(الصفحة 402)الأمر الرابع
حكم الظنّ في المقام
قد عرفت حكم القطع المأخوذ في موضوع نفس الحكم المقطوع بـه أو مثلـه أو ضدّه ، فاعلم : أنّ حكم الظنّ أيضاً مثلـه ، فيجوز أن يكون مأخوذاً موضوعاً تامّاً لنفس الحكم المظنون أو لضدّه أو مثلـه ; لعدم لزوم الدور أصلاً ، وعدم لزوم اجتماع المثلين أو الضدّين .
نعم ، لو كان مأخوذاً في الموضوع ناقصاً ; بحيث كان الموضوع مركّباً منـه ومن ا لشيء المظنون . وبعبارة اُخرى : كان قيد الإصابـة معتبراً فيـه فلايجوز أصلاً ; للزوم الدور فيما إذا كان مأخوذاً في موضوع نفس ذلك الحكم المظنون ، ولزوم اجتماع المثلين أوا لضدّين فيما إذا كان مأخوذاًفي موضوع مثل ذلك الحكم أو ضدّه .
ثمّ لايخفى أنّ التعبير بكلمـة التضادّ إنّما هو لأجل متابعتهم ، وإلاّ فقد عرفت في بعض المباحث المتقدّمـة أنّ ما اشتهر بينهم من كون النسبـة بين الأحكام هي التضادّ ممّا لا وجـه لـه ، ولعلّـه يجيء فيما بعد ، ولكن ذلك لايضرّ بعدم الجواز في مورد اجتماع الحكمين ; لأنّ اجتماعهما مستحيل ، ولو لم نقل بثبوت التضادّ ، كما لايخفى .
(الصفحة 403)الأمر الخامس
الموافقـة الالتزاميـة
هل القطع با لحكم يقتضي وجوب الموافقـة الالتزاميـة ، كما يقتضي وجوب الموافقـة العمليـة أم لا ؟
والتحقيق أن يقال:
إنّ الموافقـة الالتزاميـة الراجعـة إلى عقد القلب والالتزام بشيء ، والانقياد والتسليم لـه إنّما هي من الأحوال القلبيـة والصفات النفسانيـة ـ كا لخضوع والخشوع والرجاء والخوف ونظائرها ـ وتحقّق تلك الأوصاف وتحصّلها في النفس إنّما يكون قهرياً ; تبعاً لتحقّق مبادئها ، ويستحيل أن توجد بدون حصول المبادئ ; لأنّها ليست من الأفعال الاختياريـة الحاصلـة بالإرادة والاختيار ; لأنّها تابعـة لمبادئها ، فإذا حصلت تتبعها تلك الحالات قهراً ، وإذا لم يحصل لا تتحقّق أصلاً .
مثلاً العلم بوجود المبدء وعظمتـه وجلالتـه يوجب الخضوع والخشوع لـه تعا لى ، ولايمكن أن يتخلّف عنـه ، كما أنّ مع عدم تحقّقـه يمتنع أن يتحقّقا ; لوضوح استحا لـة عقد القلب على ضدّ أمر محسوس ، كالالتزام القلبي بعدم كون النار حارّة ، والشمس مشرقـة ، وكما لايمكن ذلك لايمكن الالتزام بضدّ أمر
(الصفحة 404)
تشريعي .
وا لمراد من الكفر الجحودي في قولـه تعا لى :
(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُم)(1) ليس الالتزام على خلاف اليقين الحاصل للنفس ، بل هو مجرّد ا لإنكار اللساني . ومن هنا يظهر أنّ ما اشتهر بينهم من حرمـة التشريع ممّا لا محصّل لـه إن كان المراد من التشريع هو البناء القلبي على كون حكم من الشرع مع العلم بأنّـه ليس منـه . وبا لجملـة : أنّ الموافقـة الالتزاميـة ليست من الاُمور الاختياريـة ، حتّى يبحث في وجوبها وعدمـه .
وحكي عن بعض الأعاظم:
أنّـه قال بثبوت التجزّم في القضايا الكاذبـة ، وأنّـه هو المناط في صيرورة القضايا ممّا يصحّ السكوت عليها ، وأنّ العقد القلبي على طبقها يكون اختيارياً(2) .
ووجّهـه بعض المحقّقين من المعاصرين بأنّ مراده : أنّـه كما أنّ العلم قد يتحقّق في النفس بوجود أسبابـه ، كذلك قد يخلق النفس حا لـة وصفـة على نحو العلم ، حاكيـة عن الخارج ، فإذا تحقّق هذا المعنى في الكلام يصير جملـة يصحّ السكوت عليها ; لأنّ تلك الصفـة الموجودة يحكي جزماً عن تحقّق النسبـة في الخارج(3) .
ويرد عليـه:
أنّ العلم والجزم ليسا من الاُمور الاختياريـة ، فإنّهما من الاُمور التكوينيـة التي لا تتحصّل إلاّ بعد تحقّق أسبابها ; لوضوح استحا لـة الجزم مثلاً بأنّ الواحد ليس نصف الاثنين ، كما لايخفى . وأمّا القضايا الكاذبـة فإنّما هي بصورة الجزم . والمناط في صحّـة السكوت هو الإخبار الجزمي ، لا الجزم
- 1 ـ النمل (27): 14.
- 2 ـ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 70.
- 3 ـ نفس المصدر.
(الصفحة 405)
ا لقلبي ; ولذا لو أظهر المتكلّم ماهو المقطوع بـه بصورة الترديد لا تصير القضيّـة ممّا يصحّ السكوت عليها . وبا لجملـة : فلاريب في عدم كون الموافقـة الالتزاميـة ونظائرها من الاُمور القلبيـة تابعاً في تحقّقـه للإرادة والاختيار أصلاً .
ثمّ إنّـه بناءً على ما ذكرنا من كون الموافقـة الالتزاميـة ليست من الاُمور الاختياريـة ، بل إنّما تتحقّق قهراً عند حصول مبادئها تكون الموافقـة الالتزاميـة على طبق العلم بالأحكام ، فإن كان العلم متعلّقاً بحكم تفصيلاً يكون الالتزام بـه أيضاً كذلك ، وإن كان العلم إجما لياً يكون الالتزام أيضاً كذلك ، كما أنّ الالتزام قد يكون با لحكم الظاهري ، إذا كان العلم أيضاً متعلّقاً بـه ، وقد يكون با لحكم الواقعي ، إذا كان متعلّقاً للعلم . وكما أنّ جعل الحكم الواقعي والظاهري في مورد واحد ، وتعلّق العلم بهما ممّا لا مانع منـه ، كذلك الالتزام بهما في ذلك المورد ممّا لا مانع منـه أصلاً .
ومن هنا يظهر:
أنّـه لا مانع من قبل لزوم الالتزام في جريان الاُصول في أطراف العلم الإجما لي ، كما أنّ جريانها لايدفع الالتزام با لحكم الواقعي ; لأنّـه تابع للعلم بـه ، وجريانها لاينافيـه أصلاً . وبا لجملـة : فمسألـة جريان الاُصول في أطراف الشبهـة المحصورة لا ارتباط لها بمسألـة الموافقـة الالتزاميـة ، كما لايخفى .
(الصفحة 406)الأمر السادس
أحكام العلم الإجمالي
قد عرفت : أنّ العلم التفصيلي يكون علّـة تامّـة لتنجّز التكليف ، فهل القطع الإجما لي أيضاً كذلك ، أم لا ؟ ولايخفى أنّ الكلام فيما يتعلّق با لعلم الإجما لي يقع في مقامين : أحدهما فيما يرجع إلى ثبوت التكليف بـه ، وثانيهما فيما يتعلّق بمرحلـة سقوط التكليف بـه .
المقام الأوّل: في تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي
فقد يقال بأنّ العلم الإجما لي لايؤثّر في تنجّز التكليف أصلاً ، ويكون حا لـه حال الشبهـة البدويـة ; لأنّ موضوع حكم العقل في باب المعصيـة هو ما إذا علم المكلّف حين إتيانـه أنّـه معصيـة فارتكبـه ، ومن المعلوم أنّ المرتكب لأطراف العلم الإجما لي لايكون كذلك ; لأنّـه لايعلم با لمعصيـة إلاّ بعد إتيان جميع الأطراف في الشبهـة المحصورة التحريميـة(1) .
- 1 ـ اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 75.