هو واضح .
ومن هذا يظهر أ نّـه لو قلنا بالاقتضاء من جهـة الملازمـة فلايستلزم النهي الناشئ من جهـة الملازمـة بطلان المنهي عنـه أصلاً ; فإن تعلّق النهي بسبب الملازمـة لايوجب مبغوضيـة متعلّقـه في حدّ ذاتـه حتّى يمتنع أن يكون مقرّباً ، كما هو واضح ، فا لثمرة منتفيـة ، والعبادة صحيحـة مطلقاً قلنا بالاقتضاء أم لا ، وعلى الأوّل لا فرق بين أن يكون الاقتضاء مستنداً إلى المقدّميـة أو إلى الملازمـة .
هذا ، وحكي عن البهائي وجماعـة أ نّهم أنكروا الثمرة وحكموا ببطلان العبادة مطلقاً(1) ; نظراً إلى أنّ صحّتها متوقّفـة على تعلّق الأمر الفعلي بها ، وحينئذ فلو لم نقل بالاقتضاء وأنّ الضدّ يصير منهيّاً عنـه فلا أقلّ من عدم تعلّق الأمر الفعلي بـه ; لامتناع تعلّق الأمر با لمتضادّين ، فبطلانـه لو كان عبادةً يستند على هذا إلى عدم تعلّق الأمر بـه ، كما أنّ بطلانـه بناءً على الاقتضاء مسبّب عن تعلّق النهي بـه ، فا لضدّ العبادي باطل على أيّ تقدير .
- 1 ـ زبدة الاُصول: 98 ـ 99، هدايـة المسترشدين: 244 / السطر 39 ـ 41.
(الصفحة 126)
واُجيب عنـه بوجهين:
أحدهما:
ما ذكره في الكفايـة من منع كون صحّـة العبادة متوقّفةً على تعلّق الأمر الفعلي بها ، بل يكفي مجرّد المحبوبيـة للمولى ، والضدّ بناءً على عدم حرمتـه يكون كذلك ، فإنّ المزاحمـة على هذا لايوجب إلاّ ارتفاع الأمر المتعلّق بـه فعلاً مع بقائـه على ما هو عليـه من ملاكـه ; لعدم حدوث ما يوجب مبغوضيتـه وخروجـه عن قابليـة التقرّب بـه كما حدث بناء على الاقتضاء(1) .
ثانيهما:
عن المحقّق الكركي وجماعـة ممّن تأخّر عنـه(2) من منع إطلاق مقا لـة البهائي ، فإنّها تجري في خصوص المتزاحمين المضيّقين ، وأمّا لو فرض وقوع التزاحم بين مضيّق وموسّع ، كما لو فرض مزاحمـة الصلاة في بعض أوقات وجوبها لواجب آخر مضيّق ، ففي مثل هذا يمكن القول بصحّـة الفرد المزاحم من الصلاة لذلك الواجب ولو قلنا بتوقّف صحّـة العبادة على الأمر .
جواب آخر على مسلك الترتّب
ثمّ إنّـه تصدّى جماعـة من الأفاضل لتصحيح الأمر با لضدّين بنحو الترتّب بأن يكون الأمر بالأهمّ مطلقاً غير مشروط والأمر با لمهمّ مشروطاً بعصيان الأمر الأوّل بنحو الشرط المتأخّر ، أو با لبناء على معصيتـه(3) ، ولايخفى أنّ اشتراط ا لأمر با لمهمّ با لعصيان أو با لبناء عليـه لايكون اشتراطاً شرعيّاً .
وتوضيحـه يتوقّف على بيان مقدّمات :
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 165 ـ 166.
- 2 ـ جامع المقاصد 5: 13، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 312.
- 3 ـ جامع المقاصد 5: 12 ـ 13، كشف الغطاء: 27، درر الفوائد، المحقّق الحائري: 140.
(الصفحة 127)
الاُولى:
أ نّـه لا إشكال في أنّ متعلّق الأوامر والنواهي هي الطبائع لا الأفراد ، كما سيأتي تحقيقـه .
الثانيـة:
المراد بالإطلاق هو أخذ الطبيعـة في مقام جعل الحكم عليـه مطلقـة غير مقيّدة بشيء من القيود بمعنى أنّ المتكلّم المختار إذا صار بصدد بيان بعض الأحكام ولم يأخذ في موضوعـه إلاّ الطبيعـة المعرّاة عن القيود ، يستكشف من ذلك أنّ تمام الموضوع لذلك الحكم هي نفس الطبيعـة بلا مدخليـة لشيء في ترتّبـه أصلاً ، فمعنى الإطلاق ليس هو لحاظ سرايـة الحكم إلى جميع أفراد الطبيعـة حتّى يتّحد مع العموم في النتيجـة ، وهي ثبوت الحكم لجميع أفراد الطبيعـة ; لأنّـه ليس في الإطلاق لحاظ الأفراد ، بل لايعقل أن تكون الطبيعـة مرآةً وكاشفةً لوجوداتها التي ستحقّق بعد انضمام سائر العوارض إليها فإنّ لفظ الإنسان مثلاً لم يوضع إلاّ لنفس ماهيـة الحيوان الناطق ولايعقل أن يحكي عن أفراد تلك الطبيعـة بعد عدم كونـه موضوعاً بإزائها ، كما هو واضح .
وبا لجملـة ، فليس معنى الإطلاق إلاّ مجرّد عدم مدخليّـة شيء من القيود بلا ملاحظـة الأفراد ، كما هو واضح .
الثالثـة:
أنّ المزاحمـة الحاصلـة بين الأمر بالأهمّ والأمر با لمهمّ كالأمر بإزا لـة النجاسـة عن المسجد والأمر با لصلاة ليست متحقّقةً في مرحلة تعلّق الأمر بهما ; إذ ليس الأمر لطبيعـة الصلاة مزاحماً للأمر لطبيعـة الإزا لـة أصلاً ، كما لايخفى ، وليسا كالأمر با لنقيضين ، بل المزاحمـة بينهما إنّما تتحقّق بعد تعلّق الأمر وحصول الابتلاء بمعنى أ نّـه إذا ابتلى المكلّف بنجاسـة المسجد في زمان كونـه مأموراً بالأمر الصلاتي تحصل المزاحمـة بينهما ، ومن المعلوم أنّ الترتّب والاشتراط الذي يقول بـه القائل با لترتّب إنّما هو بعد تحقّق المزاحمـة المتأخّرة عن مرحلـة الأمر ، كما عرفت .
وحينئذ فنقول : إنّـه كيف يمكن أن يكون أحد الأمرين مشروطاً بسبب
(الصفحة 128)
ا لمزاحمـة التي تتحقّق بينهما بعداً ؟ ! بعدما عرفت من أنّ معنى الإطلاق هو أخذ الطبيعـة المرسلـة موضوعاً للحكم ومتعلّقاً للأمر بلا ملاحظـة الأفراد ولا الحالات التي من جملتها في المقام حال الابتلاء با لضدّ الواجب .
وبا لجملـة ، فالآمر في مقام الأمر لم يلاحظ الحالات بخصوصها حتّى صار بصدد علاج المزاحمـة الحاصلـة في بعض الحالات المتأخّرة عن الأمر ، كما هو واضح ، وعلى تقدير تسليم عدم الامتناع عقلاً نقول : إنّ ذلك غير واقع ; إذ ليس في الأدلّـة الشرعيـة ما يظهر منـه تقييد الأمر با لمهمّ واشتراطـه كما يظهر با لمراجعـة .
فانقدح من جميع ذلك:
أ نّـه لو كان المراد بالاشتراط اشتراطاً شرعياً ، يرد عليـه امتناعـه ، وعلى تقدير التسليم عدم وقوعـه فلايفيد أصلاً ، كما لايخفى ، فيجب أن يكون المراد بالاشتراط اشتراطاً عقليّاً .
تحقيق في الجواب على مسلك الخطابات القانونيّـة
وتنقيح الكلام في هذا المقام بحيث يظهر منـه صحّـة الاشتراط ولزومـه أو عدمهما يتوقّف على رسم مقدّمات :
الاُولى:
أ نّـه ليس للحكم إلاّ مرتبتان : مرتبـة الإنشاء ومرتبـة الفعليـة ، بل نقول : إنّهما ليستا مرتبتين للحكم بأن يكون كلّ حكم ثابتاً لـه هاتان المرتبتان ، بل هما مقسمان لطبيعـة الحكم بمعنى أنّ الأحكام على قسمين : أحدهما : الأحكام الإنشائيـة ، وثانيهما : الأحكام الفعليـة ، والمراد بالاُولى هي الأحكام التي لم يكن فيها ما يقتضي إجراءها بعد جعلها بل اُوحي إليها إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأودعها(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الأئمّـة (عليهم السلام) حتّى يظهر قائمهم(عليه السلام) ، فيجريها ، كما أنّ المراد با لثانيـة هي القوانين والأحكام التي قد اُجريت بعد الوحي ، وهي الأحكام